أشدُّ فِراق وأعظم وصال

لقد غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين غزوة وأرسل واحدا وتسعين سريَّة. وتجذَّرت شجرة الإسلام بفتح مكة، واكتمل الدين المبين بنزول قوله سبحانه وتعالى

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}

فآنَ أوان أشد فراق وأعظم وصال

وزار حبيب الله صلى الله عليه وسلم مقبرةَ البقيع، واستغفر لأهلها قبل يوم من مرضه، فكأنه بذلك ودَّع الأموات. وبعد أن رجع من البقيع خطب في الصحابة ووصَّاهم وصاياه الأخيرة، ثم قال

«إن الله خيَّرَ عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله»

ففطن سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ذو القلب الرقيق أنه صلى الله عليه وسلم يودِّعهم، فحزن أشد الحزن، وبدأت الدموع تنهمر من عينيه، وقال

«بأبي أنت وأمي، بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا»

فلم يفطن أحد من القوم إلا هو رضي الله عنه، كيف لا وهو رضي الله عنه مَن ذكره سبحانه وتعالى في قوله

{ثَانِيَ اثْنَيْنِ}

فلما رأى الصحابة صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يبكي، قال بعضهم لبعض

«ما يُبكي هذا الشيخ إن يكن الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله!»

لقد أحسَّ قلبُ سيدنا أبي بكر رضي الله عنه الرقيقُ الوداعَ والفراق، فشرعَ يبكي كالشاكي من البُعد والافتراق

وقد حزنت السيدة فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء الجنة بوفاة أبيها الكريم نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام حزنًا شديدًا، حتى إنها أخذت قبضة من تراب قبره الشريف، وشمَّته، ووضعته على عينها ثم أنشأت تقول

مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدَ...أَلا يَشُمُّ مَـدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا

صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبُ لَوْ أَنَّهَا... صُبَّتْ عَلَى الأَيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا

لقد ترك رسول الله عليه الصلاة والسلام أمانتَين عظيمتَين لن نضل ما إن تمسكنا بهما: القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ فهما دليل السعادة في الدنيا والآخرة، وإرث من نور الوجود يدوم إلى اليوم الموعود

وانتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى «الرفيق الأعلى» بعد ثلاثة عشر يوما من رجوعه إلى المدينة عانى فيها من مرض شديد، وكانت وفاته يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11 للهجرة الموافق للثامن من حزيران سنة 632 م

ولما انتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى دار القرار، لم يرَ الصحابة أي تغيُّر في وجهه المبارك حتى إنهم شكُّوا في موته. فخرجت من بينهم أسماء بنت عميس رضي الله عنها فوضعت يدها بين كتفي النبي عليه الصلاة والسلام، وقالت

«قد توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام، قد رفع الخاتم من بين كتفيه»

ذلك الخاتم الذي كان كثير من الصحابة الكرام يودون لو أنهم استطاعوا تقبيله

لقد اكتمل الدين، وأقر الصحابة أنه عليه الصلاة والسلام قد بلَّغ ما كُلِّف به، وشَهِد الله تعالى على ذلك، ثم دُعِيَ نور الوجود إلى دار الخلود

وسيرتقب عليه الصلاة والسلام أمتَه في المحشر والصراط وعند الحوض، فنسأل الله العلي القدير أن يشفع لنا حينها

*

لقد وُلد رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول فأشرقت الدنيا بولادته

وكلَّفه الله سبحانه وتعالى بالنبوة يوم الاثنين

عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عن صوم يوم الاثنين؟ قال

«ذاك يوم ولدت فيه، ويومٌ بعثت- أو أنزل عليَّ- فيه»

وفي صباح الاثنين دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ،  فأقام في ذلك اليوم أساس دولة الإسلام الناشئة التي ستبقى حتى قيام الساعة

ويوم الاثنين توفي عليه الصلاة والسلام وانتقل إلى جوار ربِّه

عن ابن عباس v قال

وُلِدَ النبي عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين، واستُنبِىءَ يوم الاثنين، وتُوفِّيَ يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين، وفتح بدرًا يوم الاثنين، ونزلت سورة المائدة يوم الاثنين {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...}

لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون ولادته عليه الصلاة والسلام ونبوَّته وهجرته وارتحاله يوم الاثنين، فكان ذلك دليلًا على قدسية هذا اليوم وأهميته. واختلطت المسَرَّة والسعادة بالكآبة والحزن تجليًا من تجليات رب العزة الجمالية والجلالية، وامتزجت في القلوب نشوة الوصال بألم الفراق

ويعبِّر حضرة الشيخ عزيز محمود هدائي عن غدر الدنيا التي صارت محرومة من رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى دار الجنان بقوله

مَن ذا الذي يأمل منكِ الوفاء؟

ألستِ الدنيا الكاذبة؟

ألست من أخذتِ محمدًا المصطفى؟


أصل التصوف

لقد أفاض الله تعالى على الناس نعمًا لن يحصوها، ومن أسمى هذه النعم مدده الإلهي لجسد الإنسان وروحه، حيث نفخ فيهم من روحه، بقوله تعالى

(وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (الحجر، 29)

وبهذا خص الله تعالى البشرية بأثمن جوهرة نزلت من السماء، ووهبهم أنبل المعاني، وأرفع القِيَم، والمقابل البسيط الذي أراده منهم -وفاءًا لهذا العطاء- أن يكونوا عبادًا محبين لذاته، مخلصين لوحدانيته؛ فيواصلون أخذ نصيبهم من معرفته، والنهل من نبع محبته، والوصال مع حضرته

ومن المنح الإلهية لبني الإنسان أن كرَّمهم بمجموعة من الصفات الراقية التي تسمو بهم إلى طريق الهداية. ليس هذا فحسب، بل أمدهم مِن نبع فضله باختيار خاصة الخاصة من بينهم، وهم الأنبياء، وأنزل عليهم الوحي؛ ليكون البلاغ مهمتهم، وحين ينقضي زمن النبوة والأنبياء، يأتي دور ورثة الأنبياء، وهم العباد الصالحون الذين لا يخلو منهم زمان

وقد بدأ إرسال الأنبياء الهداة مع بدء خلق الإنسان، فكان أول البشر هو أول الأنبياء، لتكون الهداية من البدء إلى المنتهى

إن طريق الهداية المباركة هذا، الذي تدفق من فيض القدرة الإلهية كشعاع النور، وتسلسل عبر حوالي مئة وعشرين ألف نبي بدؤوا هذا الطريق، وواصلوه واحدًا تلو الآخر، جاء متوازيًا مع تطور حياة الإنسان ومكملاً لها، وهذه السلسلة التي استمرت في التبليغ -وبالتوافق مع خصوصيات كل عصر، ومستوى المخاطبين فيه- وصلت في نهاية الأمر إلى مستوى الكمال والذروة مع قدوم سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم

لقد ظهر نبينا صلى الله عليه وسلم بنوره قبل سيدنا آدم عليه السلام، وكان آخر نبي بجسده، أي إنه يمثل الصفحة الأولى والأخيرة من كتاب النبوة، وبعبارة أخرى، بدأت رسالة النبوة بالنور المحمدي، ووصلت إلى نهايتها بالجسد المحمدي، وبهذا يكون النبي محمد صلى الله عليه وسلم النبي الخاتم زمنًا، والأول خَلقًا

وبما أن الدافع لخلق الموجودات كلها هو النور المحمدي، فإن الحق تعالى أحيا النبي محمداً صلى الله عليه وسلم حياة مثالية نموذجية، أو بالتعبير القرآني «حياة طيبة» لينال بجدارة لقب «حبيب الله». لقد أكرم ربنا الإنسانية جمعاء بأن جعل النبي صلى الله عليه وسلم هدية وهاديًا وسراجًا منيرًا، وذلك بعد أن ربَّاه في حياته الاستثنائية الخاصة ظاهرًا وباطنًا على أكمل وجه

لقد جعل الله تعالى من السيرة النبوية المباركة، ومن شخصية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم النموذج الأرقى والأسمى للسلوك البشري الذي تحاول الإنسانية الدنو منه والاقتداء به، كل إنسان حسب جهده واجتهاده، مهما كانت قدرته ومنزلته، فالله تعالى قد جعل الإنسان الكامل محمدًا صلى الله عليه وسلم هو «الأسوةَ الحسنة» للبشر جميعًا في الأخلاق والسلوك، وهو الذي رسم وسار في المنهاج الذي تستطيع البشرية كلها السير فيه

لقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم حياته من أدنى نقطة، وهي العجز البشري عندما كان طفلاً يتيمًا، ومر بكل ما يمكن تخيله من مراحل ومحطات الحياة البشرية ومنعطفاتها؛ حتى أوصله الله تعالى إلى أعلى المستويات المادية والمعنوية؛ المادية من حيث النفوذ والسلطة والقدرة ورئاسة الدولة، والمعنوية من حيث النبوة والرسالة

ووفق هذا المنهاج النبوي الذي يصلح لكل زمان ومكان، ويصلح لكل أنواع الناس، يستطيع كل بني البشر السير في هذا الطريق، ومواصلة هذا المنهاج؛ متخذين من النموذج النبوي المثالَ والقدوة، وآخذين منه المدد المادي والمعنوي؛ بل يستطيع الجميع أن يطمع ويطمح إلى الوصول إلى درجة النجم السماوي الذي يستمد نوره من الكوكب الدري المحمدي

لقد خلق الله رسوله صلى الله عليه وسلم وجعل من مجمل حياته وتفاصيلها في الأفعال والأقوال والحركات والسكنات نموذجًا يُحتذى، وأسوة تُقتدى، فقال الله تعالى

(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) (الأحزاب، 21)

وذلك لكي تصل البشرية إلى حالة نموذجية في كمال السلوك الأخلاقي والإيماني، وبتعبير أدق إلى كمال السلوك الصوفي، لأن هذا الكمال يبدأ بالاتباع وفق مقدرة العبد وطاقته، ويتدرج ليصل في نهاية المطاف إلى إتقان الاتباع وحقيقة التأسي، ويكون ذلك بمقدار محبة النبي صلى الله عليه وسلم، واتباع سنته، ومن ثمَّ نكون أهلاً لتنزُّل الفيوضات الروحانية، والتجليات العلوية التي لا تنقطع، وذلك هو شرف الدنيا والآخرة

لقد خلق الله تعالى فخر الكائنات سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم بأفضل فطرة ظاهريًا وباطنيًا، ورباه أحسن تربية، وقد بين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هذه التربية الإلهية حين قال

«أدبني ربي فأحسن تأديبي»

هذا الإنسان الكامل صلى الله عليه وسلم منذ أن شرف العالم بمولده، عاش أربعين سنة في مجتمع جاهلي مكتظ بالأرجاس والأدناس والظلمات، لكنه صلى الله عليه وسلم كان دائمًا محميًا في بوتقة الحماية الإلهية، يترعرع في كنف الرعاية الربانية، ولم يصبه قط لفح لهيب الجاهلية، ولا مسه قط هبوب سمومها، فقد حصَّنه الكنف السماوي ليعده الإعداد الرباني للمهمة النبوية، إذ شُقَّ صدره ومُلئَ بالحكمة، ثم استُخرِج قلبه وانتزع منه حظ الشيطان، ولم يعد في الصدر والقلب الشريفين مكان ولا أثر للمؤثرات الدنيوية؛ بل صار موئلاً للفيوضات الربانية والأنوار الإلهية، وموطنًا للسكينة والإيمان والحكمة، والرأفة والرحمة

وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نبوته حياة فحواها ومبناها ومعناها توحيد صادق، لا سيما في الأوقات التي قرب فيها تكليفه بالرسالة؛ حين نذر نفسه ليكون عبدًا خالصاً لله عزَّ وجل، فقد كان يعتزل في جبل النور بين الحين والآخر، ويستغرق في تفكر عميق، وكان سبب الانعزال في الظاهر أنه باخع نفسه على آثار قومه، نتيجة انتشار الضلال والظلم والبؤس، إضافة إلى شعوره تجاههم بالرأفة والرحمة

أما السبب الحقيقي للانعزال، فهو تهيئة الله تعالى له لتلقي الوحي الإلهي؛ ألا وهو القرآن الكريم من الله تعالى إلى القلب المحمدي الطاهر، وانتقاله للإدراك البشري، وحين وصل قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الدنيوي إلى النقاء الحقيقي بهذا التجلي والإلهام، ارتقى إلى مستوى يمكِّنه من تلقي الوحي

وكان قبل البعثة يتلقى الإشارات المعنوية والإلهامات على شكل رؤى صادقة على مدى ستة أشهر، وبذلك كُشِفت له أسرار العالم الروحاني، وكانت هذه المرحلة مرحلة تهيئة استعداده الفطري لتلقي الوحي الإلهي، وحمل المسؤولية الثقيلة التي يستحيل أن يحملها الأشخاص العاديون،  وكانت أشبه بعملية تحويل الحديد إلى فولاذ بواسطة المزايا الطبيعية التي يمتلكها المعدن، إنها المزايا البشرية نفسها، ولكن بمؤثرات ربانية

بهذا التحول جمع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في شخصيته وسلوكه جميع فضائل الأنبياء، ومهامهم، وكراماتهم، وكفاءاتهم، فقد وصلت أصالة النسب والأدب والسعادة الجمالية والكمالية فيه إلى ذروتها، وقد جمع صلى الله عليه وسلم في دعوته بين الحقيقة والشريعة، أي بين التكاليف الشرعية والحقائق الصوفية، وكان قدوة للعباد في العبادة؛ وقدوة للزهاد في تطهير القلب، وتزكية النفس، وعلَّم أصحابه السلوكين الظاهري والباطني، كما علَّمهم كيفية الدعاء والتعبد بالقول والعمل والسلوك الشرعي، وبالقلب والنفس والشعور الصوفي، وكان لهم وللبشرية كلها النموذج الأسمى في الطريقين، وكانت البشرية على موعد لتبلغ نقطة تحول جذري في مصيرها ومسيرها، عندما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم عامه الأربعين، وتلقى التكليف بالرسالة الخاتمة

*

والتصوف في جوهره هو الوصول إلى حالة يكون فيها القلب سليمًا، يتلقى فيها المعرفة عن الله تعالى، والمحبة من معيتها، ويدنو رويدًا رويدًا من الحضرة الإلهية لينعم بوصال الله تعالى؛ فهذا الدنو هو نضج إيماني على نار المحبة، ونور المعرفة، ولذة القرب، وهذا النضج هو طريق النجاة الذي اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم وبدأه في غار حراء، ثم في غار ثور، وأورثنا إياه، ثم واصل صلى الله عليه وسلم طريق الرقي، ومعراج الوصول في أزمنة وأمكنة أخرى، ومواقف تربوية ربانية عبر الوحي، مما شكل الروافد الفياضة لتطهير القلب وتزكية النفس

ومع أنه صلى الله عليه وسلم كان قد وصل قبل الوحي إلى درجة قلبية سامية، ومرتبة روحية سامقة، وعاش حياة منزهة في ظل أخلاق مثالية؛ إلا أنه انطلق بعد نزول الوحي إلى آفاق أرحب، ومن سماء إلى سماء، حيث اللانهائية في ملكوت الله، فقد اتصل بِربه جلَّ وعلا بقلب ثابت وجنان قوي، ويقين راسخ، واستوعبت جزئياته البشرية نور التوحيد الإلهي، فكان بشرًا رسولاً وصل إلى أقصى آماد التقوى والخشوع في عبوديته، ولم تمنعه هذه المكانة في العبودية من مواصلة العبادة في آناء الليل وأطراف النهار؛ حتى تنتفخ قدماه، وتفيض عيناه، فإذا كَلَّ الجسد ونامت العينان؛ ما كان الفؤاد لينام وإنما كان دائم اليقظة، ذاكرًا شاكرًا مراقبًا لله تعالى

حتى إنه صلى الله عليه وسلم صار عبر حياته وسلوكه سلسلة لا تنقطع من المعجزات؛ بل امتدت هذه المعجزات من خلال أقواله وأفعاله وسنته عبر العصور والأجيال، وما تزال تتحدى العلوم الحديثة في كل تفاصيلها وحركاتها وسكناتها

وصار القرآن الكريم الذي أُنزل على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إعجازًا في كل حرف من حروفه، وما احتواه من علوم وحكمة وهدى، ثم صار الاثنان - القرآن ومن أُنزل عليه القرآن - إعجازًا ربانيًا في التربية والسلوك والأخلاق، تتمنى البشرية كلها أن تصل إلى أعتابه

كانت هذه التربية المعجزة على المنهج القرآني المعجز، هي التي أوصلت النبي صلى الله عليه وسلم إلى درجة متناهية من النضج القلبي والروحاني، وأهَّلته أن يصل إلى مكان ومكانة لم يصلها كبار الملائكة حتى أمين الوحي جبريل، وصار النبي صلى الله عليه وسلم «المسافر إلى الغيب» في رحلة المعراج، التي كانت هدية منقطعة النظير بين الحبيب والمحبوب، فتجاوز النبي صلى الله عليه وسلم جميع حدود الزمان والمكان، ونزل ضيفًا مكرمًا على ربه تعالى، ولم يكن ثمة وصف لهذه المكانة تصفه لغات الدنيا، إلا قوله تعالى

(قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (النجم، 9)

إذ فاقت هذه الرحلةُ -رحلةُ الإسراء والمعراج- حدود الإدراك البشري، وفاقت حدود الزمان والمكان، وكانت الإرادة الإلهية فقط هي التي تضبط ما كان، وتعرفنا أنه بالإمكان فقط لرسول الله - الذي طويت له الآفاق والأعمار والأعصار، وتجاوز صلى الله عليه وسلم العوالم والكرسي والعرش وسدرة المنتهى، ثم كان التجلي الإلهي ورؤية عين الحق بعين اليقين- رؤية الله تعالى بغير ستار، ومخاطبته سبحانه بلا واسطة

ونعود من أقصى آفاق ما بعد الأكوان إلى أسباب خالق الأكوان، وإلى واسطة الوصول ومعراج القبول؛ إنه النضج الروحاني والكمال القلبي، فقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يواصل مهمته في تبليغ الرسالة، وأداء الأمانة، وهداية البشرية جميعًا، وأن يواجه التكتل الظلامي الجاهلي الذي أراد أن يكبت هذا النور في مهده، ويطفئ جذوته، على أن الوعد كان سخيًا، والوعيد كان قويًا، إلا أن الرد المحمدي الواثق كان -على بساطته- قاطعًا وجليًا

أخبر المشركون سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بواسطة أبي طالب أنهم يريدون منه عودته عن دعوته، وكان الجواب النبوي على هذا الطلب دستورًا للثبات على الحق، ودليلًا على رسوخ الإيمان

«يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر؛ حتى يظهره الله أو أهلك دونه، ما تركته»

وبعد أن رُفض العرض الذي قُدّم عبر أبي طالب من المشركين زلزلوا من انبثاق نور الإسلام، جاؤوا هذه المرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجرؤوا على تقديم العرض التالي

«فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا، فنحن نسوِّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نُبرئك منه، أو نُعذِر فيك

فكان رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على زعماء كفار قريش - وكذلك المساومين على الإيمان في كل زمان - بمثابة صخرة إيمان شامخة تتكسر على أعتابها كل موجات المساومة على الدين واليقين، فرفض جميع عروضهم الدنيوية التي قدموها، والتي سيقدمونها

«ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أمولكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن ترُدُّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم

كان هذا الموقف والبيان الذي لا يعتريه أي شك قدوة للإنسانية جمعاء، وأظهر درجة الكمال التي وصل إليها في ثباته على الإيمان، وإدراكه للمسؤولية، وكانت عبوديته خالصة لا تشوبها شائبة، نقّاها الله تعالى كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس

لأن الأصل في هذه العروض والنداءات التي قُدِّمت لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم -والتي ستقدم لكل السالكين على الطريق- كان التخلي عن الآخرة مقابل التنعم بالدنيا، وتاريخ الإنسانية مليء بالأمثلة عن أشخاص باعوا مسؤولياتهم ومثاليّاتهم، وأغراهم السعي وراء الأشياء الفانية والانغماس في الهوى والهوس، وضلوا طريق الحياة الأبدية

وإذا تساءلت عن سر هذا الثبات، ومصدر هذه القوة، ونبراس هذا العالم من المثالية والنورانية؛ تجده القرآن الكريم والسنة النبوية، وما فيهما من المبادئ الجوهرية للإسلام، فالقرآن الكريم يأخذ بيدك إلى معرفة الله تعالى، والثناء عليه، ثم يبدأ معك طريق الهداية بتطهير القلب، وتزكية النفس، والإقبال عليه سبحانه، واللجوء إلى بابه، والاستئناس بجنابه، والاستسلام الكامل لإرادته؛ بعد الأخذ بأسبابه، ثم تأتي السنة المطهرة تطبيقًا عمليًا ميسرًا وكاملاً لمبادئ القرآن وهدايته، وأساليب التطهير وتزكية النفس، والوصول بها إلى عليين

لقد أكرم الله تعالى البشرية جمعاء، وفي مقدمتهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن الكريم الذي هو النداء الإلهي الموجه إلى البشرية، ليحفز حواسه وعقله وفكره، وليدرك ذاته، ويدرك الكون حوله، فيصل إلى معرفة الله تعالى حق المعرفة، عبر معرفة مخلوقاته وكونه المعجز، عبر التفكر والتأمل؛ إذ تصل إلى الصانع من خلال المصنوع، وإلى المسبب من خلال السبب، وتصل إلى الخالق من خلال مخلوقاته

إنها الإشارة الإلهية لطريق الهداية، ولسبيل المحبة، ولأسلوب الذكر والفكر، ولوسيلة التقوى والإحسان، والعيش الدائم في معية الله ورؤيته تعالى بإدراك أنك دائمًا وأبدًا تحت الرقابة الإلهية

فالإنسان هو صفوة المخلوقات التي تلقت النعم الإلهية، وذروة البشرية كلها في هذا السياق هو الوجود المحمدي

والإنسان هو المثل الأعلى لجميع الكائنات، ومن خلال هذا الإنسان نستطيع أن نرى العالم المليء بالمكنوزات اللامتناهية، لهذا فهو يُدعى بـ«العالم الصغير»

فالإنسان يحمل في كينونته سر العالم الكبير، تمامًا كالبذرة التي تحمل سر الشجرة وأصلها، كذلك كالذرة والنواة التي هي اللبنة الأساسية في صرح الكون وسره الأكبر؛ وقد جعل الله الإنسانَ «أشرف المخلوقات» لأنه مدار هذا الكون ومركز حوادثه وأحداثه، فإليه نزلت الرسالات، وله خلقت النار والجنات، وعليه تقوم الساعة ومعه تحشر الكائنات؛ أي إنه محور كل الحادثات

فإذا أدركت حقيقة الإنسان ومكانته في هذا الكون، استطعت أن تدرك مكانة وعظمة الوجود المحمدي الذي هو خير خلق الله تعالى وفخر الكائنات

وإدراك هذه الحقيقة يعتمد على فطنة الإنسان واستعداده وإمكاناته

فهذا هو أبو جهل يلتقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذان هما أبو بكر وعلي رضي الله عنهما يلتقيانه أيضًا، وشتان بين إدبار هذا وإقبال هذين، وهكذا حال الناس بين مقبل ومدبر على مدار الأزمان، فيكون إقبالهم أو إدبارهم وفق المحبة والاستعداد للترقي، لذلك فقد كانت المحبة والعشق من لدن أبي بكر وعليّ رضي الله عنهما هي التي جعلتهما ينالان شرف أول حلقة في السلسلة الذهبية للتصوف

*

إن التصوف هو الاندماج الظاهري والباطني بمنهج سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم الغوص فى بحر محبته الواسع؛ فالتصوف هو تجليات الرسول صلى الله عليه وسلم الظاهرية والباطنية، الداخلية والخارجية؛ أي إنه «حال» الرسول. لذلك يرتكز هدف التصوف الأساسي على الأخذ بنصيب وافر وحظ وافٍ من قبسات الرسول صلى الله عليه وسلم، والاتصال معه في عالم الروحانية

والتصوف بعبارة أخرى هو الإيمان الممزوج بالعشق الإلهي، والعبادة المضمخة بالوجد وجمال السلوك

إن التصوف هو قطرات الندى التي تتساقط بالفيوضات على القلوب المفعمة بمحبة النور المحمدي المبارك، هذه الفيوضات التي بدأت «بالنفخ من روحه» في آدم عليه السلام، والتي وصلت إلى مستوى كمالها في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

ولن تكون قادرًا على استيعاب حقيقة الأهلية والقدرة التي تشكل جوهر التصوف، والتي كانت تنتقل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من القلب إلى القلب ومن الفرد إلى الفرد؛ إلا من خلال معرفة عميقة ومفصلة عن حياة هذا النبي المبارك صلى الله عليه وسلم ومهامه

وكما أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة الأسمى للبشرية في كل نواحي الحياة، فإنه أيضًا المثل الأعلى في تربية الناس وتزكية نفوسهم. وعلى المستوى النبوي، فقد كُلِّف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالكثير من المهام والمسؤوليات، وتأتي في مقدمة هذه المهام التي كلفه الحق تعالى بها أربع مهام أساسية، وهي

تلقي الوحي الإلهي

فقد تلقى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الكلام الإلهي عبر جبريل، وتوقف تلقي الوحي الإلهي - الذي جاء طبقًا للإرادة الإلهية - حين انتقل رسول الله إلى الرفيق الأعلى

 تبيلغ أحكام القرآن الكريم والسنة المطهرة

يشتمل القرآن الكريم على أحكام وحقائق أوضحها وطبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال أحاديثه الشريفة وسيرته العطرة، وأخذ المجتهدون على عاتقهم هذه الأهلية العلمية، ومسؤولية البلاغ والتبيان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

والغرض من شرح الأحكام الإلهية وإيضاحها، هو تقديمها في قالب عملي يتوافق مع الحياة البشرية للوقوف على حاجات العباد، ويسمى هذا العمل الذي يقوم به العلماء المسلمون الموثوقون بـ«الاجتهاد»، وهو عملية مستمرة، ويبقى الاجتهاد ضرورة دائمة حتى حين يغيب أهله، ويتولى وظيفة الاجتهاد هؤلاء العلماء المؤهلون

 تنفيذ المسؤوليات الإدارية

أي القيادة، والوقوف على تطبيق الأوامر والنواهي الدينية على مستوى المؤسسات والدولة، واستمرت هذه المهمة على يد الخلفاء (أولي الأمر) من بعده

تطهير أرواح البشر وتنظيم عوالمهم الداخلية بتزكيتها

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظم العالم الداخلي للناس، ويزكيهم، وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ستستمر هذه المهمة دون انقطاع على يد المشايخ بالصورة نفسها التي يتطلبها استمرار المهام الأخرى، عدا تلقي الوحي الإلهي؛ لأن تطهير المؤمنين لا يقتصر على تطهيرهم من الظاهر فحسب؛ بل يتعدى ذلك إلى الباطن

 وعليه فإن سبب التصوف وأساسه هو استمرار هذه المهام النبوية في كل مكان وزمان، وهي مهام مستمدة من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، لذا؛ فإن استمرار الشيوخ - أرباب التصوف - دون انقطاع هو أمر ضروري واحتياج دائم

*

ونعود من جديد إلى سيدنا أبي بكر الصديق t فهو الحلقة الأولى في السلسلة الذهبية للتصوف

فبعد ثلاثة عشر عاماً من الجهاد في التربية والتزكية والتبليغ والرسالة في مكة المكرمة، كانت الهجرة المباركة، وكان غار ثور إحدى محطات الحياة والطريق، وأحد محاضن التربية والإعداد الإلهي

ففي هذا المكان ظهرت بعض التجليات الإلهية، حيث إن هذا الغار بات مدرسة تفيض بالحكم الإلهية النوعية والانكشافات القلبية

واستمرت الاستضافة فيه ثلاثة أيام بلياليها، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده هناك، فقد كان بصحبته سيدنا أبو بكر t، وهو أشرف الناس بعد الأنبياء، وهو الذي نال شرف وفضيلة الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار على مدى الأيام الثلاثة، فقد كان «ثاني اثنين»، وخاطبه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قائلاً له

(لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا) (التوبة، 40)

تشير هذه الآية الكريمة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم علّم أبا بكر رضي الله عنه سر وجود العبد في معيَّة الله، وهذه الحادثة -وفقًا للعارفين- كانت الظاهرة الأولى لتذكُّر الله تعالى في السر، أي الذكر الخفي، ودلالة على اطمئنان القلب بالله تعالى

 وتركز الصوفية على أن غار ثور يعد المكان الذي بدأ فيه انتقال الأسرار الروحية من القلوب إلى القلوب الأخرى، حسب المفهوم الصوفي

لذا فإن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه هو أول شخصية مسلمة تتلقى التدريب الروحاني مباشرة من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا -فيما يرى الصوفية- هو أحد أهم الأسباب التي تجعل منه الحلقة الأولى بعد الرسول صلى الله عليه وسلم في السلسلة الذهبية إلى قيام الساعة

وعليه بات غار ثور مكانًا خاصًا تواصل فيه العبد مع الله المنزّه عن جميع المفاهيم الزمانية والمكانية، وكان مرحلة مهمة في التربية القلبية الأساسية

ويرى الصوفية أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علّم الذكر الجهري لسيدنا علي رضي الله عنه، ويجب أن يعرف المرء أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطى أورادًا متنوعة لعدد من الصحابة، وأحيانًا شجعهم على  ذكر الله تعالى في جماعة

وهكذا فإن تنوع تطبيق واختيار الأوراد والأذكار، التي هي أهم وسائل التربية الصوفية، هو السبب الأساسي في تنوع أصول وطرائق التربية المعنوية، وهذا يُظهر أن مصدر الطرق الصوفية هو نفسه مصدر المذاهب الفقهية؛ ألا وهو الكتاب والسنة

والتصوف من ناحية تشكيله لجوهر الدين موجود منذ سيدنا آدم عليه السلام حتى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتظهر الكثير من مفاهيم التصوف بالفعل في حياة الأنبياء جميعًا، إلا أن ظهوره علمًا مقررًا، وطريقة نظرية وعملية -كما هو معروف اليوم- وُضع لأول مرة في القرن الثاني للهجرة

ومع أنه لم يكن هناك أي مذهب من مذاهب الكلام أو الفقه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن في الوقت ذاته طبق النبي صلى الله عليه وسلم الأحكام العقائدية والفقهية وعلمها لأصحابه، إذًا فالفقه كان موجودًا، وإن لم تُدون هذا الإرشادات، أو تجمع كمبادئ علمية منظمة خلال عهده صلى الله عليه وسلم. لكن فيما بعد بدأ تلامذة كبار العلماء -مثل علماء الفقه الإسلامي- بجمع اجتهادات المجتهدين، وتصنيفها بعضها إلى بعض، وشكلت هذه العملية بداية ظهور المذاهب الإسلامية؛ حيث جُمعت آراء كل عالم كبير تحت اسمه، ومن هنا نشأ الإرث الإسلامي الذي عرف بمذاهب أهل السنة في الفقه الإسلامي، وهي: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، ثم اتبع المسلمون فيما بعد هذه المذاهب

وكذلك التصوف، يشجع الناسَ على اتباع الأجيال المسلمة الأولى في زهدهم وتقواهم؛ هذه الأجيال التي مارست جوهر التصوف خلال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن لم تقنن قواعده، وتجعله أسلوبا تربويا ذا معالم ثابتة ومكتوبة، فالتصوف إذًا قديم قِدَم الفقه

ومع طول الأمد، ركن المسلمون إلى الدعة، وتركوا جهاد النفس فقست قلوبهم إلا من رحم اللهُ، فثبت على الحق ثلة من الأفذاذ الذين لم يجرفهم تيار الدنيا وخضم الحياة، ووقفوا سدوداً منيعة أمام سيل المادية العارم لينقذوا البشرية ويستأنفوا حياتها من جديد ويمدوا الناس بما يحييهم من دين الله تعالى، فحملوا الأمانة الثقيلة بشموخ كالجبال، ثم أدوها في صبر وتؤدة وموعظة حسنة، وأخذوا بأيدي الناس إلى طريق الله وإلى مجاهدة حظوظ النفس والمكابرة ضد شهوات الدنيا، فصنعوا رجالاً بل أجيالاً من العبَّاد والزهَّاد، ولم يكن هدف هؤلاء العلماء اصطناع طرائق جديدة في التربية والتزكية والتصوف، بل كان هدفهم مجرد التربية والتزكية بأداء العبادات وإجراء المعاملات، والتخلية من الأخلاق الذميمة، والتحلية بالأخلاق الحميدة في ضوء مبادئ القرآن وهدي السنة؛ وصولًا إلى «الإحسان» عبر «الخشوع»، فكان ذلك السلوك من العلماء العاملين، وذلك الاتباع من المريدين السالكين، وهذه الجلسات والحلقات من التوجيه والإرشاد والوعظ والإمداد، فجُمعت هذه الكلمات والمواعظ والإرشادات والسلوكيات والمجاهدات، وتشكَّل من خلالها نظام روحي، هذا النظام كان هو الطرق الصوفية التي كانت كالمدارس والمناهج التربوية التي حملت أسماء مشايخها وأصحابها، فظهرت الطرق التالية: النقشبندية، والقادرية، والرفاعية، والمولوية، والخلوتية، والجلوتية،... وغيرها

وكانت تُطلق كلمة «طريقة» على كل أسلوب يسعى لمنهجية التفكر والإحسان والوصال مع الله تعالى في كل فرع من فروع التصوف، ويمكن تقسيم هذه الطرائق إلى ثلاثة أقسام

طريق الأخيار: وهي الطرائق التي تركز على العبادات والتقوى

 طريق الأبرار: وهي الطرائق التي تركز على تربية النفس من خلال المعاناة وتقديم الخدمات الإسلامية

 طريق العشاق: وهي الطرائق التي تسعى للوصول إلى الغاية من خلال العشق والوجد

والسبب وراء ظهور الطرائق المتنوعة في هذا الميدان مع مرور الوقت، هو الحاجة لذلك، وليس من باب الاختلاف؛ حيث إن الناس مختلفون في مزاجهم وشخصياتهم وطبائعهم، لهذا فإن تنوع الطرائق يضمن تربية النفس بحسب ما يوافق طبيعة الشخص، لكي يطهر قلبه، ويصل إلى الكمال الروحي

فالله تعالى يقول في القرآن الكريم

 (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) (المائدة، 48)

إن كلمة «منهاج» هنا تعني لغة «الطريق المنوَّر»، وهي تشير إلى طريق العبودية الذي يتخذه العبد كي يتقرب من الله تعالى، ويقول كبار المتصوفة

«إن عدد الطرق إلى الله تعالى كثيرة كثرة عدد أنفاس المخلوقات»

فعلى سبيل المثال؛ يجد الشخص ذو المزاج الجيَّاش سهولة في الارتقاء وفق الأصول المتبعة في الطريقة القادرية، في حين يجد الشعراء والفنانون والرومانسيون ضالتهم في المولوية، أما الأشخاص الذين يسيطر عليهم الوقار والمزاج الهادئ، ولديهم استعداد داخلي عالٍ، يرَون النقشبندية مناسبة لهم، ولهذا يجدون سهولة في تلقي الفيوضات باتباع هذه الطريقة، والسير وفق أصول التربية فيها، وهذه القاعدة تُطبَّق على الطرائق كلها حسب خصائصها

وهكذا نجد أن تنوع الطرائق هي رحمة من الله تعالى، لكن المهم هو أن تكون وفقًا لحدود القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة

ومن ناحية أخرى تنقسم الأحكام القرآنية إلى ثلاثة أقسام

 العقيدة

 الفقه

أ. العبادات

ب. المعاملات

ت. العقوبات

 الأخلاق (الفقه القلبي)

والفقه القلبي هو الذي يتولى إصلاح العيب الداخلي؛ أي هو إتمام مكارم الأخلاق، وهو يشكل بطانة العقيدة والسلوك العملي، وبالأخلاق ترتقي الأعمال لتصبح «أعمالاً صالحة» حسب القرآن الكريم، والصفات الأهم التي تشير إلى وصول القلب إلى حالة القبول الإلهي هي: التقوى والزهد والإحسان

فالتقوى: هي الإحساس الداخلي بالمسؤولية أمام الله تعالى، وحماية القلب عبر المراقبة الدقيقة للأوامر والنواهي الإلهية، وهي الشعور الدائم في القلب بأن العبد تحت الرقابة الإلهية؛ أي تحت سمع الله تعالى وبصره، وذلك بالترفع عن الرغبات النفسانية، وتنمية الاستعدادات الروحية

والزهد: هو امتلاء القلب بالله، وخلوه من كل ما سواه

والإحسان: هو إحساس المؤمن دائمًا أنه تحت الرقابة في كل وقت، وتصرفه وفقًا لذلك

وقد ورد في الحديث الشريف

«الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»

أي إن الإحسان هو إدراك الروح أنها تحت مراقبة الله تعالى دائمًا، وعندها يصير ارتقاء القلب إلى درجة أعلى ممكنًا حين يستمر هذا الإحساس والشعور، وتنظيم الحياة على هذا الاعتقاد والأساس. وبالوصول لهذه الحالة يتم تصفية القلب، والتصوف من هذا الجانب يعني وصول القلب إلى حالة الصفاء هذه

*

فغاية الدين وهدفه ومرماه بناء إنسان متسق مع الكون بجماله الذي خلقه الله عليه، جميل في روحه وأخلاقه وعالمه الداخلي، وذلك بإخلاص العبودية لله وحده، والتخلق بأخلاق الإسلام المثالية، ولا يتأتى ذلك إلا عبر تنقية القلب

والذكر هو أنجع وسائل التخلية والتحلية، تخلية القلب من دنايا الزخم، وتحليته بفضائل القيم؛ حتى يصير موضعًا لتنزل الفيوضات الربانية، ومرآة صافية تنعكس عليها تجليات الحق تعالى

وقد فتح الله تعالى طريق الوصول إلى عليين على مصراعيه، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فبوسع السالكين والمجاهدين على الطريق أن يبلغوا أعلى درجات المعراج في الترقي الروحاني، بعد الانطلاق من حدود الأحكام الظاهرية والأحكام الفقهية، والبناء على أساسها؛ صروح جدرانها هي: «الزهد»، و«التقوى»، و«الإحسان»؛ ما تزال جدران هذا الصرح تتعالى حتى تبلغ الأسباب، أسباب السماوات، فتطلع إلى عالم الملكوت بعدما تصل إلى الكمال الإنساني، وهو طريق مفتوح لكل الناس؛ كلٌ حسب قدرته واستعداده، إنه طريق الترقي المعنوي الذي فتح الله تعالى مسالكه للجميع، وفق حكمته تعالى

والمعراج الحقيقي أو الوسيلة الأسرع في هذا الطريق هو «الإحسان»، والإحسان أن تجعل الله في دوام معيتك، سميعًا بصيرًا؛ رقيبًا شاهدًا على كل همساتك ولمحاتك وإسرارك وإعلانك. وباستيقان دوام مراقبة الله تعالى عليك، والوصول إلى تلك الحالة الدائمة من المراقبة؛ تدرك روحك الحقيقة، والسر الإلهي الذي ندعوه «الإحسان»، وهو الهدف الذي يرمي المتصوفون الوصول إليه، وإدراك كنهه

إنه معية الله والوصال مع أنس حضرته، ومن وصل إلى هذه الدرجة أدرك درجة الولاية، وأدرك مثالية الأخلاق التي يرضى الله تعالى عنها

هكذا كانت أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت حياته الروحية، لم يكتفِ صلى الله عليه وسلم بإحدى الطريقتين؛ بل علَّم وورَّث الصحابة والتابعين والأمة جميعًا الحياة الظاهرة والباطنة، والسلوكيات والمجاهدات المفسرة وغير المفسرة، فمن اكتفى بالظاهر فقط قصر باعه، ومن تعدى للباطن طال ذراعه، فنال الآمال ووجد الإقبال

والمسلمون الأوائل ومن تبعهم أدركوا حقيقة التصوف وتشربوا روحه، ووقفوا على مفهومه وكنهه. ولما طال الأمد كان هناك من ساء فهمه، وتسطحت معرفته، وقصُرَ علمه عن إدراك حقيقة التصوف، ومن ثم اتخذ منه موقفًا سلبيًا؛ بل عدائيًا، راميًا إياه بشبهات ومثالب؛ لعل أبرزها هو منشأ التصوف وبدايته

فقد تنوعت الآراء حول أصل التصوف، وهي آراء لا أساس لها، فمنهم من قال إن أصل المصطلح من الكلمة اليونانية «صوفيا» أي «الحكمة» فقط لتشابه أصوات الكلمة، ومنهم من رأى أن أصل التصوف أصل يهودي، وبعضهم قال إن له علاقة بالروحانية الهندية. وهذه الآراء كلها آراء خاطئة بُنيت على أساس تشابه الكلمات أو المحتوى

أما في حقيقة الأمر؛ فقد رأى علماء الإسلام أن أصل كلمة «التصوف» هو من مصدر إسلامي بحت، ومن بين الآراء المختلفة حول هذا الموضوع أن منشأ كلمة التصوف هو التصفية والاختيار، أي أنها نشأت من «الصفاء»، و«الصفوة»، و«الاصطفاء

ومنهم من رأى أنها تعود «لأهل الصُّفَّة»، وهو أول شكل من أشكال التصوف، و«أهل الصُّفَّة» هؤلاء هم بعض العباد والزهاد من الصحابة الذين كانوا يلبسون الصوف دائمًا، ويجلسون في «الصُّفَّة» وهو المكان المظلل في مسجد المدينة الذي كان يأوي إليه فقراء المهاجرين ويرعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جاء هذا الاسم، وقد نال الرأي الأخير القبول العام

كان هؤلاء الصحابة الذين أطلق عليهم «أهل الصُّفَّة» قد أقاموا في المسجد النبوي من أجل العلم والعرفان والروحانية، وكانوا مميزين في زهدهم وتقواهم بسبب حضّ النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب من أغنياء الصحابة إعالة هذه الزمرة ومساعدتهم، وتشير هذه الحقيقة التاريخية إلى أن السلوك الصوفي يطابق السنة النبوية، ولم يعترض عليه النبي صلى الله عليه وسلم بل حث عليه

وحين ظهرت الخلافات السياسية بين الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤيد «أهل الصُّفَّة» أبدًا أي جانب من الجانبين؛ بل بقوا على الحياد، وأخذوا العبرة من اختلاف المؤمنين، وما نتج عنه من ضعف مشاعر الأخوة، وازدادوا زهدًا وتقوى، وبات هذا الحال وسيلة لزيادة النشوة. وقد رأى بعض الصحابة الآخرين في دخول هذه الخلافات خطرًا معنويًا، ومشوا على خطى أهل الصُّفَّة، وهكذا زاد عدد المتمسكين بطريق الزهد والتقوى

ومع مرور الوقت أخذ مصطلح «أهل الصُّفَّة» المشتق من «صُّفَّة»، وكلمات «تصوف»، و«متصوف» المأخوذة من رياضتهم الروحية، وتقواهم، ينتشر بعد نشأتها، وأخذت الصوفية مكانها في مجرى التاريخ، وبدأت تتأسس الطرق الصوفية

*

لقد كان الأصلان -القرآن والسنة- هما عماد التصوف وركيزته، ومنهما انطلق المتصوفون الأوائل في المجاهدة والسلوك، وفاضت إرشاداتهم وعظاتهم ومؤلفاتهم بالتأكيد على أسس الطريق ومنطلقاته، وحدوده وقيوده، فكانت كتاباتهم وآراؤهم، التي لقيت انتشارًا وتأييدًا وإقبالاً واسعًا، مثلها مثل آراء المجتهدين من الفقهاء أصحاب المذاهب

لكن التصوف -شأنه شأن كل العلوم والأفكار والمذاهب- وجد من أساء تطبيقه، تمامًا كما وجد من أساء فهمه، فقد وقعت بعض الزلات -أو الكثير من الزلات والشطحات- من المريدين والسالكين؛ بل حتى من بعض المشايخ وأصحاب الطرق؛ الذين ربما قصر فهمهم عن إدراك حقيقة الدين باطنيًا وظاهريًا، وربما غلبهم «الحال»، فأساؤوا السلوك؛ إذ غلبتهم «النشوة الصوفية»، فأساؤوا العلم والفهم

لكن الجواد الأصيل سرعان ما يقوم من كبوته، ويتعافى من عثرته، فتداركت «الطرق» زلاتها، وتدارك «الشيوخ» أخطاءهم، وقوَّموا انحرافاتهم، وجاء على رأس الطرق أناس من أهل العلم الحقيقي ظاهرًا وباطنًا، ففهموا حقيقة الدين، ومن ثم أدركوا كنه التصوف، وصحَّحوا الطريق والطريقة

وكانت الطريقة النقشبندية -وأضرابها- إحدى هذه الطرق التي كان القرآن والسنة منطلقها وركيزتها، ولكي تعبر عن ولائها المطلق للحقائق الشرعية باتت العبارة المعروفة المشهورة

«الشريعة هي الذراع الثابت للفرجار» قاعدة غير مكتملة، فقد زاد عليها أعلام الطريقة وعدلوها

فيقول مولانا جلال الدين الرومي: «إننا مثل الفرجار، قدمنا ثابتة في الشريعة، وقدمنا الأخرى نجول بها عبر اثنتين وسبعين قومًا»

«الشريعة كالشمعة؛ تدل على الطريق وتنيره، لكن لا يمكنك عبور الطريق بمجرد وضع شمعة في يدك، كما لا يمكنك السير على الطريق دون شمعة ولكن إذا بدأت السير على الطريق في ضوء الشريعة، فأنت بالتالي تتبع طريقة»


أنواع القلوب

يمكن تصنيف القلوب -حسب حالاتها المعنوية- في ثلاث فئات

أ. القلوب المحافظة على نبلها لتحقيق الغاية من خلقها

ب. القلوب المختومة والميتة

ت. القلوب المريضة الغافلة

 أ. القلوب المحافظة على نبلها لتحقيق الغاية من خلقها

وهي القلوب التي أيقظها الذكر من غفلاتها، وحررها النور من ظلماتها، وأنقذتها الروحانية من ضلال النفسانية، وأهلُ هذه القلوب هم الذين عملوا بمقتضى الآيات الكريمات التالية

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) (الأحزاب، 41)

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) (المزمل، 8)

(رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور، 37)

لقد تخطّى هؤلاء بنضج قلوبهم مرحلةَ تجلِّي أسماء الجلال إلى مرحلة تجلِّي أسماء الجمال، فتخطوا الرهبةَ إلى الرغبة، وبلغوا الكمال باتباعهم أخلاقَ ربِّ الكمال، وباقتفائهم آثار رسول الكمال صلى الله عليه وسلم، وبتعبدهم بوصايا القرآن الكريم

فتجردت قلوبهم من الميول النفسانية، وأُشبعت بفيوضات العشق وتجليات الوجد بعد أن أُشربت بحب الله تعالى وحب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فحققوا معنى التوحيد، وتنزهت قلوبهم عما سوى الله تعالى

وقد منح القرآن الكريم لهذه القلوب صفات ومسميات متعددة هي

القلب السليم -القلب المنيب- القلب المطمئن

- فأما القلب السليم، فهو ذلك القلب الذي نجا من غوائل النفس وآفاتها، وتخلص من أهواء النفس وشهواتها، فحافظ على طهره ونقائه واتساقه مع الفطرة بمعونة من الله تعالى

وهذا الصفاء لا يتم التوصل إليه أو الحفاظ عليه إلا من خلال الأصول التربوية الصوفية، من تزكية النفس وتطهير القلب وما يندرج تحت هذين الأصلين من مجاهدات، وبذلك ينال العبد ألطاف ربه وفيوضاته، بعد أن يجلوَ قلبه من صدأ الذنوب، ويتخفف من أوزار المعاصي، ويخلِّصه من القسوة التي رانت عليه، ويهيئه لتلقي الأنوار الإلهية، والتقلب في نعيم الروحانية بانتصاره على شهوات نفسه ونزواتها

وكأنها قبسات عظيمات من أنوار الشمس تجمعت في بقعة واحدة، فتركزت أشعتها وحرارتها وقوتها في عدسة محدبة لتقلب النور نارًا تأكل الذنوب وتضيء الدروب، فتهتدي بفضل الله تعالى القلوب، وتفوز بالقبول، وتأتي ربها بحال سليم كما يقول تعالى

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ. إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء، 88 - 89)

وهو ما صاغه الشاعر روحي البغدادي في شعره

أيها التاجر والمغامر في نوال الأمر العظيم

ليس الذهب أو الفضة ما تروم

إنما يوم الحساب مرادك القلب السليم

- وأما القلب المنيب، فهو ذلك القلب الذي حلق في السماء بعيدًا عن جاذبية الأرض، وانطلق في الفضاء حرًا من قيود المادة، فنبذ علائق الدنيا، وذاب شوقًا في ملذات عالم الخلود، وشغله الوجد والعشق عن عالم الفناء

والقلب هنا في حالة اضطراب بالمشاعر السامية لمظاهر القدرة الإلهية، يقول الله تعالى في الآية الكريمة

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) (ق، 31-33)

- وأما القلب المطمئن فهو ذلك القلب الذي استراح بعد عناء السفر وبُعد الشُقة وعوائق الطريق، الذي لم يترك المسير بالنهار ولا السرى بالليل حتى يبلغ المقصد، لم يمنعه مانع، ولم يقطعه قاطع، فنوَّر قلبه بالذكر، وسلّم قياد نفسه للروحانية، وخلَّص عبادته من التقليد إلى رسوخ التحقيق، وبلغ الآفاق في كمالات الأخلاق، وتركز فيه الإيمان، فصار مركزًا للإحساس

هذا الحال الذي وصفه القرآن الكريم، فقال

(أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد، 28)

فوصول القلب إلى حال الأمان والاطمئنان يتطلب منه «الإيمان الحقيقي»، و«الرضا»

ولا يغيب عن الذهن أيضًا الحال الذي لم تصفه الآية، لكنها أشارت إلى ضده، فالقلوب المنقطعة عن الله تعالى، البعيدة عن ذكره، لا يمسها الرضا، ولا يقربُها الاطمئنان مهما راوغتها خيالاتُ الدنيا وتصاويرها، فتظل على الدوام أسيرة الاضطراب، مقطوعة الأسباب، منبوذة من الحضرة الإلهية

وعلاماتُ القلب السليم والمنيب والمطمئن كثيرةٌ منها: الرقة، والرحمة بالمخلوقات، والبكاء، والرضا، وخدمة الحق والخير، والهروب من الشر، والنصيحة، والسعي للإرشاد، والامتلاء بلذة العشق الإلهي

وذخيرة القلب في ذلك السمو المعنوي، ورأس ماله في العالم الروحاني، هو تحري الحلال وإطابة المطعم، ثم إخلاص الدعاء والاستغفار، ودوام التوبة، وإحاطة ذلك كله بسياج من العمل الصالح

فالقلب حتى يظل صامدًا في طريقه يحتاج إلى المدد الرباني، وهذا المدد إنما يُستجلب بالدعاء والاستغفار، فالاستغفار والتوبة تعمل عمل الزارع الحصيف الذي يتعاهد غرسه بالرعاية من كل الآفات أولاً بأول، حتى تخرج حين حصادها ناضجة الثمر، كذلك القلوب إن لم تتعاهدها بالتنظيف والتخليص من الآفات والأكدار بالدعاء والاستغفار، يضعف حسها وتقسو مشاعرها، وتُحجب عنها الحقيقة شيئًا فشيئًا بصممها وعماها المعنوي

لذا كان الاستغفار هو بداية أوراد التصوف للتطهر من الأكدار، وثمة قاعدة مشهورة في «مجلة الأحكام العدلية»، تقول

(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)

كما أن قاعدة أخرى يضعها أولياء الله عن تحري الحلال في المطعم والمشرب، تقول

(منْ أكل الحلال أنار الله فؤاده، وجعل ينابيع الحكمة تفيض من قلبه، وتظهر على لسانه)

وللحفاظ على هذه المنزلة والدرجة لا ضمانة للعبد سوى العمل الصالح

تلك القلوب الحية المفعمة بنور الله تعالى، الغارقة في لذة نعيم محبته، هي قلوب الأنبياء والمرسلين، وقلوب الأولياء والمرشدين، فهم الذين طلقوا الدنيا ثلاثًا؛ بل إنهم لم يجعلوا أقصى رجائهم ومنتهى أملهم الجنة ونعيمها، ولم يجعلوا أشد خوفهم وأعظم إشفاقهم من النار وعذابها، إنما مقصدهم و غايتهم الحقيقية إنما هو الرضا والحب الإلهي

وقد حمّلَ الله هؤلاء الربانيين الأمانةَ العظمى والمسؤولية الكبرى، وهي دعوة الناس إلى «دار السلام»، وهداية الخلق إلى الحق، فهم الذين يرفعون عن العباد حُجُب الغفلة، ويزيلون الغشاوة عن عيون القلوب، ويُحيون هذه القلوب بحُسن الخُلُق، ويهدونها بالحث على إخلاص العبادة، والارتقاء بالسلوك الإنساني إلى كمال المعرفة والوصول إلى الله تعالى

إن المقام الذي يُطلب من السالك الارتقاء إليه بتربية القلب هو مقام الإحسان، وبهذا ينال صفة القلب الحي

ب. القلوب المختومة والميتة

ذلك الصنف الثاني من القلوب هو المناقض تمامًا لكل ما ذكرناه في الصنف الأول، فهي قلوب ميتة قد سُدت في وجوهها أبواب الإيمان، واشتعلت بنيران المعاصي والأهواء

وإن المثل الأعلى لأصحاب هذه القلوب في إسفافهم وملذاتهم هي الأنعام والحيوانات، فلا هَمَّ لهم طوال حياتهم سوى لذة الطعام وصفاء الشراب

ويصف الحق تبارك وتعالى حالهم مقارنًا بأحوال أضدادهم، فيقول

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) (محمد، 12)

(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (الفرقان، 44)

هؤلاء الذين جعلوا الدنيا أكبر همهم، ومبلغ علمهم، فعميت أبصارهم عن حقائق الكون والإنسان والحياة، وقصرت حواسهم عن مظاهر العظمة في الوجود؛ بل عميت أبصارهم عن أسرار الحياة في أنفسهم فهم لا يبصرونها؛ هؤلاء الذين ضلوا لن تكون لهم النار عذابًا فقط؛ بل هي مثوى لهم، ومستقر أبدي، وذلك هو الخسران المبين

لأنهم تركوا بإرادتهم المرتبة الإنسانية، وهبطوا إلى ما هو أدنى من المرتبة الحيوانية، والأغرب من ذلك أنهم لم يكتفوا بضلالهم فحسب؛ بل كانوا مصدر ضلالة وفتنة لمنْ حولهم؛ ضلوا وأضلوا، وتمادوا في نكران عظمة الخلق حتى أنكروا عظمة الخالق، واستغرقوا في كفران النعمة حتى كفروا بالـمُنعم، وبارزوا الله بالمعاصي، وحاربوه -سبحانه- بالذنوب، وعادوه بالكفر، ولم تردعهم الأوامر ولا النواهي، ولم تزجرهم الآيات والمعجزات، فكانوا كما صورتهم آيات القرآن

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (يس، 77)

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) (البقرة، 18)

(إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (النمل، 80-81)

والآيات الكريمة تؤكد وتثبت أن قلوب هؤلاء مقفلة ومختومة، ويوضِّح القرآن الكريم هذه الحقيقة

(خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة، 7)

إن هذه الحالة سرٌّ وحكمة إلهية تجعل البشرية كلها مضطربة بالخوف والخشية، ولأن كل إنسان لديه نصيب من صفة «هادي» و«مُضل»، فلا يمكن أن يعتقد أن قلبه سيُختم عليه، وأن أبواب الهداية ستُغلق تمامًا بالإرادة الإلهية، طالما أنه موجود في هذه الدنيا، وذلك لأنه ثمة أمثلة عن أشخاص لم تُغلق أبواب الهداية أمامهم، ومنهم: سيدنا عمر رضي الله عنه الذي خرج لغاية سيئة حين أراد قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، ووحشي حين قتل سيدنا حمزة رضي الله عنه، وهند زوجة أبي سفيان حين بقَرَت بطن سيدنا حمزة رضي الله عنه وأخرجت كبده، ولاكته بكل حقد

ومع أن القرآن الكريم قد ذكر أشخاصًا خُتم على قلوبهم، لكن لا يمكن تحديد من خُتِم على قلبه في الحياة الدنيا، ذلك أن العاقبة مجهولة، فسحرة فرعون مثلاً عاشوا في الضلالة، لكنهم نالوا الهداية في آخر أعمارهم، في حين طوى كلٌ من قارون وبلعم بن باعوراء كتاب حياتهم بالخسران، بعد أن عاشوا طوال عمرهم في الهداية

والنقطة المثيرة للانتباه هنا أن الأشخاص الذين خُتم على قلوبهم وذُكروا في القرآن الكريم كان بعضهم ممنْ ارتكب الذنوب العظيمة مثل «الظلم» و«الكفر» و«الفسق»، وقد ورد في القرآن الكريم (واللهُ لَا يَهْدي) في ستة وعشرين موضعًا للدلالة على منْ اتصف بهذه الصفات الثلاث، اثنتا عشرة آية من هذه الآيات ذَكرت الظالمين، وثمان منها الكافرين، وستٍّ منها الفاسقين، فباب الهداية إذًا مفتوحٌ لمنْ يتوب عن هذه الذنوب، ويتوجه إلى الله بقلب خالص

وإذا كانت هذه الذنوب الثلاثة هي السببَ الأساسي في الختم على القلوب، والمسارَ الرئيسي للضلالة والخسران والعذاب العظيم في الآخرة، وقبل ذلك الحرمان من الهداية في الدنيا، فيمكننا أن نتتبع أسباب ذلك الحرمان لنتّقيها، ونتباعد عنها كما يتباعد المشرق من المغرب، وهذه الذنوب الثلاثة هي

(الظلم، والكفر، والفسق)

ثم لا يبقى سوى تسليم الأمر كله لله تعالى، والاستسلام لمشيئته وقدرته وقضائه وقدره سبحانه

وسنصرف النظر عن التعمق أكثر في هذه النقطة لأن القضاء والقَدَر يبقى مجهولاً بناءً على الكثير من الحكم، ولأن التفتيش والبحث العميق في هذا الموضوع غير جائز

ومهما كانت الحكمة من وراء ذلك، فثمة حقيقة لا تقبل الإنكار، وهي أن منْ خُتم على قلبه، فقد أُغلقت أمامه الأبواب المؤدية للحق تعالى، وانقطعت علاقته مع الإنسانية الحقيقية والحياة المعنوية، ولا يستطيع أحد أن يُزيل هذا الختم من قلبه سوى صاحب القدرة المطلقة، وهو المولى الذي نسيه، وينبِّه الله سبحانه عباده من الوقوع في مثل هذه الغفلة في قوله

(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر، 19)

وتعني الآية أن منْ ينسى اللهَ تعالى يُنسيه اللهُ نفسه؛ فيصبح من الفاسقين الذين خسروا الدنيا والآخرة وتبلدت أحاسيسهم ومشاعرهم، وضلت قلوبهم عن إدراك حقائق هويتهم وكيانهم، فلا ترى النور ولا تعرف الهداية، ولا تكترث بالاطلاع على ذلك كله، فضلاً عن أن تتبعه أو حتى تدرك أهميته لها

وهمهم الوحيد وشغلهم الشاغل إعمار هذه الدنيا بالملذات، وتزيينها بالشهوات، ثم الغرق فيها سُكرًا وتيهًا، لا يعرفون موتًا ولا آخرة ولا حسابًا

إنها قلوب تعيش في ظلمات كهوفٍ لا يصلها النور، وفي عالم مظلم عفن عششت فيه الخفافيش وطيور الظلام، فهذه القلوب لا تستطيع الخروج إلى العالم الطبيعي الذي يناسب الفطرة الطبيعية، لأنها قلوب استعبدتها الميول الشيطانية، فبدلت فطرتها وشوهت طبيعتها، فترى الشقاوة سرورًا، وترى الظلمة نورًا

ويقول الشاعر محمد عاكف في هؤلاء

الإيمان في القلب جوهر ما أعظمه

والقلب الصدئ بلا إيمان وزر ما أثقله

وحتى لو أفاق ذلك الذي غرق في مستنقع النفسانية والجحود، ورأى عالم الحقيقة، حين يتزلزل خوفاً ساعة خروج الروح، وحين يضرب ملك الموت ضرباته الصاعقة، ستكون هذه الإفاقة متأخرة لا نفع فيها؛ لأن تكليف الإنسان ينتهي في اللحظة التي يقف أمامه ملك الموت، وبعد تلك اللحظة تضيع الفرصة التي كانت بين يديه إلى الأبد، وتكون تلك الأوبة والندامة عديمة النفع والفائدة، كما كان حال فرعون حين آمن وسجد متأخرًا لحظة خروج أنفاسه الأخيرة؛ وما عاقبة هؤلاء إلا لهيبُ جهنم التي تزداد اتقادًا، كلما أُلقي فيها فوج من أجسادهم

ت. القلوب المريضة والغافلة

هذه القلوب تقع في الحالة المتأرجحة أو المتوسطة بين الحالتين السابقتين، بين القلوب الحية والقلوب الميتة، تراهم مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وقد اختلط لديهم الحابل بالنابل، فلا يتسقون مع الفطرة ولا ينسجمون مع الطبيعة، لا يهدأ لهم بال ولا يقر لهم قرار، لا تستقر بهم السكينة ولا يلبثون طويلا في كنف الطمأنينة؛ شوَّش الغموض عالمهم الداخلي فجعلهم في تيه بين عالم الماديات وعالم المعنويات؛ تشعَّب بهم الالتباس فشتت فكرهم، وزلزل حالهم

هذه القلوب التي ابتليت بالغفلة فأصابتها العلل والأدواء، فهي تتخبط في أرجوحة التناقض، وتدور في دوامة الشك، وتتوه في شُعب التردد، أصابت العللُ عالمها المعنوي، وفتح الجهل أبواب أعماقها للشهوات، وأسقطت الطموحات أسوار دفاعها ضد الرغبات، فتخطت سياج الأخلاق، وتجاوزت حدود القيم، وانطلقت في دنيا الشهوات

ويصف الله تعالى هذه الزمرة في القرآن الكريم بقوله

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة، 10)

وأخطر أمراض هذه القلوب هي: الشك، والجهل، والشهوات والطموحات، وانعدام الأخلاق، والقسوة

الشك: مرض عضال يحجب المرءَ عن عالم المعنويات، ويحرمه من تذوق لذة الروحانيات، ويعمي بصره وبصيرته عن نور الحقائق، ويصيب قلبه بالموت المعنوي، محرومًا من الاستقرار والطمأنينة؛ وتتزلزل الأرض من تحت أقدامه قلقًا واضطرابًا

الجهل: هو أن يسير المرء في طريق الخسران، وسوء الخاتمة، وظلمة المصير، ولا يدري حتى أنه ثمة عالم من الحقائق والنور وسعادة المصير، فقد عميت الأبصار، وضلت الأفكار، وأظلمت المدارك، ولم يذق صاحبُها سوى مرارة التعاسة

الشهوات والطموحات: هو الرق والأسر الذي يظل صاحبه مقيدًا في قسوة قلبه، ومكبلاً بلجام رغباته، لا يسوقه سواها، ولا يرى إلاها، وهو كالشاربين شُرب الهيم، كلما شرب ازداد هوسًا بالشهوة، وسُكرًا بالرغبة، ولا يجد ريًا في شرابه، ولا خلاصًا من هيامه، ولا تحررًا من نير شهواته إلا في تراب قبره

انعدام الأخلاق: وهو من أخطر أمراض القلب؛ كخطورة السرطان على الجسد، ولكنه أيضًا غير مستحيل العلاج إن أدرك المرء خطورة علته، وبادره بالدواء الناجع، والله يشفي منْ يشاء، ويهدي منْ يشاء

القسوة: وليس في العلل أشدّخطورة منها، وليس في الأمراض ما لا يُرجى شفاؤه مثلها، فهي عين الضلالة، وأصل الحرمان، وأسفل سافلين في دركات الشقاء، إنها انقطاع القلوب عن فطرتها، وانفصال المشاعر عن أحاسيسها، وفقدان كل معاني الإدراك في عالم الروح والمادة، فلا تبصر نورًا، ولا تستشعر سرورًا، لا تسمع الأنَّات، ولا تعرف الرحمات، فتصير كالحجارة أو أشد قسوة

وإن الحجارة هي أرق من هذه القلوب وأكثر حميمية ولطافة، وقد بيَّن المولى سبحانه هذه الحقيقة في القرآن الكريم حين قال

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة، 74)

ونفهم من هذه الآية الكريمة أن قسوة القلب هي نتيجة طبيعية لنسيان الله تعالى، والحرمان من الأُنس بالحقائق الإلهية لمدة طويلة، ويقول الله تعالى في آية أخرى

(فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الزمر، 22)

والأعمال والعبادات إن لم تكن صادرة عن قلوب واعية معافاة من الآفات كانت أعمالًا غير مقبولة، وغير ذات قيمة، لا ينظر الله تعالى إليها، فقد سُلبت هذه القلوب أحاسيسها ومشاعرها، ونورها وحياتها، فانقطعت عن حقائق الكون، ولم تبصر معجزات وآيات الخالق سبحانه

يقول الله تعالى في الآية الكريمة

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج، 46)

وتشير الآية إلى أن الأعضاء البشرية في الجسد قد تتعطل عن عملها الطبيعي رغم استمرارها في الحركة الميكانيكية، فهي وإن لم تفقد وظيفتها السريرية ولم تفقد حياتها البدنية لكنها فقدت حياتها الروحية، ووظيفتها المعنوية

ثم تؤكد الآية حقيقةً شديدة الأهمية، وهي أن المسؤول عن العمل العضوي والبدني والروحي والمعنوي هو القلب، وليس العقل، أو المخ البشري؛ إنه القلب الذي في الصدر

وأمراض القلب مهما صغرت تظل خطورتها كامنة فيه، وكذلك فإنها مهما كبرت يمكن تداركها وعلاجها، فلا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار

وقد تتراكم الصغائر على القلب، وتتكاثر عليه حتى تهلكه، فلابد من الحذر الشديد، واللجوء إلى الله تعالى، والاعتماد عليه وحده، والتسليم لإرادته والاستسلام التام لما فرضه سبحانه من مقتضيات الإيمان وعوامل اليقين

ولعل أبرز إيضاح لخطورة حال القلب، وضرورة الحفاظ عليه، والحذر من آفاته، هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه

«ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (البخاري، الإيمان، 39)

وما هذه الدنيا إلا صحراء ممتدة وتيه كبير، يسير الإنسان فيها نحو هدفه، تُسفي عليه الريح من رمالها، ويصيبه من حرها وقرها، وتُعرِّضه للمهالك كل حين، ولن يجد ملاذًا من تلك الرياح إلا في نسمات المدد الإلهي، ولن تجد الواحة الخضراء في هذه الصحراء القاحلة إلا في كنف العون الرباني، ولن تجد الإرشاد إلى الغاية، والدليل إلى الهدف، والمعين في الطريق إلا في ظل طاعة الله، والتسليم له سبحانه

وما أبلغ الشاعر الفيلسوف المسلم محمد إقبال عندما صور هذا المشهد، فقال

رأيت الكافر حيران له الآفـاق تيـه

ورأيت المؤمن كونًا تاهت الآفاق فيه


إحياء الليل- (تطهير القلب)

خلق اللهُ النهار معاشًا للناس يكابدون فيه الدنيا ومتاعبها، لكنه برحمته سبحانه خلق لهم الليل يسكنون إليه ويهجعون فيه، يغتسلون في بحر الليل من أوضار النهار، ويأوون إلى كنف السماء إذ تطير إليها أرواحهم في هدأة المساء

فالليل حضن يأوي إليه العابدون كما يأوي الرضيع إلى حضن أمه، يطمئن إليه ويستريح فيه، وينهل منه سر بقائه وحياته فيَطعم ويشرب، ومن دفئه ينطلق بما يستمده من مشاعر الطمأنينة والسكينة ليتعرف على العالم ويواجه الدنيا من حوله

وهكذا جعل اللهُ عزَّ وجل النهار معاشًا ينتشر العباد في الأرض يبتغون من فضل الله عزَّ وجل، وجعل الليل لباسًا وسترًا يختلي فيه العابدون بربهم ويحلقون بأرواحهم في عوالمه الرحمانية

فالليل ميقات الفيوضات، ومحراب أهل الوجد، وتكية العارفين، ومنهل الراغبين، ومطمع الداعين، وملاذ القائمين الخائفين، وسكن العابدين

ويقول الله تعالى في هؤلاء

(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)

(السجدة، 16-17)

وقد فسَّر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية في الحديث القدسي

«أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» (البخاري، بدء الخلق، 8؛ التفسير، 32/1؛ التوحيد، 35؛ مسلم، الجنة، 2-5)

ويقول الله تعالى في آية أخرى

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلا) (الإنسان، 26)

ولا يمكننا هنا أن نجلِّي للقارئ قيمة الليل، ولا أن نرصد كنوزه أو نَصِف جواهره، فذلك ما لا يعلمه العباد ولا يدركه البشر، ولا يحيطه علم الآدميين، ففيه من الأسرار والأنوار والإمدادات ما لا يُحصى، ويكفينا هنا أن نذكِّر أولي الألباب أن الحق عزَّ وجل أشار إليه في القرآن الكريم في أكثر من موضع؛ بل أقسم به، والعظيم سبحانه لا يقسم إلا بعظيم، ورب الأسرار لا يقسم إلا بأحد مستودعات الأسرار

إن قسم الله تعالى بالليل في آيات (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) (الانشقاق، 17) (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) (الضحى، 2) (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) (التكوير، 17) هو تذكرة إلهية لنا كي ندرك ونلتفت بقلوبنا إلى الحقائق العظيمة المكنوزة فيه

وثمة إشارة نبوية كبرى تلقي الضوء على كنزٍ لا يفنى ومعين لا ينضب من عظمة الليل، إنها أعظم بشارة لقلوب العاشقين وأجزل عطاء للسائلين، وأصدق بشارة للخاطئين المذنبين القانطين

جاء في الحديث: «ينزل ربُّنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: مَنْ يدعوني فأستجيب له، مَنْ يسألني فأعطيه، مَنْ يستغفرني فأغفر له» (البخاري، التوحيد، 35؛ التهجد، 14؛ الدعوة، 13؛ مسلم، المسافرين، 168)

ويقول أولياء الله تعالى

«إن إحياء الليالي هو الملك والسلطنة الحقيقية المشار إليها بقوله تعالى: (اللّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) (آل عمران، 26

فيعطينا المولى سبحانه لمحات من تلك السلطة الاعتبارية، والسلطنة المعنوية، إنها بدائع الكون التي خلقها الله تعالى لك، بها تعتبر وتتعظ وتستمتع وتُشبع مشاعرك وتُحيي قلبك

ففي وقت السحر يبدأ الكون فصلًا جديدًا من حياته؛ حيث الصبح يتنفس، والطيور تغدو متوكلة على ربها لتلتمس رزقها، والكائنات تستيقظ من نومها وتتهيأ لتبدو في أبهى حلة وأجمل حال وأروع مآل، وبعد ذلك كله هل من غافل -مهما غفل- أن يفوِّت روعة هذه اللحظات؟ وكرم مانح تلك الهبات؟!

والخلاصة أن الله تعالى يدعونا إلى الاستيقاظ في الأسحار

(وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) (آل عمران، 17)، ومن يستجب لهذه الدعوة يلق من الله تعالى الثناء والبشارة معًا

ويقول أبو يزيد البسطامي: «لم يُفتح لي شيءٌ إلا بعد أن أيقظت ليلي حتى صار نهارًا» (البورصوي، روح البيان، جـ 1، 401)

ويقول الحسن البصري رحمه الله

«إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل»

ويقول إبراهيم بن أدهم

«لا تعصه بالنهار وهو يُقيمك بين يديه في الليل»

وكان الشيخ سيف الدين رحمه الله يكثر من الصلاة في الليل، ويختم القرآن في ركعتين، وحين يأتي الصباح يقول

«يا رب إني لا أشبع من عطائك، يا رب كم هو قصير هذا الليل!»

تلك بعض من بشارات الليل وأسراره، فقد كانت هذه الليالي زاد أبي يزيد البسطامي، فكانت الفتوحات التي ما زلنا ننهل من أسرارها

وكانت هذه الليالي موعد إبراهيم بن أدهم مع ربه وحبيبه وسيده الذي ينتظر طوال النهار لقاءه بشوق، فيكون ذلك عصمته من المعصية

وكانت هذه الليالي حديث الشيخ سيف الدين مع ربه وصلته مع مولاه ومتعته المعنوية التي لا تنتهي؛ حتى ليود أن يكون اليوم كله ليلاً، فهل بوسعه أن يضيع من الليل لحظة؟

لكن عطاء الليل ومنحه وفتوحاته تحتاج إلى إعداد واستعداد لها منذ بداية النهار، فالمعصية بالنهار حجاب بالليل، والذنوب بالنهار غشاء على البصر والبصيرة، فمن عصى الله تعالى بالنهار حُرم من إحياء الليل، وغاب نبض الحياة عن فؤاده كما يعلمنا الحسن البصري

ويعبِّر مولانا جلال الدين الرومي بهذه الأبيات في «الديوان الكبير» عن حالة العشق والوجد التي كان يعيشها في الليالي

يا ساقي املأ القدح بالعشق الإلهي

 واعطِ السكران شرابًا لا خبزًا

قدِّم الكوثر واروِ به القلوب العطشى

 فالسابح في البحر لا يريد سوى الماء

املأ القدح بالشراب ثم قدمه

 يا رب أوقف الليل واجعله يطول

واربط نومي بالسلاسل كي لا يمر الوقت

 فالنائمون لا يدركون قيمة الليل

ويقول المولى تعالى في قيام الليل والأسحار واصفًا عباده المحظوظين الذين نالوا فيوضاته ونعمه الإلهية إذ كانوا يحذرون من غضبه عزَّ وجل

(كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات، 17-18)

(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) (الفرقان، 64)

ويقول الله تعالى في آية كريمة أخرى:

(الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (الشعراء، 218-219)

ويقول القاضي البيضاوي في تفسير هذه الآية

«لما نسخ قيام فرض الليل طاف النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصًا على كثرة طاعاتهم، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع بها من دندنتهم بذكر الله وتلاوة القرآن» (أنوار التنزيل، جـ 4، 111)

وللأسحار قيمة لا تبلغها ولا تدنو منها أيٌ من الأوقات الأخرى؛ إذ يصعب القيام فيها، وتشق على النفس العبادة فيها، فلا يلجأ إليها إلا أهل التعظيم والتوقير والمحبة الخالصة لجلاله سبحانه لأن هذه المحبة هي الحافز الأساسي لإحياء الليل والاستغفار بالأسحار والهيام بالأذكار والخلوة مع المولى سبحانه، والدنو من مجلس غفرانه، والدخول في زمرة محبيه لنوال فيوضاته ومعرفته

فإن أدرك المؤمن قيمة الليل، وعرف قدر الأسحار، ونال من فضل العبادة فيهما، وذاق من روحانية الوصال، صار ليلُه ذاك أضوأ من نهاره، وصارت ظلمة ليله أسطع من شموس نهاره. لكنه إذا استسلم لغفواته، وأماتت قلبه غفلاتُه، وأَسَرته مناماتُه، فوَّت على نفسه التحرر من نير مشقة النهار ومرارة الدنيا، كالأرض التي تهدر قطرات الأمطار، فلا هي تنبت الكلأ ولا هي تحفظ الماء

وكان من نصائح أم سليمان عليه السلام أن قالت له: «يا بُني لا تُكثر النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيرًا يوم القيامة» (ابن ماجة، إقامة الصلاة، 174)

والنوم موت حقيقي، وقبره الليل، فإذا ما نوَّرتَ قبرك بالذكر، وآنست وحشته بالعبادة، وجعلت وداعك للدنيا لحظات المعية مع الله عزَّ وجل؛ حينها لا يكون النوم موتًا إنما عرس أخروي، واحتفال سماوي

وينقل لنا عبد الله بن عمرو بن العاص التنبيه الذي وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه

«يا عبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل» (البخاري، التهجد، 19؛ مسلم، الصيام، 185)

ويخاطب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام قائلاً لهم

«عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإنَّ قيام الليل قربةٌ إلى الله، ومنهاةٌ عن الإثم، وتكفيرٌ للسيئات، ومطردةٌ للداء عن الجسد» (الترمذي، الدعوات، 101)

ومن نافلة القول أن نذكر ما اكتشفه الطب الحديث من الأهمية البيولوجية لذلك العمل السيكولوجي، فقيام بعض الليل وعدم الاستسلام الكامل للنوم هو صنيع صحي له فوائد عظيمة للبدن؛ ناهيك عن فوائده الأعظم للروح والقلب

ويحدثنا الطب عن قيام الليل فيقول: إن مَنْ يستيقظ بعد نوم طويل تجده يعاني من آلام في الرأس، وهذا نتيجة تباطؤ عملية الشهيق والزفير أثناء النوم، وعدم تزويد الدماغ بالمقدار الكافي من الأكسجين، أما مَنْ يقسِّم نومه فإنه يستيقظ نشيطًا حتى لو كان نومه لمدة قصيرة، وذلك لأنه عاد إلى عملية الشهيق والزفير الطبيعية، وأخذ الكثير من الأكسجين حين قام من نومه

ومن ناحية أخرى نجد أن الذين يموتون وخاصة الكبار في السن تقع حالات وفاتهم في الصباح في أغلب الأوقات، لهذا يُطلق الأطباء اسم «ساعة الموت» على «وقت السحر»، والسبب هو تباطؤ عمل القلب في أعمق ساعات النوم، فمَنْ يستيقظ في هذه الساعة ويتوضأ بماء بارد، يُعيد وظائف جسده كلها إلى حالاتها الطبيعية

وإن كان هدفنا هنا إنما هو التذكير بالفوائد الأخروية والروحانية لقيام الليل، لكن أوامر الدين ونواهيه تحمل من الفوائد الدنيوية والأخروية ما يجذب أهل الدنيا وأهل الآخرة، وفيها ما يحمل الترغيب والترهيب، ومنافع البدن والروح، وغنائم المال والقلب، فكل العبادات لا تزال تكشف عن أسرارها، وتمد العلم باكتشافات ومعجزات تجعل من تفاصيل ودقائق السُنن النبوية حياة نموذجية للمؤمن العابد والإنسان العادي، وكلٌ يعمل على شاكلته، وينال من كنوز أوامر ربه ما يرضي بدنه أو يرضي روحه


إقرار المشركين بسيرته الأسوة

لقد نال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقةَ العرب في الجاهلية، حتى إن ألدَّ أعدائه أبا جهل قال له

«يا محمد إنا لا نكذِّبك، وإنك عندنا الصادق، ولكن نكذِّب ما جئت به»

وحتى أشدُّ خصومه عليه الصلاة والسلام لم يرفضوا ما جاء به إلا لأهوائهم ورغبات نفوسهم، مع أنهم كانوا يقبلون أن ما جاء به رسول الله هو الحق

يقول الله تعالى

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ}

*

لما انتصر قيصرُ الروم على فارس في المدة التي كانت بعد صلح الحديبية، مشى من حمص إلى إيلياء "القدس" على الزرابي تبسط له، فلما جاء قيصرَ كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حين قرأه

التمسوا لي من قومه من أسأله عنه

وقد كان أبو سفيان آنذاك بالشام في رجال من قريش قدموا تجَّارًا. قال أبو سفيان

فأتاني رسول قيصر فانطلقَ بي وبأصحابي حتى قدمنا إيلياء، فاُدخِلنا عليه فإذا هو جالس في مجلس ملكه عليه التاج، وإذا حوله عظماء الروم، فقال لترجمانه

سَلْهم أيهم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، قال أبو سفيان: أنا أقربهم إليه نسبًا، قال: ما قرابتك منه؟ قلت: هو ابن عمي، قال أبو سفيان: وليس في الركب يومئذ رجل من بني عبد مناف غيري، فقال قيصر: أَدْنُوه مني. ثم أمر بأصحابي، فجُعِلُوا خلف ظهري عند كتفي، ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذَبَ فكذِّبُوه. قال أبو سفيان

فوالله لولا الاستحياء يومئذ أن يَأثُر أصحابي عني الكذب لكَذَبْتُه حين سألني، ولكني استحيت أن يؤثروا عني الكذب فصَدَقته عنه

ثم قال لترجمانه: قل له كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه في الكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من مَلِك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: فيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن الآن منه في مدة ونحن نخاف ذلك

قال أبو سفيان ولم تُمكِنِّي كلمةٌ أُدخِلُ فيها شيئًا أنتقِصه به غيرها لا أخاف أن يؤثَر عني

قال: فهل قاتلتموه أو قاتلكم؟ قلت: نعم، قال: كيف كانت حربكم وحربه؟ قلت: كانت دولًا سِجالًا نُدالُ عليه المرة ويُدَالُ علينا الأخرى، قال: فبمَ يأمركم؟ قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئًا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة

قال: فقال لترجمانه حين قلت له ذلك: قل له إني سألتك عن نسبه فيكم، فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها

وسألتك: هل قال هذا القول أحد منكم قط قبله؟ فزعمت أن لا، فقلتُ: لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله قلت رجل يأتمُّ بقول قيل قبله

وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله سبحانه وتعالى

وسألتك هل كان من آبائه من مَلِكٍ فزعمت أن لا، فقلت لو كان من آبائه مَلِك قلت رجل يطلب مُلكَ آبائه

وسألتك أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم فزعمت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل

وسألتك هل يزيدون أم ينقصون فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم

وسألتك هل يرتد أحد سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه، فزعمت أن لا وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب لا يسخطه أحد

وسألتك هل يغدر فزعمت أن لا، وكذلك الرسل

وسألتك هل قاتلتموه وقاتلكم فزعمت أن قد فعل وأن حربكم وحربه يكون دُولًا يُدالُ عليكم المرة وتُدالون عليه الأخرى، وكذلك الرسل تُبتَلَى ويكون لها العاقبة

وسألتك بماذا يأمركم فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله سبحانه وتعالى وحده لا تشركوا به شيئًا وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم ويأمركم بالصدق والصلاة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، وهذه صفة نبي قد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أظن أنه منكم، فإن يكن ما قلت فيه حقًّا، فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين، والله لو أرجو أن أخلص إليه لتجشَّمتُ  لُقِيَّهُ ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه

قال أبو سفيان ثم دعا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر به فقُرِئ فإذا فيه

«بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام،أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسِيِّين

{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} »

قال أبو سفيان: فلما قضى مقالته، علت أصوات الذين حوله من عظماء الروم، وكثر لغطهم، فلا أدري ماذا قالوا، وأُمِرَ بنا فأُخرِجْنا. قال أبو سفيان: فلما خرجت مع أصحابي وخلصت لهم قلت لهم: أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة ، هذا ملك بني الأصفر يخافه

قال أبو سفيان: فوالله ما زلت ذليلًا مستيقنًا أن أمره سيظهر حتى أدخل الله قلبي الإسلام وأنا كاره

فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة  له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغُلِّقَت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم، فتُبايعُوا هذا النبي؟ فحاصوا  حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان، قال: ردوهم عليَّ، وقال: إني قلت مقالتي آنفًا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه

لقد رأى إمبراطور بيزنطة هرقلُ نعمةَ الإسلام التي جاءت إلى يديه، وفَهِمَ حقيقة هذا الدين العظيم، غير أنه أضاع فرصة الهداية الكبرى في سبيل المنافع الدنيوية، فأضاع بذلك سعادته الأبدية

*

إننا نظن أن سلوك هرقل المنصف لمَّا علِمَ دين الإسلام لم يكن نابعٌا من فضيلته فحسب، وإنما أثر في هذا السلوك أيضا ما بقي في النصرانية من عقيدة التوحيد آنذاك، فلقد كانت تلك الآونة بدايةَ انحراف النصرانية التي كانت دينًا حقًّا في الأصل وعقيدةً قائمة على أساس الوحدانية، إذ انتهى الجدال حول الرموز الدينية الذي استمر ما يقرب من مئتي سنة، فامتلأت الكنائس بالرسومات والهياكل. واعتنق النصارى عقيدة التثليث المسماة «الأقانيم الثلاثة» البعيدة عن الوحدانية، ليَبرُز الإسلامُ مجدِّدًا "الدينَ الحق"، وذلك سنة الله في الكون.. وقد ظهر سلوك مُنصِف كسلوك هرقل من الملك النجاشي لما حاورَ الصحابةَ -وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه- الذين هاجروا إلى الحبشة هربًا من ظلم مشركي مكة، حتى إن النجاشي ضرب يده على الأرض، فأخذ منها عودًا، ثم قال لجعفر

«ما عَدَا عيسى ابن مريم ما قُلتَ هذا العود»

فقد كان الملك النجاشي على مذهب آريوس  الذي حافظ على عقيدة التوحيد

ومن الممكن أن هرقل كان يعتقد بمثل هذا الاعتقاد، غير أنه ليس هناك دليل تاريخي على إيمانه. فنفهم من هذا مرة أخرى أن الله يهدي من يشاء ويضلُّ من يشاء

ويُظهِر لنا حديثُ هرقل أنه حتى الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آمنوا باستقامته ونضج شخصيته. إذ لما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى مكة كانت لديه بعض الأمانات للمشركين، فأوكل سيدَنا عليًّا رضي الله عنه بتسليمها لأصحابها. ولم يكن في مكة آنذاك رجلٌ تُستودَع عنده الأمانةُ مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروف بثقته وصدقه


الأخلاق دين المؤمن

ماذا تشكل الأخلاق بالنسبة إلى المؤمن؟ إن الإجابة الوحيدة على هذا السؤال هي أن أخلاق المؤمن هي المؤمن بعينه فلا يمكن الحديث عن أخلاق المؤمن بمعزل عنه. فالأخلاق هي السلوك الذي أمرنا به الله تعالى ورسوله ﷺ. في حين أن الأخلاق بالنسبة إلى المجتمعات غير المؤمنة هي الصفات التي يستحسنها المجتمع ليس إلا

أحمد طاش غاتيران: أود أن أسألك عن "أخلاق المؤمن". فهي موضوع أساسي وهام في حياة المسلمين وعلاقاتهم ببعضهم البعض. فلنقف عند هذا الموضوع ولنتحدث عنه. ماذا تشكل الأخلاق بالنسبة إلى المؤمن؟ ما أهمية الأخلاق؟ تعتبر الأحكام الفقهية المصدر الأساسي الذي يرجع إليه الناس في فهم ومعرفة مسائل الحياة التي تواجههم، فكيف تُعقد مقارنة بين الأخلاق والفقه؟ ما هو مفهوم أخلاق المؤمن؟

نور الدين يلدز: لا أملك جواباً لسؤالك: ماذا تشكل الأخلاق بالنسبة إلى المؤمن؟ إلا أني أقول إن أخلاق المؤمن هي المؤمن بعينه، لأن أخلاق المؤمن مصدرها الوحي. فالأخلاق هي السلوك الذي أمرنا الله تعالى ورسوله ﷺ بالتحلي به في حين أن الأخلاق بالنسبة إلى المجتمعات غير المؤمنة هي الصفات التي يستحسنها المجتمع ليس إلا. ما كان يراه المجتمع قبل مئة عام عيباً وعاراً أصبح يراه اليوم رقياً وحضارة، هذه هي أخلاق العصر الحالي. أما معايير الأخلاق بالنسبة إلى المسلم المؤمن فهي لا تختلف اليوم عما كانت عليه قبل مئتي عام. وأوضح مثال على ذلك هو أنه اليوم لا يُعتبر من العيب في شيء أن يشرع الطفل بالطعام قبل أبيه، أو أن يطلب من أمه أن تحضر له الماء، لكن قبل مئة عام كان ذلك عيباً كبيراً. لماذا؟ قبل أربعة عشر قرناً نهى رسول الله ﷺ عن أمر الأم بهذه الطريقة. وبعد خمسة آلاف سنة سيبقى أمر الأم بإحضار ماء أمراً ممنوعاً على المؤمن ولن يتغير هذا حتى وإن لم يبقَ ليوم القيامة سوى ساعة واحدة، لأن مصدر أخلاقنا هو الوحي ولن تتغير أخلاقنا حتى قيام الساعة. الأخلاق في الإسلام لا تتغير لأن الإسلام واحد لا يتغير. لا يرد وصف الأخلاق بأنها فرض واجب بل تعرف بماهيتها

أحمد طاش غاتيران: كيف يمكن معرفة الفرق بين هذا وذلك؟ رسولنا الكريم ﷺ نبي الأخلاق يصفه الله تعالى في كتابه العزيز بأنه على خلق عظيم ويقول رسول الله ﷺ "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق." إننا نتكلم عن الأخلاق التي هي جزء لا يتجزأ من شخصية الرسول ﷺ. ما الفرق بين الأحكام الفقهية كالفرض والواجب والسنة وبين الأخلاق؟

نور الدين يلدز: ما الذي نسميه بالأخلاق؟ إننا نسمي علاقة الإنسان بمن حوله أخلاقاً. مثلاً ليس النوم على الجانب الأيمن صفة من صفات الأخلاق ولا يعتبر شرب الماء باليد اليمنى على ثلاث دفعات خصلة من خصلات الأخلاق. فالأخلاق هي كيف أقدم لكَ الماء، أو كيف أجلس باحترام دون أن أمد قدمي أمامك. تظهر الأخلاق في المواقف التي يتأثر فيها الآخرون بتصرفاتي، ولهذا علاقة بالأحكام الفقهية بالتأكيد. بعضها فرض وبعضها واجب وبعضها سنة، بعضها حرام وبعضها مكروه. ليست الأخلاق سلوكاً كيفياً يتحلى بها المرء متى أراد ويهملها متى أراد

لنستعرض مثالاً بسيطاً عن الأخلاق: هل يمكن لمسلم تفوح رائحة فمه الذهاب إلى الجامع؟ هل يستطيع مَن تفوح رائحة فمه أن يحضر اجتماعاً أو أن ينضم إلى مجلس. يقول الرسول الكريم "من أكل من هذه الشجرة ـ يعني الثوم ـ فلا يقربن مسجدنا." إنه يقول إن من تنبعث من فمه رائحة غير مستحبة، يتسبب في إزعاج غيره. هذه قاعدة أخلاقية. أي إن رسول الله ﷺ يقول لمن يذهب لأداء فريضة الصلاة: لقد أكلت ثوماً فلا تدخل الجامع إذن. على الرغم من أن الرسول ﷺ يعد الصلاة واجباً إلا أنه يرجح كفة الامتناع عن أداء الواجب تحاشياً لإزعاج الآخرين. إن عدم مراعاة الأخلاق يعني الظلم

كما أن توجيه كلام مسيء للمسلم والغيبة هي انعدام في الأخلاق. إننا اليوم نسمي الغيبة حواراً لطيفاً نتبادله في جلساتنا. لذا فإننا لا ندرجها في المواضيع الأخلاقية على الرغم من أن الأخلاق في شريعتنا تشمل كل جوانب الحياة وجميع أوجه العلاقات الإنسانية

يتناول "الأدب المفرد" للإمام البخاري الكثير من تفاصيل حياة المسلم التي تبدأ من حقوق الأم، مروراً بإلقاء السلام والجلوس والنهوض والتثاؤب إلى ما هنالك من تفاصيل الحياة اليومية. يوضح الكتاب الآداب الإسلامية الواردة في السنة النبوية والآيات القرآنية. لماذا يُقال "من لا يتمتع بالأخلاق لا دين له"؟ لأن قسماً كبيراً من الصفات الأخلاقية تعني تجنب الحرام، والقسم الآخر هو القيام بالفرض. مثلاً؛ أن يحترم الابن أمه وأبيه ويبجلهما وأن يرى نفسه أمامهما كما لو كان في السادسة من العمر حتى وإن بلغ الستين... هذه هي الأخلاق. وهذه هي الواجبات التي تلي واجبات طاعة الله تعالى في القرآن الكريم. لذا ليست الأخلاق الشرط السابع من شروط الإيمان بل هي مجموعها بالكامل

أحمد طاش غاتيران: أي أنها تشمل الإيمان وشروط الإسلام معاً؟

نور الدين يلدز: الإيمان مُتَضمَّن في الأخلاق، من لا يتحلى بالأخلاق لا يمكنه حتى التفكير في شروط الإيمان. مثلاً هل من الممكن صياغة جملة كهذه: إن الصلاة فرض على البقر؟ كلا بالطبع هذه الجملة غير مقبولة. لمَ لا يوجد في القرآن الكريم جملة كهذه؟ لأن الإسلام دين الإنسان. والأخلاق ليست أحد شروط الإيمان. فانعدام الأخلاق لا يتماشى مع الإسلام. الرسول ﷺ قدوة في الأخلاق، من كان يشكو من مشكلة في أخلاقه أو لا يتحلى بالخصال الحميدة كيف له أن يدَّعي انتماءه إلى أمة محمد ﷺ واتباع نهجه

مثلاً نحن نولي الأخلاق اهتماماً كبيراً في علاقاتنا الأسرية، وعندما يتطلب الأمر نتحول إلى علية القوم. ولكن يجب ألا تُؤخذ الأمور بظواهرها فحين عرَّف رسول الله ﷺ خيار أمة المؤمنين، قال: "خيركم خيركم لأهله." وهذا يعني أن الأخلاق وقبل أن تظهر في المجتمع يجب أن تظهر في الأسرة التي تُعتبر الخلية الأساسية في المجتمع

أحمد طاش غاتيران: قلنا قبل قليل، لا يكون المسلم مسلماً إذا لم يتحلَّ بالأخلاق. إذا ما نظرنا إلى حياة المؤمنين في المجتمع الإسلامي نرى مسافة هائلة تفصل الإنسان عن الأخلاق. وإذا قمنا بتسليط الضوء على المؤمن وحاولنا تحديد إيجابياته وسلبياته نجد أنفسنا أمام السؤال التالي: أيهما أكثر: الايجابيات أم السلبيات؟ لكن كيف يحصل هذا؟ كيف يمكن أن ينأى المؤمن بأخلاقه عن أساسيات الإيمان؟

نور الدين يلدز: هناك نقطتان أساسيتان الأولى "لا يوجد مؤمن عديم الأخلاق."، والثانية "لا يوجد مؤمن لا يخطئ". قد لا يؤدي المؤمن الصلاة في وقتها، نفس الأمر ينطبق على الأخلاق. المؤمن قد يكون مقصراً في صلاته أو في إحدى خصال أخلاقه. ومن هنا يجدر بنا التفكير بأن المؤمن ليس معصوماً عن الخطأ فهو ليس ملاكاً، ولكن يمكن القول إن على المؤمن ألا يرتكب ذنوباً تفوق حسناته

أحمد طاش غاتيران: عند التمعن في الفرد وفي المجتمع الإسلامي نرى مثلاً شخصاً يواظب على صلاته في حين أنه يعاني من مشاكل واضحة في أخلاقه. هنا لا بد من التساؤل: كيف يكون المؤمن هكذا؟

نور الدين يلدز: إنها دعاية سيئة بحق المؤمن، حيث يتم تعريفه بطريقة سيئة. هل يمكن ألا يهتم  المؤمن بالأخلاق؟ لا وجود لمثل هذا المؤمن. هل يمكن أن يكون المؤمن بدون أخطاء؟ هذا أيضاً أمر غير ممكن. أبسط مثال على ذلك هو أنه يمكن للمؤمن أن يتثاءب ويؤثر سلباً على نشاط أصدقائه، أو يمكن أن يتلفظ بكلمة غير مستحبة فنحن بشر. والإنسان ليس له أن يدَّعي الكمال. حسناً، ماذا علينا أن نفعل في هذه الحالة؟ يجب أن تكون أفعالنا الحميدة أكثر من أخطائنا. وهناك أمر آخر وهو أن علينا عدم التشدد في قراراتنا. مثلاً أي طفل قد يكون مشاكساً لكن هذا لا يعني أن نتخلى عنه أو نتبرأ منه فالطفل لا يشاكس باستمرار، يشاكس مرة في الأسبوع لا أكثر. وإن كان يشاكس كثيراً فهذا يعني وجود مشكلة أخرى لديه وبأن الأمر قد تعدى قضية المشاكسة في حدودها الطبيعية

أحمد طاش غاتيران: كما قلت في البداية، تُعتبَر الأخلاق في يومنا هذا المعاييرُ التي يقبل بها الجميع في المجتمع. هل دخلت هذه المعايير حياة المؤمن الذي وجد نفسه منجرفاً بشكل أو بآخر في تيار المجتمع بكل ما فيه من مفاهيم ومعايير مختلفة؟ هل من الممكن أن يكون عدم إلمام المؤمن بشكل كاف بمفهوم الأخلاق التي يجب أن يتحلى بها كمؤمن هو الذي يؤدي إلى تأثره بمفاهيم المجتمع؟

نور الدين يلدز: سأذكر مثالاً على ذلك وهو قول رسول الله ﷺ: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه." أي إن المرجع الأساسي في الحكم على الشخص هو دينه وأخلاقه. يمكننا هنا أن نتساءل ولكن أين الدين والأخلاق منا اليوم؟

إننا على عتبة الدنيوية والانشعال بالحياة الدنيا. لقد جرفَنَا العالَمُ بمعاييره الجديدة حتى كاد ينسينا أخلاقنا أو يكسبنا أخلاقاً جديدة. لقد أصبح اللباس وأناقة المظهر معياراً لدرجة الأخلاق. كذلك فإن استعمال كلمات دبلوماسية منمقة يُعد اليوم من حسن الأخلاق. عند إغلاق مكبر الصوت تسمع الكلمات النابية غير المهذبة وعند فتحه تتناهى إلى الأسماع كلمات معسولة منمقة. ونحن نقبل بهذا كله بل نعتبره ضرورة هامة في حياتنا. إننا نعيش متأثرين بالأفلام والمناهج المدرسية. عندما نرى إنساناً لطيفا يسترعي انتباهنا وكأنه شخصية أتت من التاريخ، غريبة لا تمت بصلة إلى ما حوله

والأعجب من ذلك أننا حين نرى شاباً خلوقاً مهذباً وبدل أن نقول: ما شاء الله على حسن خُلُقه، وندعو له أن يحميه الله ويبارك فيه، نقول: إنه "يشبه الفتاة" ولكأنما اللطافة لا تليق بالرجال. فالتمتع بالأخلاق ولطف التعامل أصبح قصراً على جنس دون سواه. وهذا أمر غير مقبول على الإطلاق. فالأخلاق هي الدين بعينه. لا داعي لتشبيه من كان على خلق كريم بالفتاة، بل يجب وصف كل من يتمتع بخلق حسن بأنه ذو أخلاق شبيه بأخلاق الرسول ﷺ

أحمد طاش غاتيران: إذا ما حاولنا تلخيص الأفكار في إطار واحد فهل يمكننا القول إن هناك مفهوم لأخلاق المؤمن يمكننا أن نضعه أمام الناس ونقول لهم "هذا هو شكل أخلاق المؤمن، تعلموها وطبقوها في حياتكم"؟

نور الدين يلدز: سأوضح الأمر، الأخلاق هي ألا نكذب على الآخرين، هذه أكبر وأهم قاعدة أخلاقية. عندما كان رسول الله ﷺ يُسأل: "هل يزني المسلم؟ هل يلعب القمار؟" كان يقول يمكن أن يفعل ثم يتوب. أما عندما كان يُسأل هل يكذب المسلم؟ فكان يرفض ذلك ويؤكد أنه "لا يفعل، لا يفعل". فالكذب ظلم مبين للطرف الآخر. الكذب هو أكبر دليل على انعدام الأخلاق. والآن سأجيب على سؤال "أين مفهوم أخلاق المؤمن؟". الصيام أحد العبادات الخمس ولا داعٍ لشرح فضائل الصوم. يقول الرسول الكريم ﷺ: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه." أي إذا كنت رجلاً كاذباً فصيامك ليس بصيام. وإذا تساءلنا أين هي الأخلاق من المؤمن فلن نجد إجابة سوى: توجد الأخلاق حيث يوجد الصيام. أين هو الصيام في حياة المؤمنين اليوم؟ إذا ما كان مجرد عادة مزخرفة، فالأخلاق أيضاً عادة مزخرفة. الصيام هو الذي يقيّم المسلم ويجيب على سؤال "هل هو مسلم حقاً أم لا؟" وكذلك الأخلاق

أحمد طاش غاتيران: تدخل العقيدة القلوب عندما يدخل القرآن القلوب، وعندما يدخل الرسول الكريم ﷺ إلى الحياة يتحلى الناس بالأخلاق الواجب على المؤمن التحلي بها

نور الدين يلدز: إن الاسلام دين أصحاب الخُلُق القويم، يمكن تشبيه ذلك عندما نضع اللبن الأبيض في كوب نظيف براق. لا يمكن أن يكون الإسلام دين الزاني أو لاعب القمار. وكما أننا لا نضع اللبن في كأس قذر كذلك لا يمكن للإسلام أن يكون ديناً لعديمي الأخلاق إنهم يرفضونه ويولون بعيداً هرباً منه

أحمد طاش غاتيران: هل هناك استعداد خُلُقي للتوجه نحو الأخلاق؟ هل هذه الفكرة صحيحة؟ هل نصل بارتداء رداء الإسلام إلى الأخلاق؟

نور الدين يلدز: يولد الإنسان بفطرة سليمة. لكن قد تقوم عوامل من المحيط بإفسادها، وهنا يأتي دور الإسلام بتصحيح الفطرة وإعادتها إلى أصلها. إن الإنسان يُخلق سليماً صحيحاً نظيفاً ثم يعكره الكفر ويشوه الشيطان فطرته.  يشير الرسول ﷺ إلى هذا بقوله: "كل مولود يولد على الفطرة."

أبسط مثال على ذلك صدق الأطفال، فالأطفال لا يستطيعون الكذب، بل ونراهم يُصدقون والدهم حتى لو تكلم كذباً. فلا مكان للكذب في فطرة الطفل. ولكن فيما بعد يتفوقون على والدهم في اختلاق الأكاذيب

أحمد طاش غاتيران: يهتم الناس في العادة بتعلم كيفية الصلاة والصيام. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يجب أيضاً تعلم الأخلاق أم أن تعلم الصلاة والعبادات أمر كاف لاكتساب الأخلاق؟

نور الدين يلدز: قد لا تفيد الصلاة البعض في اكتساب الأخلاق وتعلمها كما يجب، ناهيك عن أن الشيطان يوسوس في أذن المصلين الكثير من الأكاذيب المنمقة المعسولة. وأنا أعتقد أن تدريس الأخلاق لا يكون كتدريس العلم وتلقين المعلومات لأنه عندما تتحول الأخلاق إلى كتاب ومعلومة، فمن السهل حينها أن تُؤلف نظريات معاكسة لها تطعن بصحتها

أحمد طاش غاتيران: فإذن كيف يمكن أن يكتسب الإنسان الأخلاق ويتعلمها؟

نور الدين يلدز: لكي نتعلم أخلاق الدين كل ما علينا فعله هو قراءة رياض الصالحين، قراءة الأحاديث الشريفة والتمعن في صفات وشخصية رسول الله ﷺ. أما الأخلاق المصنفة إلى معلومات وفصول فإنها أشبه ما تكون بالفلسفة. مثلاً إذا أردنا تعليم طفل أخلاق الرسول ﷺ وقدمناها له على شكل معلومات في كتاب، فإن هذا الكتاب سيحتوي على معلومات دخيلة من كتاب آخر ومن فكر آخر، لذا فمن الأفضل أن يتعرف الطفل على الرسول ﷺ من خلال الأحاديث مباشرة فيحفظ مئة حديث مثلاً.

أحمد طاش غاتيران: هل تعني أن نروي للطفل كيف كان يعيش الرسول ﷺ وكيف كانت شخصيته؟

نور الدين يلدز: يقول حديث نبوي شريف: "حق المسلم على المسلم ست. قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّته، وإذا مرض فَعُدْه، وإذا مات فاتبعه." . إذا ما حفظتُ هذا الحديث فهذا يعني أني سأعمل به وسأراعي الأسس الستة التي وردت فيه طالما أنني مؤمن. لذا فأنا أرى أن تحفيظ الأحاديث أمر ضروري للأطفال. مثلاً يتضمن كتاب رياض الصالحين أكثر من خمسمئة حديث والطفل الذي يتعلمها ينشأ نشأة مشابهة لنشأة أنس بن مالك.

أحمد طاش غاتيران: أود أن أسألك عن العلاقات في المجتمع كيف يجب أن تكون؟ مثلاً: حياة الأسرة، كيف يجب أن يتعامل الأزواج مع بعضهم البعض؟ ما هي معايير الأخلاق في علاقة الوالدين بالأولاد؟ ما هو السلوك الصحيح للأولاد مع الوالدين والأجداد والجدات والأقارب المتخاصمين. فلنبدأ بكيفية تعامل الزوجين في إطار الأخلاق، كيف يجب أن تكون؟

نور الدين يلدز: لنتذكر المعايير التي تكلمنا عنها آنفاً. لقد قلنا إن أخلاق المؤمن هي دينه. المؤمن يُعرف من مدى التزامه بدينه والملتزم بدينه ملتزم بأخلاقه دون شك. فالدين هو الأخلاق بعينها والأخلاق هي الدين بعينه، بمقدار ما أتمسك بديني أتمسك بأخلاقي. ما هي النتيجة الطبيعية لهذا؟ كم نقضي من أوقاتنا في المنزل، وفي العمل وفي الجامع، يجب توزيع الأخلاق بحسب هذه النسبة. إذا ما حسبنا النسبة المئوية لتواجدنا في كل من هذه الأماكن فيمكننا أن نعرف نسبة أخلاقنا. نحن بحسب ما تقتضيه متطلبات الحياة اليوم نقضي 55- 60 في المئة من أوقاتنا في المنزل و5 في المئة في المسجد وإذا ما سُئل أصدقائي عن أخلاقي عندها ستكون إجابتهم أنها لا تتعدى الخمسة في المئة ذلك أن هذا هو الوقت الذي أكون فيه في المسجد فحسب. فأنا في المسجد لا أنام ولا آكل كل ما أقوم به هو عبادة الله. ولكن حساب نسبة أخلاقي على أنها الوقت الذي أكون فيه في المسجد فقط أمر غير صحيح. وقد أشار عمر رضي الله عنه إلى ذلك

أحمد طاش غاتيران: كيف ذلك؟

نور الدين يلدز: أشار عمر رضي الله عنه إلى أنه علينا ألا نغتر بقيام شخص وقعوده في صلاته، بل علينا أن ننظر إلى تجارته. علينا ألا ننظر إلى الوقت الذي يقضيه في المسجد وحسب حتى نُقَّيم أخلاق إنسان. إذا ما كان يقضي خمسة في المئة أو ربما عشرين في المئة من وقته في المسجد وثلاثين في المئة في العمل فإنه يقضي خمسين في المئة من حياته في المنزل

أحمد طاش غاتيران: أي أن نصف أعمالنا التي تُكتب عند الله تعالى تُكتب ونحن في منازلنا

نور الدين يلدز: نعم بالضبط. نمضي قسماً كبيراً من حياتنا في المنزل. إن المكان الذي توجد فيه وسادتك والذي تنام فيه هو مكانك الأساسي. أما مكان العمل مثلاً فليس كذلك بالطبع. عندما تُمتحن أخلاق المؤمن تُمتحن وهو في منزله لأنه المكان الذي يقضي فيه نصف وقته على أقل تقدير. والنقاط التي يحصل عليها من ذلك كافية لتجعله يجتاز معدل النجاح. وفي حال الحصول على النقاط التامة في المنزل فإنه يكفي الحصول على اثنين أو ثلاثة في المئة من مكان آخر لتجاوز معدل النجاح. ولكن المؤمن الذي لا تكون أخلاقه كما يجب داخل منزله، لا يحصل على النقاط الكافية وسيكون من الصعب أن يحصل على نقاط من أي مكان آخر ليتجاوز معدل النجاح. فالمسجد هو المكان الذي نؤدي فيه واجباتنا تجاه الله عز وجل، أما الأخلاق فهي تتعلق بعلاقتنا مع الآخرين

أحمد طاش غاتيران: إذن ما الذي علينا القيام به في المنزل لكي لا نخسر نسبة الخمسين في المئة؟

نور الدين يلدز: إن الخلافات بين الأزواج هي أكبر مشكلات الأسرة. في زمن الرسول ﷺ كثُر الحديث عن المشاكل الأسرية في المسجد في المدينة المنورة وكانت النساء تأتين لتشتكين أزواجهن، فاشتكى عمر رضي الله عنه النساء إلى رسول الله ﷺ. عندها نهض الرسول ﷺ وقال: إن أقرب المؤمنين له يوم القيامة هو أفضلهم خُلقاً وبأن أفضلهم خلقاً هو من يعامل زوجته معاملة حسنة. أين يقول ذلك؟ إنه يقوله في المسجد عند صلاة الصبح. يثبت هذا الحديث أن المسجد لا يملأ مكان المنزل في حين أن المنزل يملأ مكان المسجد

أحمد طاش غاتيران: كيف تكون هذه المعاملة الحسنة؟

نور الدين يلدز: ترد في القرآن كلمة "المعروف" دلالة على طريقة التعامل داخل المنزل دون التطرق إلى ذكر أفعال معينة. والمعروف هو الأمر الجيد الحسن المناسب للمعايير. لماذا لم تُذكر أفعال معينة؟ لأن هذا يتغير مع الزمن. للفقهاء شروحات غريبة في هذا الصدد. فهم مثلاً يقولون إذا ما تزوج الرجل بامرأة غنية (أو المرأة برجل غني) فعليه هو أن يحدد معايير التعامل معها أو بعبارة أخرى أن يُحدد معايير المعروف. أما إذا تزوج الرجل بامرأة فقيرة فالأمر أسهل فهي لا تنتظر منه الكثير

يُحكى أن ابن عباس رضي الله عنه ابن عم الرسول ﷺ ومفسر القرآن الكريم كان يوماً في طريقه إلى منزله فانحنى على بركة ماء ونظر إلى انعكاس وجهه عليها ثم قام بتسريح شعره وذقنه. فتعجب أصدقاؤه الذين كانوا برفقته ومازحوه قائلين: ما بال مفسر القرآن الذي تقدم به السن يُسرح شعره الأبيض. وكأنهم يقولون له "سواء سرحت شعرك أم لم تفعل فلا فرق." وانتظروا جوابه لعلمهم بأنه سيكون مرشداً لهم في حياتهم. فقال لهم: امنحوا زوجاتكم ما تريدونه منهن. إن هذا ما يوصي به القرآن. أي أعطي الزوجة بمقدار ما تريده، وإذا طلبتَ من زوجتك أن تكون جميلة فكن أنت كذلك

عندما أذهب إلى منزلي أريد أن ألقى زوجتي جميلة وأنيقة لذا أقوم أنا أيضاً بذلك، هذه هي أخلاق المؤمن. ولكن إن كنت فهمت من هذا أن عليك وزوجتك الذهاب إلى صالون الحلاقة فإنك لم تفهم شيئاً من الإسلام. إن مقياس الرجولة لدى ابن عباس هو: إن كنت لا أريد أن تصرخ زوجتي في وجهي فعلي ألا أصرخ أنا في وجهها، وإن كنت أريدها أن تسرح شعرها فعلي أنا أيضاً أن أسرح شعري. أن يكون للزوج الحق في أن يطلب دون أن يكون للزوجة نفس الحق ليس من الأخلاق. هذه أكبر المشكلات التي تعانيها الأسر. لا يحق للرجل الطلب والأمر وفرض رغبته على زوجته، من لا يعطي الحق لزوجته أن تعامله كما يعاملها فلم يعلمه القرآن الذي علم ابن عباس

أحمد طاش غاتيران: كيف على المرآة أن تكون؟ وكيف على الرجل أن يتصرف عندما تطلب زوجته منه شيئاً؟

نور الدين يلدز: لقد شرحنا ذلك بنموذج ابن عباس، لا فرق بين الرجل والمرأة في الإسلام! الكل عباد الله

أحمد طاش غاتيران: عندما نعطي مثالاً عن تعامل الزوج مع زوجته فقد يُفهم أن هذه المعاملة تقتصر على الرجل، أو عند ذكر مثال عن المرأة قد يُفهم أن هذه الأخلاق مطلوبة من المرأة فقط. أليس كذلك؟

نور الدين يلدز: عندما نقول علينا مراعاة صحتنا: على النساء ألا يرتدين ثياباً رقيقة في الشتاء، هل هذا يعني أن النساء فقط هن من يجب ألا يرتدين ثياباً رقيقة في الطقس البارد؟ هل هذا يعني أن الرجال يمكنهم ارتداء الملابس رقيقة في الشتاء؟ هل هذا ممكن؟ إن الخطأ يبدأ من التفكير بهذه الطريقة دوماً

ما يقوله الله تعالى في كتابه العزيز ورسوله ﷺ في سنته إنما هو من أجلنا جميعاً؛ لافرق بين رجل أو امرأة. والقرآن يؤكد على الذكر والأنثى على حد سواء. لذا فإننا ندعو أخلاقنا بأخلاق المؤمن ولا يمكننا أن نجعلها تقتصر على المرأة فقط أو على الرجل فقط

علينا أن نوضح هنا أمراً هاماً يختلط على الكثيرين، فتوضيحه يحمل فائدة عظيمة للمتزوجين حديثاً أو للأسر المتخاصمة. فلنقل مثلاً إننا زوجنا ابنتنا عائشة لأحمد، وعُقِد القرآن على سنة الله ورسوله وأصبح الاثنان أسرة واحدة فللزوجة مسؤوليات أمام زوجها وللزوج مسؤوليات أمام زوجته. وهنا تبدأ المشكلة

أحمد طاش غاتيران: كيف؟

نور الدين يلدز: سأشرح ذلك. لماذا تحمل المرأة مسؤولية تجاه زوجها في بيت أُسس باسم الله؟ إن صاحب البيت هو الله تعالى وعندما تقوم أنتَ بوظيفتك كرجل وأنتِ بوظيفتك كامرأة فإن كل منكما سينتظر الثواب من الله تعالى وسيخشى العقاب منه. فالله هو من يطالب الزوجين بالواجبات وهو من يحاسبهما على حسن تأديتهما لهذه الواجبات. لو أن بيوتنا تبنى على الأخلاقيات التالية: مثلاً أن تقول المرأة لزوجها إنني لا أرفع صوتي أمامك حياءً من الله تعالى، فهي عند ذلك تسبق زوجها وتتفوق عليه في حسن الخلق وستجد الله تعالى إلى جانبها. وللأسف كثيراً ما تحاول الزوجة أن تنتزع حقوقها من الزوج انتزاعاً والزوج لا يمنحها إياها، وكثيراً ما يحاول الزوج انتزاع حقوقه فتلجأ الزوجة إلى المحكمة أو إلى أمها أو إلى محيطها لتحارب وتناضل من أجل نيل حقوقها، وفي النتيجة لا يحصل أي طرف على ما يريد. لكن عندما تتأسس الأسرة، ألا تُؤسس باسم الله تعالى؟

مثلاً عندما ترى امرأة تقوم بكيِّ قميص زوجها فتسألها ماذا تفعلين؟ تقول إنني أقوم بكيِّ قميص زوجي، وإذا قلت لها لا تفعلي فتقول هذا غير ممكن فزوجي يهتم بهذه التفاصيل. إن هذا خاطئ. وحري بها أن تقول إن زوجي سيرتدي قميصه بأفضل شكل بينما أنا سأجد ثوابي عند ربي. يذكر حديث نبوي شريف أن الرجل إذا أطعم زوجته لقمة فإنها تحتسب له صدقة. فماذا سيكون ثوابه إذن عندما يأتي محملاً بأكياس الطعام ويلبي احتياجات منزله؟

إننا نعتقد أن الصدقة هي التبرع بالغذاء لإفريقيا وحسب، إلا أن رسول الله ﷺ يخبرنا أن مساعدة الأزواج لبعضهم البعض يُعد "صدقة". هذا أمر هام للغاية. لذا فإن سلوكنا الحسن في المنزل يدل على مدى التزامنا بالأخلاق الحميدة. كل ما نفعله ونقوم به يجب أن يكون من أجل الله. إذا قال الرجل: "إنني أتصرف بلطف مع زوجتي لأنها أمانة من الله"، وقالت المرأة: "إنني أحترم زوجي لأن الله يريد مني ذلك ورسوله ﷺ يأمرني بذلك."، إذا ما وصلنا إلى هذه المرحلة من الأخلاق فلن يجد الشيطان مكاناً بيننا. لأننا عندها سنكون قد وصلنا إلى مستوى رفيع من الأخلاق. عندها لا ترى قميصك الذي نسيت زوجتك كيه ولا تسمع صوت حماتك وهي تصرخ. إن من ينظر إلى المسألة من زاوية ضيقة فيقول: "سأجبر زوجتي على كي قميصي." ويحاول اللجوء إلى القوة سيلجأ فيما بعد إلى المحكمة عندما لا يجد قميصه مكوياً. أو عندما تقول المرأة: "على الرغم من أنني كررت له طلبي نسي أن يأخذني إلى بيت والدتي." سينتهي بها المطاف لتقول سأذهب بنفسي ولن أعود

هناك اختلاف كبير بين أن نفكر بأفق واسع أو بأفق ضيق محدود. الأخلاق منزلة من عرش السماء

أحمد طاش غاتيران: كما هو الأمر بالنسبة إلى الأسرة كذلك هو بالنسبة إلى حياتنا الاجتماعية وحياة العمل. كيف يجب أن تكون أخلاق المؤمن في هاتين النقطتين؟

نور الدين يلدز: عندما تكون أخلاق المؤمن جيدة في منزله فيكفي التنبيه لأمرين: الأول هو عدم التعدي على حقوق الآخرين سواء من الناحية المادية أو المعنوية كالتأخر في دفع الدين أو حتى الدوس على قدم الآخر والغيبة... هناك الكثير من الأمثلة على ذلك. فإذن الخط الأحمر الأول هو ألا نُسأل عن حق أحد يوم القيامة. مثال على ذلك: عندما تقود عربتك بسرعة خمسين كيلومتراً فعليك أن تترك مسافة بينك وبين السيارة التي تتقدمك، مسافة لا تقل عن الخمسة وعشرين متراً. فإذا ما اقتربت عشرة أمتار فإنك تخيف راكب السيارة التي أمامك إذا كان لا يتقن القيادة. رغم أنك لم تصدمه لكنك تكون قد أخفته وهذا انتهاك للحقوق

والأمر الثاني هو اللطف في التعامل والحديث الطيب والابتسام. يصف الرسول ﷺ تبسمنا في وجه المؤمن بأنه صدقة. علينا التصدق قدر المستطاع. إذا استطعت عدم تعدي هذين الخطين الأحمرين فعندها ستتمتع بأخلاق حميدة. هذان الأمران مشمولان ضمن أخلاق المؤمن في منزله ولكن يضاف إليهما نقاط أخرى ثالثة ورابعة وخامسة في المنزل

عندما نتكلم عن علاقات العمل نتكلم دائماً عن علاقة رب العمل بالعاملين وننسى أن نذكر علاقة العاملين ببعضهم البعض فهم أيضاً لهم حقوق يجب أن يراعوها تجاه بعضهم، كأن يرتكب أحدهم خطأ يتسبب بمعاقبة العمال الآخرين أو أن يتكاسل ويتقاعس عن تأدية عمله فيبطئ سير العمل. كأن يتسبب عامل في مشغل للخياطة بإبطاء سير العمل وينتج ثمانية عشر قميصاً بدلاً عن عشرين فيقوم صاحب العمل باقتطاع ثمن القميصين من جميع العاملين. هذا هو حق العبد. ونحن نظن أن من يسرق قميصاً هو فقط من يعتدي على حق العبد

أحمد طاش غاتيران: هل يمكننا الحديث عن التعاون على الأخلاق؟ نحن مجتمع مسلم ولكننا نعلم أننا نعاني من ضعف في أخلاقنا. كيف يمكننا إنشاء مجتمع جديد؟

نور الدين يلدز: أولاً علينا تجنب الكذب وثانياً الغيبة وثالثاً النميمة ورابعاً علينا مراعاة الحقوق المادية. عندما نقوم بتلك الأمور الأربعة سيرتقي مجتمعنا تماماً كالزهور التي تتفتح عندما يذوب الثلج. الكذب عائق كبير أمام الأخلاق فلا أخلاق مع الكذب

أحمد طاش غاتيران: إن أكثر الأمور التي ذكرتها تتعلق باللسان

نور الدين يلدز: نعم هو كذلك. فأكثر ما نؤذي به بعضنا هي ألسنتنا. نحن لا نضرب بعضنا لأننا نعرف أن الشرطة قريبة ومتواجدة على ناصية الشارع. أما الكذب فلا يحتاج إلى تدخل الشرطي. ولا تستدعينا المحكمة عندما نغتاب بعضنا. لكننا سنحاسب على الغيبة في المحكمة العليا والمشكلة تكمن هنا. والأمر الرابع هو مراعاة الحقوق المادية. تبقى هناك بعض الأمور الأخلاقية التي تحتاج تقويماً، ولكن عندما تستقيم أخلاقنا تزداد ثقتنا ببعضنا البعض ونعتمد على بعضنا البعض، عندها سنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر وسنشجع بعضنا على فعل الخير وسنقوم به لنكون أمثلة يحتذى بها. عندما لا نتخلص من الكذب والغيبة، وعندما لا يزعجني أن نُقودُ فلان التي لا تزال بحوزتي أو عندما لا أكترث لصوت سيارتي الذي يزعج الآخرين فهذا يعني أني لا أتمتع بأخلاق حميدة

أحمد طاش غاتيران: أشكرك أستاذي الكريم


الاستغفار والدعاء

(قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) (الفرقان، 77)

إذا كان دوام اللجوء إلى الله تعالى هو حال الأنبياء والأولياء والصلحاء، فما بالنا بحال أصحاب الذنوب والخطايا والأهواء؛ إنهم أشد احتياجًا للأوبة إلى كنف الله تعالى واستغفاره والتضرع إليه، ولا يُتصوَّر أن عبدًا مهما بلغ يمكنه تحمل البعد عن الجناب الكريم، وكأنه كوكب يدور حول شمسه، فإذا انفلت من جاذبيتها ضل في التيه وتخبط في الفضاء حتى يبتلعه نجم أسود، فيظل إلى يوم القيامة يتخبط في أعماق الفناء

لا يستغني امرؤ عن الدعاء والاستغفار مهما كان نبيًا أو وليًا صالحا، فلا ينجو بشر من زلل، ولا يسلم آدميٌ من خلل، والذي يمكنه محو آثار كل زلل وإصلاح كل خلل إنما هو الدعاء والاستغفار، الذي يُقرِّب العبد من ربه مجددًا، لأنه في حقيقته هو الالتجاء والندم

كما أن كلمة «الصلاة» في اللغة العربية تعني «الدعاء»، ولعل الحكمة من ذلك أن الصلاة هي أشمل وأكمل أشكال الدعاء والالتجاء إلى الله سبحانه

كما أن الدعاء يبدأ بالاستغفار وطلب العفو من الله عزَّ وجل، والتبرؤ إليه سبحانه من كل الذنوب والخطايا، فعلى قدر عزم العبد على ترك الذنب، وعلى قدر شعور العبد بالندم على الذنب، يكون زوال أثر ذلك الذنب من صفحة القلب، ويكون مقدار صفائه وجلائه من جديد، فيصير حينها كالمرآة الصافية التي تنعكس عليها الحقيقة بكل وضوح وجلاء، وحينها يصير مؤهلًا لاستقبال الفيوضات والتجليات النورانية

والحديث الشريف التالي ينبِّه الناس ويرشدهم إلى ضرورة تصفية القلوب، ويبيِّن أن القلوب التي أظلمت بالذنوب لا يُنيرها شيء كالاستغفار

«إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت في قلبه نكتةٌ سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سُقل قلبه، وإن عاد زيدَ فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)» (الترمذي، التفسير، 83)

والخطوة الأولى في التقرب إلى الله تعالى هو الاستغفار، لأنه إعلان عن عجز العبد، وتبرئه من حَوله وطَوله، وخروجه عن قوته وإرادته، وإعلانه اللجوء إلى الله تعالى، والاستسلام التام له سبحانه، وهو وسيلة استجلاب رحمات الله تعالى، والنجاة من ابتلاءاته وامتحاناته، وهو المجنُّ الذي يصد سهام القضاء، والدرع الذي يقي من نصال البلاء؛ لذا كان الاستغفار مقدمًا على الشكر، وكان الاستغفار هو البداية الصوفية للدروس المعنوية مهما تعددت الوسائل التربوية والطرق الصوفية

وليس أبلغ من آيات الله وقرآنه العظيم في بيان أهمية الدعاء؛ يقول الله عزَّ وجل

(قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) (الفرقان، 77)

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة، 186)

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف، 55)

كما تبين الأحاديث النبوية الشريفة أيضًا أهمية الدعاء وعظيم أثره، فيقول المصطفى صلى الله عليه وسلم

«ليس شيءٌ أكرم على الله تعالى من الدعاء» (الترمذي، الدعوات، 1)

«منْ سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء» (الترمذي، الدعوات، 9)

«منْ فُتح له منكم باب الدعاء فُتحت له أبواب الرحمة» (الترمذي، الدعوات، 101)

«ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه» (الترمذي، الدعوات، 65)

وللدعاء آدابه وشروطه التي نتعلمها من الأحاديث النبوية السابقة؛ لعل أبرزها حضور القلب، والشعور بجلال الموقف وهيبة المدعو وقدرته، كما أن التوسل بالضعفاء والفقراء والصلحاء من أسباب الإجابة، فلعلهم هم الأولى برحمات الله تعالى وتنزلات قدرته، فذلك النبي صلى الله عليه وسلم يطلب من الله العون والنصر متوسلاً بفقراء المهاجرين، يقول صلى الله عليه وسلم

«ابغوني الضعفاء، فإنما تُرزقون وتُنصرون بضعفائكم»

وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم أثناء ذهابهم إلى الجهاد يطلبون دعاء أصحاب الصُّفَّة بالنصر إضافةً إلى أدعيتهم

ويقول الإمام الرباني -قدس الله سره- في هذا الشأن

«إن الفتح والنصر على قسمين: ظاهر وباطن، أما ظاهر النصر وصورته فهو ما ارتبط بالأسباب وكان متعلقًا بالعدة والعتاد، معتدًا بكتائب العسكر والسلاح، وأما الباطن أو حقيقة الفتح والنصر، فهو ما كان معتدًا بكتائب الدعاء، متسلحًا بعتاد الضعف بين يدي الله تعالى، وسلاح الانكسار لجلاله، حينها يكون أقوى العدتين؛ بل تصير كتائب الدعاء هي الروح والقلب لكتائب العسكر، فلا تمنح النصرة من الله إلا لقلوب تستحق التأييد الإلهي»

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم

«ما دعوة أسرع إجابة من دعوة غائب لغائب» (الترمذي، البر، 50)

أي إن من أهم أسباب الإجابة للدعاء، ورفعه إلى السماء، وتحققه في القضاء، هو أن يدعو الإنسان لأخيه بظهر الغيب؛ لأن الغياب بعيد عن التملق والتصنع، وهو دليل على الإخلاص والصدق، وليس أضمن لقبول الدعاء عند الله من هذين الشرطين: الإخلاص، والصدق، إضافة إلى قبول الداعي عند الله عزَّ وجل

وثمة مسألة في أسباب قبول الدعاء قد تلتبس على المرء، فيتساءل بعضهم هل يلزم أن تجتمع كل الأسباب والشرائط لتتم الإجابة، بحيث إذا فُقد شرط امتنعت الإجابة؟

لا ريب في أنَّ تحقق كل الشروط، واجتماع كل الأسباب هو أبلغ وآكد في الإجابة، لكن فقدان شرطٍ لا يعني فقدان الإجابة، فإذا دعا العبدُ المذنبُ لأخيه بظهر الغيب مخلصًا تقبل الله دعوته، لأن ذنبه على نفسه، وحري بالله الكريم ألا يتركه ويتحاشاه لفقد معظم الأسباب، فربُّ الأسباب سبحانه يتقبل حتى من عباده العصاة أقل الأسباب؛ ولعل أن يكون في ذلك خطوة يقترب بها العبد من باب مولاه

وسأل الصحابة الكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم

أي الدعاء أسمع؟ قال

«جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات» (الترمذي، الدعوات، 78)

فإذا سبق الاستغفارُ الدعاءَ وصاحبه الندم، وقارن العزم على ترك الذنب حرارة الدعاء، وخرج ذلك كلُّه من أتون قلبٍ متَّقدٍ بالتفكر في معاني الدعاء وألفاظ الرجاء، كان ذلك أحرى بالقبول وأجدر بالوصول

وثمة بريدٌ أسرع ورسول أبلغ في إيصال الدعاء، إنه العمل الصالح، وهي حقيقة قررتها آيات القرآن الكريم؛ إذ يقول الحق تبارك وتعالى

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر، 10)

فإذا جمعت الخوف إلى الدعاء، ثم قرنت مع الخوف الرجاء، وأتبعت ذلك بالاستغفار، وصَدَر ذلك كله عن قلب منكسر وطرف باكٍ، كان ذلك الدعاء أبلغ وأسمع

ويقول مولانا جلال الدين -قدس الله سره- في موضوع التخلص من أمراض القلب وقَبول الدعاء

«تُب إلى الله، وادْعُ بفؤاد منكسر وعين ندية، فالزهور تتفتح في الأماكن المشمسة الرطبة!»

وأول منْ بدأ التوبة هو سيدنا آدم عليه السلام أول الأنبياء وأمُّنا حواء حين ابتهلا إلى الله تعالى

(قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف، 23)

وغدا هذا الدعاء مثالًا تدعو به ذريتهما من بعدهما إلى قيام الساعة

ويدعو الله تعالى عباده إلى التوبة كي ينبِّههم من غفلة القلوب ويشفيهم من الأمراض المعنوية، فيقول عز منْ قائل

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (التحريم، 8)

فإذا كانت الآية الكريمة تطلب التوبة النصوح من الذين آمنوا، فمعنى ذلك أن العباد مهما علت درجاتهم وبلغت منازلهم مُعرَّضون لخطر المعصية، فالقلوب أشدُّ تقلبًا من القِدر حين تغلي، والعبد ليس في عصمة عن شراك المعصية، وحبائل الشيطان

ولهذا كله يُعلِّم ربنا تبارك وتعالى العبادَ الدعاء التالي

(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران، 8)

وقد جعل نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم هذا التعليم الإلهي وِرداً له، فكان دائماً ما يردِّد

«يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك» (الترمذي، القدر، 7)

ويقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً

«من لزم الاستغفار، جعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب»

ويقول: «أنزل الله عليَّ أمانَين لأمتي (وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» (الترمذي، التفسير، 8/3082)

والدعاء والاستغفار من أهم الوسائل في تطهير القلوب، وتشير الآية الكريمة الآتية إلى أهمية الدعاء في تطهيرها من الأدران المعنوية

(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر، 10)

ذلك التطهير المطلوب من أدران القلوب، يبدأ أولاً بالتخلص من السلبيات والآفات وكافة المثبطات التي تعيق عن بلوغ الهدف، ثم إعداد القلب وتجهيزه وتدريبه ليبدأ عمله الضروري، ويسير في طريقه الفطري ليبلغ هدفه الأساسي

وقدوتنا في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو الله تعالى، ويلجأ إليه سبحانه في التخلص من هذه السلبيات والآفات، يقول صلى الله عليه وسلم

«اللَّهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستجاب لها» (مسلم، الذكر، 73)

«اللَّهم اغسل عنِّي خطاياي بماء الثلج والبرد، ونقِّ قلبي من الخطايا كما نقَّيت الثوب الأبيض من الدنس» (البخاري، الدعوات، 39)

ولا يتحقق الوصول إلى درجة القلب السليم إلا بألطاف من الله عزَّ وجل، وهذا ما أقر به أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام، نتبين ذلك من دعائه القرآني القائل

(وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ. يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء، 87-89)

وكان النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم يلتجئ إلى ربه ويبتهل إليه كما كان يفعل سيدنا إبراهيم عليه السلام، فكان من دعائه

«وأسألك لسانًا صادقًا، وقلبًا سليمًا» (الترمذي، الدعوات، 23)

ومن الأمور المهمة في الدعاء أيضًا الإلحاح؛ والتكرار والثبات في الدعاء من سُنن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يُظهر مدى الفاقة والتذلل لله عزَّ وجل، أما الثبات فيعني التمسك بالأمل في الإجابة، واليقين بأن الله تعالى يرى لعباده ما هو أصلح لشأنهم، فإذا ما استوثقت من شروط الإجابة، فتيقن من القبول، ولا تظهر الفتور، ولا تستبطئ الاستجابة، فربما أخَّر الله تعالى دعوتك إلى حينٍ معلوم، أو بدَّلها لقدر محتوم، أو عوضك عنها يوم القيامة بأجر عظيم


الاعتداء على المفاهيم الإسلامية

يقول أحد المفكرين: إذا أردت تغيير أمة، فابدأ أولاً بتغيير كلماتها ومفرداتها!

الإنسان يفكر بالكلمات، ويوسع آفاق فكره باللغة. لهذا لا يستطيع المرء اكتشاف طريقه نحو آفاق التفكير الإسلامي الواسعة بلغة ضُيِّقَ نطاق كلماتها ومفرداتها، أو تضاربت معاني مفاهيمها.  يقول أحد المفكرين: "إذا أردت تغيير أمة، فابدأ أولاً بتغيير كلماتها ومفرداتها!

فقد جرى خلال فترة من الفترات في البلاد الإسلامية تحميل كلمات ذات أصول دينية مثل "الشريعة، والطريقة، والتكية، والمرشد، والمريد، والذكر، والجهاد" بمعاني سلبية ومستهجنة، وجُعلت أسيرة لها في أذهان الناس. وذلك كان أساساً لوقوع الكثير من المسلمين الأبرياء إما في دائرة الإدانة والاتهام أو الحرمان

واليوم تتعرض الكثير من المفاهيم الإيجابية مثل "التصوف، والطريقة، والجماعة، والإمام، والخدمة، والطاعة، والتسليم، والإخلاص" لخطر محدق متمثل بفقدان أهميتها بسبب الذين يستغلون المشاعر والعواطف الدينية لدى الناس. والواقع أن الذنب ليس ذنب هذه المفاهيم، وإنما الذنب ذنب الذين يلوِّثون ويشوِّهون النزاهة والطهارة التي في داخلها

فكما أن المياه الملوثة بالأوساخ والطين لا تفقد جوهرها النقي، فكذلك لا يمكن أن تفقد الكلمات والتعابير التي صارت مثل حجارة لبنية التفكير الإسلامي أهميتها، ولا يصيبها خلل بسبب بعض ممن استخدموا روحانيتها مطيَّةً لأعمال ومصالح دنيوية

يوجد اليوم الكثير من المفاهيم التي لفها السواد واستهجنها الناس لمجرد استخدامها من قبل شرذمة من الاستغلاليين. مع أن مجتمعنا فيه الكثير من المخلصين لمحتوى تلك الكلمات، ومن أهل الصدق والاستقامة؛ وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها

والخلاصة أن أهل الفتن والفساد يلصقون بمفاهيمنا وتعابيرنا الإيجابية البنَّاءة بطاقاتٍ ولافتاتٍ  سلبية ومستهجنة. ويحاولون وضع جميع المسلمين موضع الإدانة والشبهة بسبب بعض ممَّن يستغلون الدِّين. إنهم يلعبون لعبة خبيثة وخسيسة لإلحاق الضرر بأفكارنا ومشاعرنا

التصوف

على سبيل المثال؛ يحتل مفهوم التصوف مكانة رفيعة في قلوبنا، إلا أن هذا المفهوم شأنه كشأن الكثير من المفاهيم الدينية الأخرى عرضةٌ لاتهامات وافتراءات كبيرة

هناك بصورة عامة سببان رئيسيَّان وراء الاعتراضات والاتهامات الموجهة إلى التصوف

أما الأول: فهو البعد عن حقيقة التصوف والجهل بها

والآخر: تقديم تطبيقات خاطئة للتصوف قام بها بعض الجاهلين أو ممن ليسوا أهلاً له، ثم إلصاقها كلها بأرباب التصوف

مع أن التصوف ليس بالشكل الذي استغله بعضٌ من ذوي النوايا السيئة، أو الكيان الذي أرادوا إظهاره

وإنما التصوف يُعد من القيم الأصيلة التي تشكل هويتنا المعنوية. فأرض الأناضول مثلاً مجبولة على التربية الصوفية منذ ألف عام. لذلك فإن التصوف موجود في عجينة وفطرة شعبنا

إن التصوف الحقيقي مدرسة للتربية، هو منهج تأديبي يجنِّب العبد كلَّ ما من شأنه إبعاده عن الله تعالى، ويوصله إلى التقوى

التصوف  اسم آخر لمقام الشرب من ينبوع التسليم للحق سبحانه وتعالى، وللمقام الذي يحمل العبد إلى أفق رفيع عال مثل "الإيمان و الإحسان

التصوف معركة مستمرة مع النفس لا تعرف الصلح

التصوف تربية للنفس وتزكيتها ووضعها في خدمة الروحانيات

التصوف توجه المؤمن الذي يسعى بقلبه إلى الكمال نحو المخلوقات بشعور الإيثار، وتحمله لمسؤولية تلبية احتياجاتها وتلافي نواقصها بمشاعر الشفقة والرحمة

التصوف ليس إيقاع الناس في المصائد، وإنما هو جعل القلب منبع رحمة يؤمِّن الطمأنينة والسلام للبشر كلهم من أجل انتشال حتى الذين سقطوا في المصائد

التصوف يعني التخلي عن الرغبات والشهوات الدنيوية  عند الحاجة  من أجل الآخرة،  ولكنه لا يتضمن أبداً  التخلي عن الآخرة في سبيل الدنيا مهما غلا الثمن

التصوف سعيٌ لتربية المشاعر الداخلية لدى الإنسان، والوصول به إلى كمال الشريعة في حياة العبودية. فالعبد لا يمكنه الوصول إلى الكمال من خلال قراءة السطور فقط، وإنما يحصل الكمال بتطهير حاله وعالم قلبه من كل الشوائب والسلبيات. فالتصوف بالنسبة إليه هو تطبيق شريعة نقية صافية وبراقة

التصوف سعيٌ لمعرفة رسول الله عليه الصلاة والسلام عن قرب بالمحبة، والالتزام بالدين بصورة تليق بجوهره وروحه من خلال نيل نصيب من شخصية النبي العظيمة وأخلاقه الرفيعة

فكل أمر يتناقض مع ما ذكرنا، ولا يستند إلى القرآن والسنة يُعد باطلاً مهما ادعى صاحبه التصوفَ أو نسب شيئاً إليه

وكذلك فإن التصوف هو الشعور بالعجر وإدراك ذلك إدراكاً تاماً مهما كان المقام أو المنصب الذي يشغله الإنسان. إنه طريق لإخراج الغرور، والكبر، والعجب، والأنانية من القلب، والتحلي بمشاعر نكران الذات. إنه الابتعاد عن نسبة أي نعمة أو توفيق إلى الإنسان، وإنما إضافة ذلك كله إلى الله عزّ وجل

التصوف هو العبودية للحق سبحانه وتعالى بقلب يحيط به الخوف والرجاء، أي الخوف من التعرض لغضب الله، والأمل بنيل رحمته

التصوف ليس تفاخرٌ بالذات ورياء، وإنما عيشٌ بحال التجاء دائم إلى رحمة الله تعالى خشيةً من لحظة خروج الأنفاس الأخيرة والحياة بعدها. هو الالتزام المستمر بالتواضع ونكران الذات. إن لجوء بعض ضعاف النفوس اليوم بتجاهل تام لكل ما ذكرنا من حقائق إلى وضع التصوف وطرقه التي هي مدارس للتربية في كفة واحدة مع الفرق الضالة التي تضرب بالأوامر والنواهي الإلهية عرض الحائط في سبيل المنافع الدنيوية لهوَ دليلٌ جليٌّ وصارخ على إضمارهم نية الشر والسوء

لقد كان المتصوفون الصادقون والحقيقيون على مر التاريخ مشاعل إرشاد تنير المجتمعات على الدوام. وقد صار عبد القادر الجيلاني، وبهاء الدين النقشبندي، ومولانا جلال الدين الرومي، ويونس أمْرَه، وعزيز محمود هُدائي وأمثالهم من أهل الحق منابع رحمة للمجتمعات التي عاشوا فيها. ولم يتساهلوا قيد أنملة مع أي عمل أو كيان من شأنه إلحاق أدنى ضرر بالدين، والوطن، والناس، والأمة، وكذلك أبدوا مقاومة وكفاحاً عظيماً في مواجهة مصادر الفساد والشر. ويُعد الإمام الرباني، وخالد البغدادي من أشهر النماذج في هذا المضمار

الجماعة

إن كلمة "الجماعة" تعبِّر حسب ما هو مترسخ في أذهاننا وقلوبنا عن مجتمع فاضل متميز تكاتفوا فيما بينهم لأجل رضا الله تعالى. ولا يمكن أن يكون المسلم أنانياً منزوياً أبداً، فهو مضطر بواقع حاله لأن يكون منتسباً إلى الجماعة الإسلامية، ومداوماً عليها، ومتمماً لها

وصلاة الجماعة عُدت أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين مرة. وصلاة الجمعة والعيدين لا يصح أداؤها فرادى، وإنما لا بد من أدائها في جماعة. وكذلك فإن الحج يُعد ملتقى اجتماعياً للمسلمين. وقد جاء في الحديث النبوي الشريف

الجماعة رحمة، والفرقة عذاب" (أحمد، جـ4، ص 278)

فكل ما تقدم يلقِّن المسلم شعورَ الجماعة دائماً

ومن جهة أخرى؛ نجد أن مسؤولية المسلم عن الآخرين وإنشاء المؤسسات الوقفية والخيرية انطلاقاً من هذا الإحساس بالمسؤولية  يُعَدُّ انعكاساً للحس الجماعي الموجود في المجتمع. فالجماعات تُعدُّ بالنسبة للمجتمع إحدى وسائل الرحمة

ولكن إقدام بعض الناس على تشكيل جماعة بقصد الإفساد، وإضفاء صبغة إسلامية عليها هو أمرٌ مردودٌ، وسببٌ لجلب غضب الله تعالى

يقول الله عزّ وجل في كتابه العزيز

(... وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوٰى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْاِثْمِ وَالْعُدْوَانِ...) (المائدة : 2)

إذاً؛ إن تشكيل جماعة للقيام بأعمال الخير، والتعاون على البر والتقوى أمر جائز ومقبول. وأما الاجتماع على العداوة والإثم والسوء والشر وإن كان على شكل منظمة أو فرقة فأمر مردود

لذلك فإن محاولة الحط من قيمة مفهوم "الجماعة" الذي يحتل مكانة مهمة ومتميزة في قلوبنا، ووضع كل الجماعات في كفة واحدة لوجود بعض الاستغلاليين، يُعد جنايةً بحق حقيقته الأصلية

لقد ظهرت عبر التاريخ الكثير من الفرق بمظهر ديني وتحركت لتحقيق مقاصد لا يقبل بها الدين. والمحاولات الجارية اليوم لإعلان كافة الجماعات والطرق على أنها منظمات مشبوهة وخطيرة بالاعتماد على مثل تلك الفرق المنحرفة لا تختلف أبداً عن وضع المتفجرات داخل الأسس المعنوية التي تحفظ تماسك الأمة ووجودها

فينبغي عدم إتاحة الفرصة للمحاولات الخبيثة التي تتذرع ببعض الذين يستغلون العقيدة الإيمانية لدى الشعب لتستهدف هوية "أهل السنة والجماعة" التي صارت كالشريان الرئيسي لهذه الأمة منذ ألف عام. إذ ينبغي التحلي بالفراسة والبصيرة والتحرك وفقها لإفشال هذه المخططات الخطيرة التي يرسمها أعداء الإسلام

إن الإصرار على رد كافة الجماعات والطرق جملةً وتفصيلاً بدلاً من توجيه النقد لأخطائها والعمل على إصلاحها يُعدُّ محاولةً لاقتلاع أحد شرايين هذه الأمة. فهذا العمل الذي يدل على الغفلة أو سوء النية لا يختلف أبداً عن محاولة قطع الجذع الذي تستند إليه أمتنا وحضارتنا منذ قرون طويلة. وهذا الوضع ليس من شأنه إلا إدخال السرور في قلوب أعداء هذه الأمة

وصفوة الكلام أن ردَّ أمرٍ ما جملةً وتفصيلاً بالاستناد إلى بعض النماذج التطبيقية السيئة له – دون مراعاة جوانبه الإيجابية – ليس إلا اشتراكاً بالجرم مع الذين أساؤوا التطبيق واستغلوا الأمر لمنافعهم الخاصة. فالأمر الذي ينبغي القيام به هنا هو التمييز بين الغث والثمين وفرزهما، وعدم الخلط بين الصواب والخطأ. فمثلاً؛ لا نستطيع رفض علم الطب لأن هناك بعض الأطباء يسيئون استخدام مهنتهم، وكذلك لا يمكن التخلي عن المحاماة بحجة أن بعض المحامين يسيئون استعمال مهنتهم، ولا يمكن اتهام جيش بكامله بالإرهاب والإجرام لأن هناك بعض الإرهابيين والمجرمين قد اندسوا في صفوفه

ويوجد في هذا الشأن مثال شهير من التاريخ الإسلامي وهو أمرُ النبي عليه الصلاة والسلام بهدم مسجد الضرار الذي أقام المنافقون أساسه على النفاق والفتنة، وبالمقابل أداؤه الصلاة في مسجد قباء الذي أُسس على الإخلاص والتقوى

فإذا نظر الإنسان إلى هذين البناءين من الخارج يجد بأن كلاهما مسجد. ولكن إذا تم النظر إلى المسألة من الداخل فيظهر بأن الفرق بينهما كالفرق بين المشرق والمغرب، والفرق بين الجنة والنار. لأن مسجد قباء هو ذاك المسجد المبارك الذي يجمع ويوحد قلوب المؤمنين بين يدي الله تعالى، بينما يُعد مسجد ضرار حاضنةَ الشر التي أسسها المنافقون بقصد شق صفوف الأمة وإثارة الفتنة بين أفرادها

إن وظيفة المؤمن الذي ينظر إلى الأحداث بمنظار إيماني انطلاقاً من هذا المثال الذي يلخص المشهد السائد في عصرنا هذا ليس الاعتراض على المساجد، والجماعات، والطرق، وإنما المراقبة والنظر بفراسة المؤمن لاكتشاف أوكار الفساد التي جعلت من هذه الكيانات قناعاً لها، ثم محاربتها ومكافحتها لتخليص المجتمع من شرورها. وظيفته حماية الأصلي والقضاء على المزيف، وعدم التهاون مع الذين يبطنون الشر للقيم المعنوية والروحية. وإلا - أي إذا جرت محاربة الجماعات والطرق كلها - ستحدث نتائج كارثة ومحزنة بسبب القرارات الخاطئة البعيدة عن الصواب، وذلك كمَن يحاول التخلص من البرغوث فيقرِّر حرق الفراش كله، فبدل الضرر الواحد ستحدث مئات الأضرار

الإمام

إن المعنى الأصلي لكلمة "الإمام" يشير إلى الذين يرشدون الناس بحالهم، ومقالهم، وسلوكهم على طريق الخير والهداية والاستقامة، وهؤلاء هم الأنبياء والرسل، ومَن سار على دربهم من بعدهم. وبناء على ذلك؛ فإن الإمام الأعظم للمؤمنين هو سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، لأنه شخصية قدوة لا مثيل لها للبشر أجمعين. ومن الأسماء التي يسمى بها نبيُّنا الكريم: "إمام الأنبياء". وقال الله عزّ وجل في كتابه الكريم

(وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان : 74)

فالله عزّ وجل يوجهنا في هذه الآية القرآنية إلى أن نكون من أهل التقوى من جهة، ومن جهة أخرى أن نقدم بذاتنا شخصية إسلامية تكون قدوة وإماماً في التقوى

الجهاد

إن "الجهاد" الذي يُعد أحد أكثر المفاهيم الإسلامية تعرضاً للتحريف والتشويه في عصرنا الحالي هو إعلاء شأن الإسلام في القلوب بإنفاق مختلف الإمكانات التي أكرم الله بها عباده في سبيله. فمثلاً تُعد خدمة التبليغ "جهاداً أكبر". يقول الله عزّ وجل

(فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (الفرقان:  52)

 إن نزول هذا الأمر الإلهي "الجهاد الكبير" في الفترة المكية إذ لم يكن المؤمنون يمتلكون القوة والإمكانات المادية التي تؤهلهم لمحاربة ومقاومة المشركين، يقدم لنا أحد أهم معاني الجهاد

إذاً؛ إن محاولة حصر مفهوم الجهاد بالقتال فقط إنما هو تحريف وتشويه لمعنى هذا المفهوم

إن غاية الجهاد في الإسلام ليست إزهاق الأرواح وإراقة الدماء، وإنما الغاية هي فتح القلوب. وكذلك يُعد من الجهاد التضحيةُ بالروح عند الضرورة للدفاع عن بلاد الإسلام، وحماية الأعراض، وحفظ المقدسات من أي اعتداء. ولكن تقديم هذا النوع من الجهاد على أنه المقابل أو المقصود الوحيد "للجهاد" الذي يعني في الأساس جعل كل الإمكانات والطاقات في سبيل الله فيه تضييق لمحتوى هذا المفهوم. وهذا هو ما يريده أعداء الإسلام لإبعاد الناس عنه، وذلك بإظهار الإسلام وكأنه "دين حرب". فظاهرة (الإسلاموفوبيا) التي تعد من أعظم فتن عصرنا أثرٌ من آثار هذا التخريب والتشويه الذهني

الخدمة

تعبِّر كلمة "الخدمة" بمعناها الأساسي عن مختلف الأعمال والأنشطة التي يتم القيام بها لوجه الله تعالى. فالثمرة الأولى للإيمان إنما هي الرحمة، وأول مظهر للرحمة هو "خدمة" المخلوقات برأفة. وهي العمل على انتشال المحتاجين من غائلة الجوع والحرمان بتقاسم مختلف النعم التي بين أيدينا معهم. وأما إن كانت الخدمة للنفس والشيطان والباطل، وظهرت بمظهر الإسلام، فلا تسمى ب "الخدمة" أبداً. لأنه جاء في الآية القرآنية

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (الكهف:  103 - 104)

 لذلك لا يطلق على الجهود المبذولة في السبل التي لا يرضى الله تعالى عنها تسمية "الخدمة". فالخدمة الحقيقة هي كل نشاط وعمل يكون في سبيل الحق ولوجه الله تعالى

الطاعة، التسليم، الإخلاص

علينا قبل كل شيءٍ أن نتذكر بأنه لا يجور الوصول إلى غاية مشروعة بطريقة غير مشروعة. لذلك فإن استباحة حرمات الله تعالى بذريعة خدمة غايةٍ أو غايات سامية لا تدل على التسليم والطاعة أبداً. لأن هذا  ليس بطاعة، وإنما عصيان، وسببٌ لاضطراب الناس، وانزلاق المجتمع إلى الفتنة والفساد

فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام

على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية. فإن أُمِرَ بمعصية، فلا سمع ولا طاعة" (مسلم، الإمارة، 38)

لذلك على المؤمن أن يعلم بأن مقياس الحقيقة الوحيد في كل أمر هو القرآن والسنة. وينبغي تقييم الأوامر والتعليمات والتوجيهات الصادرة ممَّن يتَّبِعُهم على ضوء هذه الحقيقة. وينبغي دائماً وأبداً اتباعُ الحق واجتناب الباطل مهما كانت الظروف والأحوال. وليعلم المؤمن بأن طاعةَ الباطل عصيانٌ للحق. فطاعة أي أمر مخالف للقرآن والسنة – بغضِّ النظر عن الذي أصدره – سلوكٌ مخالف للإسلام. فالحدود الأساسية والجديرة بالاعتبار هي حدود الإسلام، وليست حدود الأشخاص

يقول حذيفة رضي الله عنه: دخلت على عمر رضي الله عنه وهو قاعد على جذع في داره، وهو يحدث نفسه فدنوت منه فقلت: ما الذي أهمك يا أمير المؤمنين؟ فأشار إلى خشيته من الوقوع في الخطأ وهو أمير المؤمنين

قلت: هذا الذي يهمك! والله لو رأينا منك أمراً ننكره لقوَّمناك. فقال: الله الذي لا إله إلا هو لو رأيتم مني أمراً تنكرونه لقوَّمتموه؟

فقلت: الله الذي لا إله إلا هو لو رأينا منك أمراً ننكره لقوَّمناك

ففرح بذلك فرحاً شديداً، وقال: الحمد لله الذي جعل فيكم أصحابَ محمد مَن الذي إذا رأى مني أمراً ينكره قوَّمني. وكذلك قال عمر رضي الله عنه

أحب الناس إلي من رفع إلي عيوبي. (السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 105)

إذاً لا أحد ما عدا الأنبياء والرسل معصومٌ من الخطأ والتقصير مهما كانت مكانته ومنصبه، فلا طاعة ولا تسليم لأحد في شيءٍ مخالف لأمر الله تعالى

نسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يدع مجالاً لمن يريد الكيد بأمة محمد عليه الصلاة والسلام، وأن يكرمنا ويكرم أجيالنا القادمة بالبصيرة والوعي والفراسة لحفظ قيمنا المادية والمعنوية

آمين


الاقتراب من اليمين

مراد كايا

قد يخدع الإنسان نفسه أو قد يخدعه الآخرون، وأكثر الطرق المطروقة للخديعة هي "الاقتراب من اليمين". فالنفس أو الشيطان يقتربان من اليمين لجعل الإنسان يرى عمله مشروعاً. والأشخاص سيئو النية يقتربون من ضحاياهم في الغالب من اليمين لخداعهم. يقدم المخادعون أدلة مزيفة لإلباس العمل لباس الحق، أو قد يحرفون الدلائل المثبتة الصحيحة ويشوهونها لنفس الغرض. وبهذا يجعلون ضمائر أولئك الأشخاص ترتاح للأفعال الخاطئة فينفذونها ببساطة تامة. إنهم يستغلون صدق مشاعر المخدوعين ونواياهم الطيبة ورغبتهم في فعل الخير. يقول الله تعالى: ﴿وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ﴾ (الأعراف 20 - 22)

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى ( طه 120)

لم يكن آدم عليه السلام مخطئاً، أراد فقط أن يكون أكثر قرباً إلى الله وأن يعيش في الجنة إلى الأبد شأنه شأن الملائكة. فاستغل الشيطان مشاعره الجميلة هذه وأوقعه في الفخ

ونلاحظ هنا أسلوب المبالغة الذي استخدمه الشيطان لتنفيذ مآربه. فالمخادعون يستخدمون أسلوب المبالغة في الكلام وإظهار تواضع كاذب وتحريك مشاعر الرحمة والحنان لدى الطرف الآخر

وهنالك نقطة هامة أخرى وهي أن الأشخاص ذوي القلوب الطاهرة يعتقدون أن الجميع مثلهم وأنهم يخشون الله "ولا يتجرؤون أمامه على العصيان ولا يقسمون باسمه زوراً وبهتاناً." وهذا ما حصل مع آدم وحواء عليهما السلام اللذان ظنَّا أنه ما من أحد يجرؤ على القسم باسم الله تعالى كذباً، ولكن ما جرى بالفعل كان مغايراً لتوقعاتهم. فالجاهلون الذين لا يعرفون الله حق معرفته مهما بلغ مستوى تعليمهم الدنيوي يمكن لهم ارتكاب الآثام والذنوب التي لا تتماشى مع العقل والمنطق ويتجاهلون بذلك أوامر الله تعالى، أو حتى أنهم قد يلفقون الأكاذيب التي لا تمت إلى الحقيقة بصلة. والآية الكريمة التالية توضح هذه الحال في حديث للجن الذين شهدوا الحقيقة وأسلموا عندما استمعوا إلى تلاوة الرسول ﷺ للقرآن الكريم:

وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِبًا (الجن 5)

فأصحاب العقول السليمة يدركون عظمة الله وقدرته ويخشون الوقوع في الخطأ أمامه تعالى. أما الجاهلون والغافلون والسفهاء فهم ـ مع الأسف ـ يختلقون الأكاذيب ويتقولون على الله ليخدعوا الآخرين. وبهذا قد يرتكبون جريمة كبرى... لذا فإن الله تعالى يحذرنا من ذلك بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم باللهِ الْغَرُورُ﴾ (لقمان، .3، قارن: الآية 5 من سورة فاطر، والآية 20 من سورة الحديد)

يدفع الشيطان الإنسان إلى ارتكاب المعاصي ويحرضه على فعلها أملاً بالتوبة فيما بعد، وينطلق في ذلك من أن الله غفور رحيم. فعندما طُرد الشيطان من الجنة تجرأ على الله تعالى قائلا: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ (الأعراف 16 - 17)

والشيطان- كما ذكر في الآية الكريمة- لا يأتي من اليمين فحسب بل يحاول الهجوم من كل الاتجاهات وسلك جميع السبل، ويستعمل أعوانه من الإنس والجن لهذ الغرض. لذا فالشيطان لا يكون من الجن فحسب بل يمكن أن يكون من البشر أيضاً ويمكن أن يأتي من الأمام والخلف ومن اليمين والشمال. يقول الله تعالى

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ...﴾ (الأنعام 112، مقارنة بالآيات من 4ـ6 سورة الناس)

... وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ (الأنعام 121

...إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف 27)

فطوبى لمن فهم هذه الحيلة وأدرك هذه الخدع وهو لا يزال في الحياة الدنيا وتمكن من تخليص نفسه... أما من عجز عن فهمها في هذه الحياة وفهم الحقيقة في الآخرة، فإن فهمه يكون قد أتى متأخراً وبعد فوات الأوان. عندما يدرك الإنسان حقيقة الخداع الذي تعرض له يتملكه شعور بالندم والبؤس، وليكن في المشهد التالي عبرة لنا

(يأمر الله تعالى ملائكته) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [يقول التابعون لأوليائهم] قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ [كنتم تبدون حقيقة]... (الصافات 22ـ28)

إذا لم يعرف الإنسان الله تعالى ودينه حق المعرفة، ولم يعِ الهدف الحقيقي لمجيئه إلى هذه الدنيا فمن السهل حينها أن يقع فريسة لخديعة "أساتذة" الكذب والخداع. فهم يظهرون بمظهر الحق ويقتربون من اليمين... ثم يستخدمون كل ما لدى الإنسان لدفعه إلى ارتكاب المعاصي وبلوغ آمالهم البشعة؛ لذا يجب توخي الحذر والوصول إلى المصادر الصحيحة للمعرفة والتزود بالمعلومات الأساسية والضرورية لدرء هذا الخطر


التحلي بالأخلاق الحميدة

ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء (الترمذي، البر، 62)

خلق الله تعالى الإنسان على الفطرة، وأودع في فطرته الأخلاق الحسنة التي ترتقي به في عالم المعنويات، وهداه السبيل وألهمه السير في طريق الترقي واستثمار هذه الأخلاق والمزايا للوصول إلى قمة العالم القلبي، كما أتاح له أيضًا ملكة الاختيار وإمكانية التحول إلى السبيل الآخر، في درب الغواية والشقاء والتشبع بالشهوات؛ وعلى الإنسان أن يتمسك بفطرته التي فطره الله تعالى عليها، ويبني بنيانه المعنوي على أساسها، ويتحول من صورة إلى سيرة، ومن هيكل بشري إلى نور سماوي، فيرسخ الأخلاق الحميدة في فطرته، وينفي خبث الأخلاق الذميمة من سريرته

والقلوب التي تمتلك قدرًا مناسبًا من الروحانية هي التي تتمكن من استثمار الأخلاق الحميدة فيها للقيام بالأعمال الصالحة، ومن الترقي في الأحوال المعنوية، منطلقًا صاحبها من كونه خُلِقَ على أحسن تقويم

وعلى النقيض نجد القلوب التي فقدت روحانيتها، وغلبت عليها شقوتها تصير أرضًا خصبة لمساوئ الأخلاق والشهوات ونزغات الشياطين، فيهجر فطرته ليختار طريق الشر بعد أن هداه الله النجدين، فيضل ويهوي، ويصير أضل من الأنعام سبيلاً

وها هو الحق الرحيم سبحانه يخاطب الإنسان ويحذِّره كي يعود إلى ذاته ولا يقع في الهاوية فيقول

(يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) (الانفطار، 6-8)

ويقول ربُّنا عزَّ وجل أيضًا في القرآن الكريم

(وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) (يونس، 25)

لكن هذه الدعوة مشروطة بشروطها، مقيدة بمقتضاها، فليس الأمر هكذا خبط عشواء، أو احتطاباً بليل، إنما هو انتقاء للارتقاء، واستجابة لنداء السماء، فلابد من امتلاك المؤهلات التي تجعلك أهلاً لاستحقاق النداء وتلبية الدعوة، إنها «دار السلام»، فلا يستحقها إلا أهل السلام والسلامة، وأصحاب «القلب السليم»

والشرط الوحيد للعيش كإنسان هو تمثل الأهداف السامية للدين والأخلاق، فذروة الكمال الإنساني والأخلاق الحميدة هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول المولى عزَّ وجل تأييدًا وتصديقًا لصفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم

 (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم، 4)

ويقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف

«أدبني ربي فأحسن تأديبي» (السيوطي، الجامع الصغير، جـ 1، 12)

«ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء» (الترمذي، البر، 62/2002)

«إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (أحمد، مسند، جـ2، 381؛ موطأ، حسن الخُلق، 8؛ الحاكم، جـ2، 670)

إن الإنسان الكامل والنبي الوحيد في التاريخ الذي ذُكرت تفاصيل حياته الدقيقة كلها هو سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد كان تدوين كلامه وأفعاله ومشاعره جميعها لحظة بلحظة وسام شرفٍ في تاريخ الإنسانية، فحياة النبي صلى الله عليه وسلم «الأسوة الحسنة» تمثل ذروة قيم البشرية كلها، ويبيِّن الله عزَّ وجل هذه الحقيقة في الآية الكريمة

 (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) (الأحزاب، 21)

ومَنْ أراد الحياة الحقيقية، وأراد السير على منهج الله تعالى، والتزام طريق الهدى الذي خطته له فطرته؛ فعليه الأخذ بنصيب وافٍ من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو الإنسان الكامل، والأسوة الحسنة، ومحبتُه صلى الله عليه وسلم هي السبيل إلى بلوغ رضا الله تعالى، والحياة في ظلال سيرته والاقتباس من معين روحانيته والتأسي بشمائله صلى الله عليه وسلم هو السبيل لتمثل حاله وبلوغ بعض من كماله، ولعل أعظم مثال على ذلك هم الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ثم ورثتُهم من الأولياء والصالحين والصادقين

وتهيم الأرواح اللطيفة في سماء روحانيته، وتذوب القلوب الرقيقة في بحر محبته، حتى تفنى الأرواح والقلوب في عشقه، وتنعم في الدنيا نعيمًا يغرقها في الألطاف الإلهية

إن أرقى النماذج البشرية في السمو والكمال على مدار التاريخ هم أولاء الذين اتخذوا من الرسول صلى الله عليه وسلم مصدرهم النوراني، ونبعهم الإيماني، وفيضهم الروحاني، واتخذوا من محبته علاجًا ربانيًا لقلوبهم، ومددًا إلهيًا لأرواحهم

ولنا أن نذكر هنا أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم هي أكثر علاج مؤثر في القلوب المريضة الغافلة

ومن بين الأمثلة على رفعة خلقه وأخلاقه وسلوكه

كان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم المبارك أجمل وأطهر الوجوه، وحين هاجر إلى المدينة كان عبد الله بن سلام وهو من أحبار اليهود يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضول، وما إن رأى وجهه المبارك حتى قال

«أن وجهه ليس بوجه كذَّاب»، وأسلم حينها. (الترمذي، القيامة، 42/2485؛ أحمد بن حنبل، مسند، جـ5، 451)

لقد كان الوجه الكريم وحده معجزة ودليلاً وبرهانًا على نبوته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان انعكاسًا لروحانيته، ومرآة لسريرته، ومظهرًا لنورانيته. كان الوجه الكريم للنبي صلى الله عليه وسلم كتابًا مفتوحًا يقرأ الناظرون إليه أحوال الإنسان الكامل وأخلاقه ومشاعره، والنبي النوراني، والرسول الرباني؛ حتى كان أصحابه رضي الله عنهم يعرفون رضاه وغضبه من محياه، ويعرفون رغبته في شيءٍ ما أو رغبته عنه من قسماته، لقد كانت حركاته وسكناته وإشاراته وقسماته دليلاً على مشاعره وباطنه، وهي سُنة واجبة الاتباع لـمَنْ أراد سلوك طريق النجاة، ولـمَنْ أراد لقلبه طريق السلامة

لقد كان أول نور خلقه الله تعالى هو نورَ محمد صلى الله عليه وسلم، وكان الإنسانَ الكامل في خَلْقه وخُلُقه، فقد كان الجسد الشريف قويًا نشيطًا يحمل عزيمة ماضية، مع حياء شديد هو أشد من حياء العذراء في خدرها، وكانت الحكمة تتفجر ينابيعُها من لسانه الشريف، ولا يعرف الفم الشريف من الغيبة أو النميمة أو اللغو شيئًا؛ بل لا ينطق إلا بالحق، ولا ينطق عن الهوى؛ يخاطب الناس على قدر عقولهم، ويوصل المفاهيم للناس على قدر مداركهم، لينًا سهلاً متواضعًا، دائم التبسم، ضحكه تبسمًا لا قهقهة ولا لغوًا، ذا وقار ومهابة، يحبه مَنْ يراه، ويعشقه من يألفه، وتفيض بركات نوره وأخلاقه وفضائله على كل من حوله أو مرَّ به

أما معاملاته صلى الله عليه وسلم فقد كان يُنزل الناس منازلهم، ويعرف لذوي الفضل فضلهم، رفيقًا بأهل الضعف، مُكرمًا للضيف، خيرَ الناس في معاملته للأهل والأصحاب، أغدق الناس على الأقارب، أكثر الناس عطاءً لكل سائل وطارق، أكثر الخَلق رفقًا ولطفًا

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف

«لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (البخاري، الإيمان، 6؛ مسلم، الإيمان، 71-72)

كان خلقه الكريم صلى الله عليه وسلم يوازن بين الشجاعة والحلم، ويجمع بين الرأفة والرحمة والكرم والعطاء؛ حتى إنه لم يكن يلبس أو يأكل دون خدمه، ولم يسمعوا أو يجدوا منه ما يجرحهم قط

وأما وعده فكان مُنجزًا، وعهده ثابتًا، وقوله صادقًا، كثير الصمت تغشاه السكينة، لا ينطق إلا بمقدار، مفوهًا بليغًا قد أوتي جوامع الكلم، يسترعي إليه آذان السامعين وقلوب المستمعين

وكان صمته فكرًا ونطقه ذاكرًا، دائم التفكر، يطول حزنه خشية لله وشفقة على الأمة، ولا تنقطع ابتسامته أملاً في الله وبشرى للأمة

لا يستثير غضبَه شيء من أمور الدنيا، إلا أنْ تُنتَهك حرمةٌ من حرمات الله، ولا يدخل في شيء من الجدال أو المراء، ولا يغضب لنفسه؛ يراعي مشاعر الناس أشد ما تكون المراعاة، حتى إنه لم يدخل بيت أحد دون استئذان، حتى بيوت زوجاته

وكان وقته مقسمًا بين ثلاثة: وقت في عبادة الله، ووقت في معية أهله، ووقت لِذاته، ويشاركه في القسم الثالث العوام والخواص، وكلُّ آتٍ يطلب الهدى والنصيحة وفيوضات النور النبوي

وكان صلى الله عليه وسلم دائمًا في معية الله تعالى، وكنفه، عبادة وذكرًا وتفكرًا

ورغم قدسية المسجد فإنه لم يتخذ فيه مكانًا محددًا، يقوم فيه أو يصلي أو يعظ، ولم يُرِدْ أن يضفي قدسية على مكان ما، ولا يضفي على نفسه مكانة ما تكبرًا بالمكث في مقام ما؛ بل كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، ولا يتصدر مجلسًا أو يتخذ فيه كرسيًا أو مكانًا متميزًا، وكان يأمر أصحابه بذلك

لا يردُّ صاحب حاجة حتى يقضي له حاجته، عاجلة أو مؤجلة، مادية أو معنوية، فإن لم يستطع قضاءها عوَّض صاحبها بدعوة أو عظة أو نصيحة، يعيش بين الناس كواحد منهم، فعلى سمو مقامه وقدسية مكانته عند ربه وعند المؤمنين؛ إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان شديد التواضع، شديد التواصل والتعايش مع الناس، يشاركهم أتراحهم وأفراحهم وحياتهم ومواقفهم، لا فرق عنده بين غنيهم وفقيرهم، ولا بين سيدهم ومولاهم، رابطة الإنسانية والإسلام هي التي تجمع الناس وتزن مقاديرهم عنده

وكانت مجالسه صلى الله عليه وسلم نبراسًا للهدى وفيضًا للنور، ونبعًا للفضائل الكبرى من الحلم والعلم والحياء والصبر والتوكل والأمانة

يعالج أصحاب المعايب والنقائص بالإشارة والتلميح، ولم يُعرف عنه قط أنه فضح أحدًا بالتصريح، إنما هي إشارات لطيفة، وإيماءات لا تجرح المشاعر، فيقول في حديثه معرضًا: ما بال أقوام، ما بال أحدكم،... وغيرها من إشارات عامة، لم تكن عيوب الأشخاص تشغلُه إلا بقدر رغبته في إصلاحها، ولا يتبعها تجسسًا ولا ظنًا؛ بل كان ينهى عن ذلك ويزجر

ومن أحاديثه صلى الله عليه وسلم

«لا تُظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك» (الترمذي، القيامة، 54)

كلماته وأحاديثه إنما هي في شؤون الآخرة، وما يوصل إلى نعيمها من أفعال وأعمال، يفيض منها الوجد، وتغمرها السكينة، وتشع منها المحبة

وحين يتكلم يُفتَن مَنْ حولَه بروعة كلامه، ويمسي آذنًا صاغيةً له، وقد روى سيدُنا عمر t أنهم كانوا يستمعون للنبي صلى الله عليه وسلم الساعات الطوال بسكينة وكأن على رؤوسهم الطير، لقد كان الأدب الذي ينعكس على الصحابة والحياء من النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى درجاته، حتى إنهم كانوا يَعُدُّون سؤالَه نوعًا من التطاول على النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك كانوا ينتظرون قدوم أعرابي يسأل النبي صلى الله عليه وسلم كي يستفيدوا من فيوضاته وروحانيته. (انظر: ابن سعد، جـ1، 422-425؛ الهيثمي، جـ9، 13)

ويوضِّح أبو هريرة t سعة رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ورأفته في روايته التي يقول فيها

قيل لرسول الله: يا رسول الله ادعُ على المشركين، فقال

«إني لم أُبعث لعَّانًا، وإنما بُعثت رحمة» (مسلم، البر، 87)

ويقول الله تعالى في القرآن الكريم واصفًا حبيبه صلى الله عليه وسلم

 (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء، 107)

ويقول شيخنا أحمد الرفاعي -وهو من أولياء الله تعالى- ناصحًا أبناءه وإخوته في الدين

«يا طالب العرفان، انفق كل ما تملك في سبيل الله، واتَّبع السُنة الشريفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمضِ أيامك ولياليك في عبادة مليئة بالخشوع، ولتكن معاملتك دائمًا معاملة حسنة... فبهذا فقط تستطيع أن تصل إلى المعرفة، وما لم تفعل ذلك فلن تنال نصيبًا من ذلك كله، وإن لم يكن حالك كحال النبي، فستبقى عبدًا ناقصًا

هذه الجولة السريعة في روضة الأخلاق النبوية الفيحاء هدفنا منها أن نتنسم من عبير هذه الجنة الغنَّاء، وأن تتساقط على أرواحنا قطرات الندى، فتروي ظمأها، وتُنبت في أرضها من خيرات الفيض النبوي، فالوصول إلى الله تعالى له طريق وسر، هو العيش بقلب خالص في ظلال كتاب الله تعالى وسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك دافع وحافز على ذلك مثل محبته صلى الله عليه وسلم، وكراهية كل من عاداه


التدين في المدينة

بروفسور د. لطف الله جيبيجي

جامعة أرجيس ـ كلية الشريعة / قيسري

يرى بعض الناس أن التدين أمرٌ يليق بأهل القرى، ويرى آخرون أن الأفضل يوجد دوماً في المدينة، لذا فإن التدين الأفضل تدين أهل المدينة. والسبب في اختلاف وجهتَي النظر يرجع إلى المعنى الذي نسبغه على الدين وعلى التدين... إذا عرَّفنا المتدين بأنه مسلم يتمتع بعمق التفكير وذو خبرة يعرف بماذا يؤمن ولماذا،وينعكس ما يؤمن به على شخصيته وحياته، ويتمتع بثقافة وتجربة متماشية مع ما يعتقد، وأنه إنسان مخلص ودود ذو شخصية متزنة يمكن الوثوق به، واثق من نفسه يتصرف باتزان؛ فنستطيع القول عندئذ إن احتمال العثور على هذا النوع من التدين في المدينة هوـ بلا شك ـ عال جداً، لأن هذا النوع يمكن الحصول عليه بالتعليم والتعلم. لكن إذا نظرنا إلى الدين من زاوية مادية إلحادية واعتبرنا أنه أمر لا يليق كثيراً بإنسان العصر، عندها يفقد الدين رواجه ويعدُّ إيماناً مليئاً بالخرافات البدائية الخارجة عن حدود العقل والمنطق، وحينها سنعتبر أن الدين والتدين يليقان بالناس الذين يعيشون في القرى والجبال والأرياف البعيدين نوعاً ما عن الحضارة

إن الدين في الحقيقة موجود داخل كل إنسان سواء كان من سكان المدن أم القرى، إلا أن المدن كانت المركز الأساسي ونقطة انطلاق التبليغ، لهذا كان جميع الأنبياء من سكان المدن، ويخبر الله جل جلاله الرسول ﷺ عن ذلك بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ (يوسف 109) أي كان جميع الأنبياء ومنذ القديم رجالاً متحضرين من سكان المدن، ولم يكونوا بدويين رحَّلاً أو من سكان الجبال أو القرى؛ وإنما أناساً شجعاناً ينحدرون من المدن لأن النبوة مصدرُ أكبر الحضارات، في حين أن بيئة القرى والبدو الرحل لم تكن البيئة الملائمة لصفات النضج والرقة والقدرة على الاجتذاب وجميع الخصال الحميدة الأخرى التي يجب وجودها عند الأنبياء

وأهل المدن يكونون أكثر قدرة على الإدراك والفهم لما يتمتعون به من معرفة وخبرة. والعلاقات بين الناس في المدن أكثر تعقيداً وكثافة، بينما تسود الرتابة في الحياة في الصحراء والقرى، كما أن الاحتياجات هناك محدودة ومحددة، وتبليغ رسالة الأنبياء أمر متعدد الأبعاد ويتطلب الإجابة على مطالب الناس في كل مكان وفي جميع الحالات، وكذلك تلبية متطلبات الحياة اليومية من مختلف النواحي

لهذا فإن الأنبياء بعثوا أولاً إلى المدن، وبدؤوا في تبليغ الرسالة التي كلفهم بها الله تعالى عبر الوحي إلى الناس انطلاقاً من المدن بل وحتى المدن الكبرى. وهكذا يقول الله تعالى في كتابه العزيز

 وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ (القصص 59)

وفي آية أخرى يقول الله تعالى مخاطباً نبيه عليه السلام

 وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ (الأنعام 92؛

معنى مشابه في الآية 7 من سورة الشورى). أي غن الله تعالى أشار إلى ضرورة أن تبدأ الدعوة من "أم القرى" في شبه الجزيرة العربية؛ أي مكة المكرمة التي تعتبر مدينة كبرى

واللافت للانتباه أن القرآن الكريم يذكر مكة التي ولد فيها النبي ﷺ وترعرع بـ "أم القرى". وهذه الكلمة مرادفة لكلمة (الحاضرة) أو (ميتروبول) التي تعني باليونانية القديمة المدينة الكبيرة المركزية بما حولها من أحياء مجاورة وقريبة والمساحة الكبيرة الواقعة تحت تأثيرها. كلمة مدينة وكلمة مدنية مشتقتان من الجذر نفسه، لأن المدينة هي مركز الحضارة ولهذا سميت بالمدينة. لهذا عندما هاجر النبي ﷺ من مكة المكرمة إلى "يثرب" أطلق على يثرب اسم المدينة لأنها كانت ستصبح مركز التسامح والتفاهم والعدل والأخوة والقانون ومنها تفتحت براعم الحضارة الإسلامية

والحضارة تقدم للإنسان حياة تعتمد على القيم والمعتقدات وهذه القيم والمعتقدات تحيط بجميع نواحي الحياة المادية والمعنوية. وتختلف حضارة عن أخرى بفلسفتها ونمط الحياة الذي تقدمه للبشر

إن كلمة "بداوة" عكس كلمة "الحضر" وفي حين تعني كلمة حضري "سكان المدينة" فإن كلمة "بدوي" تعني سكان البلدة أو الشخص الذي لا يسكن المدينة، بل القرى أو الجبال أو الصحراء ويكون أحياناً "من البدو الرحل". فهذه الكلمة في القرآن الكريم مرادفة لكلمة "قروي" التي نستخدمها عكس كلمة "حضري". فعلى سبيل المثال تلخص سورة التوبة الحياة الفكرية والحالة الروحية للـ "بدو" في قوله تعالى

﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ واللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (سورة التوبة 97-99)

إن حياة سكان القرى محدودة في الغالب، ولا تتعدى الخيم التي يقطنونها والحيوانات التي يرعونها والأماكن التي يتجولون فيها في الأرياف، لهذا فإنه من الطبيعي أن تكون عوالمهم وآفاقهم الفكرية محدودة، و بعضهم يكونون- وفق التعبير القرآني- أشد كفراً ونفاقاً من أهل المدن. وهذا يرجع إلى صعوبة ظروف معيشتهم وبعدهم عن المدن والأشخاص الذين سيعلمونهم الدين والإيمان. وتكون طباعهم أكثر خشونة من سكان المدن، ويكونون أكثر شكَّاً لأن معيشتهم أكثر صعوبة، وكما يقول المثل- إن صح التعبير-: "إن من تلدغه الأفعى يخشى الحبل." وأهل القرى لا يصدقون على الفور ما يُقَال لهم لكنهم لا يقولون ذلك بشجاعة وإنما يلجؤون إلى النفاق لحماية أنفسهم، لأن معرفتهم وآفاقهم الفكرية غير كافية لفهمهم ما يقوله الأنبياء، وجهلهم في هذه الأمور أمر طبيعي، وقد ذكرهم الله في كتابه فقال

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات 14)

فهم يجدون صعوبة في الإيفاء بمتطلبات الإسلام حيث يرون ـ على سبيل المثال ـ في إنفاق المال والصدقة في سبيل الله خسارة، ولا يرون الأمر مكسباً أو ربحاً لأنهم لا يبذلون ذلك المال من أجل إرضاء الله وحده ولا يرجون ثوابه تعالى . لذا فإن الأعراب يتمنون أن تحل المصائب بالمسلمين وألا يكونوا هم الأعلى ليتخلصوا من أداء هذا الأمر الذي يرونه عبئاً لا طائل وراءه

بيد أن ذلك لا ينطبق عليهم جميعاً، فكما تذكر الآية الكريمة هنالك من يؤمن بالله وبالآخرة إيماناً خالصاً، ويعد الصدقات والنفقات التي يبذلها في سبيل الله خيراً كبيراً وزاداً له في الآخرة، وهناك بدو وأعراب ينفقون انطلاقاً من هذا الإيمان

إن المناخ الصعب الذي يعيش فيه سكان القرى والأرياف يسهم بدرجة كبيرة في هذه الأحوال السلبية التي يعيشونها، والأمر الذي يجعل سكان المدن في مرتبة أعلى من سكان القرى يرجع أيضاً إلى المناخ الذي يعيشونه في المدن، فالمناخ الاجتماعي والاقتصادي لحياة المدينة يجلب معه المعرفة والخبرة والثقافة والسعة والرفاه

أجل؛ إن القرآن يذم الأعراب وأهل القرى والجبال، إلا أن التحضر وحياة المدن ليست بالأمر الهيِّن... لأن التدين والعدل والتسامح ومراعاة الحلال والحرام واللقمة الحلال والكسب الحلال وكذلك مراعاة حقوق الآخرين وصون العين واللسان والقلب والحفاظ على الاستقامة أمر أصعب في المدينة، كما أنه لا يمكن المساواة بين إدراك القروي للدين وعيشه له، وبين تدين ابن المدينة، فخصائص كل منهما مختلفة

لكن ثمة حقيقة يجب الإشارة إليها ألا وهي أن التدين في المدينة لا سيما في أيامنا هذه يبدو أمراً أكثر صعوبة، فالمدينة تقدم للإنسان إمكانيات لا حصر لها، لكنها وفي نفس الوقت تضع أمامه العوائق، والإنسان قد يستخدم تلك الطاقات ليسمو بروحه أو قد يتعثر بالعوائق ويهبط إلى الدرك الأسفل... لهذا فإن "التدين" اليوم في حياة المدينة في تزايد لكن ومن جهة أخرى نرى في المدينة ابتعاداً عن الجوهر وتغرباً عن الذات وانحلالاً معنوياً

فإنسان المدينة قد يسأم أحياناً من انحلالها فيتجه إلى التدين للاحتماء بدرعه؛ أي إن الهوس المفرط بالدنيا يثير خوف إنسان المدينة وهو ما قد يعيده إلى رشده. ولعل إنسان القرية لن يشعر بهذه المخاوف أو تلك الحاجة. وهذا بلا شك لا يعني أن أهل القرى أكثر نقاءً وصفاءً من أهل المدن. فالعالم بدأ يتحول إلى قرية صغيرة مع تطور العصر ووسائل الاتصال، وبفضل أجهزة التلفاز والأقمار الصناعية والهواتف المحمولة زالت الفروق بين القرية والمدينة وبات سكان القرى يرون كل شيء ويطلعون على كل جديد، وباتوا جزءاً من كل أنواع انعدام الأخلاق، ولم يعد هناك في كثير من النواحي ما يميز بين المدينة والقرية؛ لهذا أصبحت قرانا ـ مع الأسف ـ تبدو راغبة بفقدان جوانبها الإيجابية وتُشاطِرُ المدنَ سلبياتِ العصرَ

وعلينا في حديثنا عن التدين في المدن عدم إغفال نقطة هامة، ألا وهي أن مدينة الأمس ليست كمدينة اليوم، فقد أصبحت شروط الحياة في المدينة الآن أكثر صعوبة في بعض النواحي، وتدفع الإنسان بشكل أكثر إلى ارتكاب الأخطاء. واليوم تقدم المدينة لسكانها خيارات لامتناهية تجرهم إلى "الذنوب" وتسهل ارتكابها، فصار التدين في المدينة أكثر صعوبة، وهذا أحد أهم الفروق بين الأمس واليوم

وإذا ما رجعنا قليلاً إلى الوراء في تاريخنا، نرى أن سكان المدينة كانوا فيما مضى مجتمعاً أكثر تلاحماً، وكانت بينهم شخصيات يحبونها وعلماء أفاضل، وكان يفكر بعضهم ببعض، وعندما تقع مشكلة ما كان هؤلاء النخبة يتدخلون بإحسان ورحمة لحلها. وعندما تراجع دور هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يلعبون دوراً إرشادياً، بات الناس وحيدين مع مشاكلهم، وأصبحوا أفراداً بعد أن كانوا جماعة ولم يعودوا قادرين على تشاطر الخيرات وتعميمها، أو تشاطر الهموم وتصغيرها. وكان من يهاجر من القرية إلى المدينة سابقاً يذوب في هذه البوتقة، لكنه هو أيضاً أصبح في حاله. وهكذا نما في كثير من الأحيان مفهوم التدين غير العميق، وإذا ما أضيف إليه الغنى اختفى التواضع والاقتصاد واحترام الآخرين، وظهر خليط عجيب من التدين الممزوج بالإسراف والبذخ والجري وراء كل طراز جديد. بعبارة أخرى بدأت رموز نمط الحياة الغربية المستقاة من الحضارة الرومانية واليونانية تسيطر على تديننا في المدن، وصار ما كنا نسميه في الماضي إسرافاً أمراً اعتيادياً في نظرنا

وصفوة الكلام أن التدين اليوم في المدينة أو في القرية على حد سواء أمر صعب، وفي الواقع أصبح التدين أمراً عسيراً في كل زمان وفي أي مكان. ولا تستطيع إلا قلة قليلة من الناس اليوم أن تتحمل بإخلاص وبصدق المصاعب والتحديات التي يتطلبها التدين وهم يحاولون أن يكونوا عباداً صالحين في حياتهم، سواء من سكان القرى كانوا أو المدن. إنها دنيا الامتحان، بعضهم يُمتَحَن بالقدرات والآخر بالعوائق، وكل من الامتحانين له نواحيه الصعبة، إلا أن الذين يمتحنون بالفقر والحرمان يكونون في معظم الأحيان أكثر نجاحاً ممن يمتحنون بالمال والسعة؛ إذن علينا النظر إلى كيفية حياتنا ومدى إخلاصنا في تديننا بغض النظر عما إذا كنا نعيش في مدينة أو في قرية


التصوف - 1

لا بد للوصول إلى مرتبة "الإنسان الكامل" التي يهدف إليها الإسلام من فهم الحياة الدينية وتطبيقها وعيشها بشكل تتكامل فيه المادة والمعنى، والظاهر والباطن، وينسجم فيه العقل والقلب، ويتلاقى فيه الشكل والروح

إن التصوف الحقيقي هو بذل الجهد لفهم الإسلام من حيث الباطن إضافة إلى ظاهره، وتطبيقه على أرض الواقع. وهذا يتطلب  إدراك الإسلام وفهمه ضمن كلية "الشريعة، والطريقة، والحقيقة، والمعرفة". ونعبر عن ذلك بمثال نموذجي

ففي الشريعة الأكل بعد الشبع إسراف

وفي الطريقة الأكل حتى الشبع إسراف

وفي الحقيقة الأكل بمقدار الكفاية بغفلة عن الله إسراف

 وفي المعرفة بالإضافة إلى كل ما تقدم، فإن الأكل دون التفكر بالقدرة الإلهية وتجليات أسمائه في النعم إسراف. إذ إن كل كائن مخلوق بمثابة دليل على عظمة وقدرة الخالق اللامتناهية

كان حضرة الشاه نقشبند الذي يعد أحد كبار الأولياء يقوم بنفسه في كثير من الأحيان بأعمال طهي الطعام وإعداد المائدة. وكان على الدوام يوصي تلامذته بالتيقظ قلبياً أثناء إعداد الطعام وتناوله ، وعدم الوقوع في الغفلة ولو للحظة واحدة. وكان عندما يتناول الطعام مع مريديه ويرى أحدهم يتناول لقمة بغفلة ينبهه في الحال بأسلوب لين ولطيف، فلم يكن قلبه ليرضى بتناول الطعام بغفلة عن الله ولو كانت لقمة واحدة

إن تناول الطعام ليس عبادة من حيث الظاهر. إلا أن كل لقمة يتم تناولها مع ذكر الله تصبح وسيلة للفيض والخشوع في العبادات. وأما اللقيمات التي يتم تناولها بغفلة عن الله تعالى فتكسب القلب القسوة، والغفلة، والتثاقل

إن هذه  الحساسيات الإسلامية التي بيناها من خلال مثال "الطعام" هي بمثابة عينة، حيث يمكن من خلال تطبيقها على كافة التصرفات والسلوكيات البشرية التي يمكن أن تخطر على البال ابتداء من حياة العبادة، إلى الحياة العائلية، وعلاقات الجوار، والأنشطة والأعمال التجارية والاقتصادية وغيرها الوصول إلى "العمق التصوفي" بالمعنى الحقيقي

ما هو التصوف؟

التصوف؛  هو فن معرفة الحق سبحانه وتعالى  قلبياً

التصوف؛ هو الاسم الآخر لحمل الإيمان إلى أفق سامٍ مثل "الإحسان". أي أن يعيش الإنسان وهو مدرك أنه تحت مراقبة الكاميرات الإلهية بشكل دائم، وبعبارة أخرى أن نعيش وكأننا نرى الله، فإن لم نكن نراه فهو يرانا

التصوف؛ نظام تطهري. وطريق الوصول إلى "التقوى" بتجنب كل ما شأنه إبعاد المرء عن الله تعالى. وتربية معنوية تكبح جماح الأهواء والشهوات النفسية، وتكشف الطاقات والاستعدادات الروحية

التصوف؛ مدرسة معنوية يتم فيها تزكية النفس، وتصفية القلب على مربين حقيقيين من العلماء الأجلاء الذين صاروا ورثة النبي عليه الصلاة والسلام

التصوف؛ صراع دائم مع النفس لا هوادة ولا صلح فيه

التصوف؛ هو معرفة البقاء في حالة تصالح دائم مع الله من خلال إبداء الرضا بالتقدير الإلهي في كل الأحوال والتقلبات. المحافظة على توازن القلب أمام كافة تقلبات وأحوال الحياة بمدها وجزرها، وحلوها ومرها. عدم الفرح والبطر عند الغنى، والتذمر والشكوى عند الفقر. حالة نضوج ورشد يعلم فيها الإنسان أن كل ما يقع عليه من مصائب وشدائد امتحان إلهي، ويتمكن من جعلها وسيلة للتزكية. مهارة التحول إلى "عبد صالح" مثابر على الشكر والحمد ناسي الشكوى والتذمر

التصوف؛ هو مسؤولية تقع على عاتق المؤمنين الذين استطاعوا البلوغ بأنفسهم إلى مرتبة الكمال المادي والمعنوي، تقتضي توجههم إلى المخلوقات بقلب فياض بالإيثار، وتلبية احتياجاتها. هو الوصول إلى حالة الطبيعة الأصلية التي تقتضي الشفقة بالمخلوقات في سبيل الخالق، والرحمة بها، ومحبتها، وخدمتها

التصوف؛ هو التمسك بالكتاب والسنة، وإدراك وفهم التعاليم الإلهية والنبوي بتعمق قلبي، وتحويلها إلى ساحة التطبيق في الحياة

والحاصل؛ إن التصوف: هو معرفة رسول الله  بالعشق عن قرب، وبذل الجهد للالتزام بدينه بشكل منسجم ومتوافق مع جوهره وروحه من خلال الاغتراف من معين طبائعه، وشخصيته، وأخلاقه السامية

وإن كل منهج آخر مخالف لهذه المبادئ والأسس، ولا يأخذ القرآن والسنة  معياراً له فهو – وإن نسب إلى التصوف - باطل

ما ليس تصوفاً

عندما يتم إهمال الجانب الباطني والروحي للدين، الجانب التصوفي الذي يُعد عمق المعرفة والتقوى فإنه يبقى منظومة من القواعد والمبادئ الجافة. وإلى جانب ذلك فإن نظر بعض الأوساط التي تلجأ وخاصة في يومنا هذا إلى استعراضات معينة بدعوى وصولها إلى النشوة التصوفية ، نظرها إلى الدين على أنه عبارة عن أحكام باطنية، ومن ثم الاستخفاف بالشريعة التي يمكن أن نسميها بأحكام الدين الظاهرية دليل واضح على بعدها عن حقيقة التصوف. فإن مثل هؤلاء الذين يحملون المفهوم المتمثل بقولهم يكفي قليل من العمل طالما أن القلب نظيف!، والذي يفتح الباب واسعاً أمام الرعونات النفسانية، إن مثل هؤلاء لا علاقة لهم بالتصوف الحقيقي الذي يُعد خادم الشريعة لا من قريب ولا من بعيد

فمثلاً يقوم اليوم بعض الناس ممن ابتعدوا عن روح المثنوي الشريف بتحويل السماع الذي يُعد ذكراً بالأساس إلى نوع من مهرجان فلكلوري شعبي، وإلى مجلس موسيقى مهملين بذلك جانب التقوى للمولوية

وكذلك نشاهد لدى بعض الطرق أنشطة تجارية تمارسها في البدء بنية حسنة وتبدو أنها صحيحة وعلى الحق. ولكن ما يلبث أن يبتعد الغالبية عن حساسية التقوى وتتحول الطريقة إلى كيان منكب على المصالح والمنافع المادية. وهذا الأمر ما هو إلا شكل بارز من أشكال جعل الدين أداة لخدمة الدينا. وهو تحويل للطريقة التي هي باب العدمية والفناء إلى عجلة المنفعة التي تتحرك بهاجس الوجود والكثرة والوفرة

ويلاحظ في بعض الطرق الأخرى أنها أهملت جانب الحلال والحرام ففتحت الباب واسعاً أمام اختلاط الرجال والنساء مبررين ذلك بعبارات فارغة مثل "قلبي نظيف!"، وتساهلت في الحجاب، وابتعدت عن الكثير من المعايير والمبادئ الشرعية الأخرى. وكأنه عندما يكون القلب نظيفاً لا تبقى حاجة لرعاية حدود الحلال والحرام، فتميل إلى رأي باطل يطلق العنان لرعونات النفس وأهوائها

وبذلك يتم تجاهل المسألة الآتية :وهي أنه بالرغم من  أن النبي عليه الصلاة والسلام الذي يُعد أعظم مرشد لنا في كل أمر كان صاحب أنظف وأطهر قلب، فإنه كان يُعد أفضل قدوة ومثل للأمة في العبادات، والمعاملات، والأخلاق، وبالأخص في رعاية الحلال والحرام الذي يُعتبر أكبر مشكلة في عصرنا هذا

بينما التصوف الحقيقي الذي يُعد جوهر أهل السنة والجماعة فهو سعي لتكامل الظاهر والباطل من خلال مبادئ وأسس حياة النبي عليه الصلاة والسلام. فكما  أن رسول الله عليه الصلاة والسلام بالرغم من بلوغه ذروة الرشد والكمال والنضوج المعنوي قد أدى واجبات العبودية الظاهرية بحرص وعناية شديدة حتى النفس الأخير، فإن كل مؤمن كذلك مكلف باتخاذه قدوة، والقيام بواجباته الشرعية على أكمل وجه مهما كان موقعه، أو مكانته، أو منصبه، ومن أي طريقة كان أو مذهب

وإن هذه الحادثة المروية عن الشيخ عبد القادر الجيلاني  توضح هذا الأمر بشكل جميل، حيث يقول

كنت مرة في العبادة فرأيت عرشاً عظيماً وعليه نور، فقال لي: يا عبد القادر؛ أنا ربك! وقد حللت لك ما حرمت على غيرك

إلا أنني ما إن انتهى الصوت حتى علمت أنه الشيطان اللعين، فقلت له:- أنت الله الذي لا إله إلا هو ؟، اخسأ يا عدو الله. فإن النور الذي أريتني إياه ظلمات أبدية. فتمزق ذلك النور وصار ظلمة، وقال: يا عبد القادر نجوت مني بفقهك في دينك وعلمك وبمنازلاتك في أحوالك. لقد فتنت بهذه القصة سبعين رجلاً. ثم ابتعد. فرفعت يدي إلى السماء وشكرت الله تعالى على لطفه بي. فقال له واحد من جماعته: - كيف علمت أنه الشيطان؟ فقال : - بقوله لي "حللت لك ما حرمت على غيرك " وقد علمت أن شريعة محمد عليه الصلاة والسلام لا تنسخ ولا تبدل

وفي الحقيقة لو أن العبد يُعفى من حدود الحلال والحرام لحسن أحواله وأعماله الصالحة لأعفي قبل كل الناس سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام الذي بلغ الذروة في الصلاح والعبودية للحق سبحانه وتعالى. وطالما أنه لم يُعط مثل هذه الميزة، فلا تحق لأحد غيره أبداً

وبناء على ذلك؛ فمهما صدرت عبارات صوفية من فم من لم ينظم حياته وفق معايير ومبادئ القرآن والسنة فلا يمكن أن يكون ذاك الإنسان من أهل التصوف بالمعنى الحقيقي

فمثلاً لا يُنتظر من المؤمن الذي يتهرب من تنظيم مسألة الميراث وفق الأوامر الإلهية لكونها لا تناسب مصالحه ومنافعه الدنيوية أن يقطع أدنى مسافة على طريق السير والسلوك. وكذلك لا يمكن الحديث عن الحياة الصوفية بالنسبة لإنسان لا يراعي المعايير والأسس الإسلامية في حياته الأسرية. فلا يمكن أن يحصل انكشاف معنوي للأم أو الأب الذي ينكب على التفكير بمستقبل أولاده الفاني، فيحرمهم من تعلم القرآن، ويعرض مستقبلهم الأبدي للخطر والتهلكة. وإن الظن بأن مثل هذا الأب أو الأم من أهل التصوف ما هو إلا دليل على الغفلة

ومن أعظم الظلم الذي يرتكبه العبد بحق نفسه، وأكبر تحطيم لمعنوياته وروحانياته هو التعدي على حقوق العباد في الحياة التجارية، وانتهاك محاذير الله تعالى ابتغاء تحقيق منفعة دنيوية، والتهاون في أمور دينه بتبريره بعبارات مثل: "سأفعل ذلك هذه المرة، ولن أعود إليه ثانية". وفي هذا الخصوص ينبغي أن نتذكر دائماً المعايير التي وضعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله

لا تنظروا إلى صلاة أحد، ولا إلى صيامه، ولكن انظروا إلى:  من إذا حدَّث صدق، وإذا اؤتُمن أدى، وإذا أشْفى ورِع راعى الحلال والحرام - (البيهقي، السنن الكبرى، 6، 188؛ الشعب، 4، 230، 326)

والحاصل؛ إن لم يكن الإنسان ملتزماً ومراعياً لمعايير الشريعة في عباداته، ومعاملاته، وأخلاقه، ونظام حياته، فإنه من العبث انتظار الترقي التصوفي منه

وينبغي أن نعلم بأن الشريعة التي يمكن أن نسميها بأحكام الإسلام الظاهرية بمثابة الهيكل العظمي الذي يمكن الجسد من الوقوف والانتصاب. فلا يمكن للجسد الذي لا هيكل عظمي فيه والمفتقر إلى العمود الفقري الوقوف على القدمين. إلا أن الحياة الدينية التي تكون عبارة عن الهيكل العظمي فحسب – كما يريد البعض إظهار الدين به عن قصد هي الأخرى تؤدي إلى ظهور مفهوم إسلامي موحش، ومخيف، ومتطرف، ومنفر وخال من الروح

وبناء على ذلك؛ فإن التصوف الحقيقي هو عبارة عن إدراك وفهم الإسلام ضمن إطار فيض وروحانية رسول الله عليه الصلاة والسلام ، والصحابة الكرام، والسلف الصالح، والمؤمنين من أهل التقوى، وبذل الجهد للعيش في الحياة مثلهم واتباع آثارهم بعشق وشوق كبير

الاستقامة أعظم كرامة

إن التصوف قبل كل شيء سعي إلى تنظيم الحياة وفق القرآن والسنة. يقول الحق سبحانه وتعالى في القرآن الكريم

(وَأَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (آل عمران: 132)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد: 33)

وقال النبي عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع

 أَلَا إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ , وَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ , فَلَا تَقَتِّلُنَّ بَعْدِي (ابن ماجة، الفتن، 5 / 3944)

وقال عليه الصلاة والسلام

 تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا : كِتَابَ الله، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ (الموطأ، القدر، 3)

والتصوف بدوره عبارة عن التمسك بهاتين الأمانتين المقدستين، ورعايتهما بما يليق بهما. إنه منهج تعليمي وتربوي يعلم الإنسان كيفية القيام بالأعمال القلبية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم والسنة النبوية مثل (الإخلاص، والتقوى، والخشوع، والتوبة، والرضا)؛ وكيفية القضاء على الأمراض النفسانية مثل (الرياء، والعجب، والكبر، والحسد، والبغضاء). وليس طريقة تعليمية وتدريبية للوصول إلى الكشف والكمال من خلال القيام بجملة من التمرينات مثل الرياضة والمجاهدة

وبطبيعة الحال فإن الوصول إلى الكشف والكرامات ليس مقياساً للارتقاء المعنوي والروحي. إذ يُعد أبو بكر الصديق رضي الله عنه أفضل وخير الناس بعد الأنبياء والرسل في الرياضة ومجاهدة النفس، ومع ذلك ليست هناك روايات ومعلومات كثيرة حول كراماته المادية والظاهرية. فأعظم كرامة له هي إخلاصه وتصديقه الذي لا مثيل له لرسول الله، وطاعته وتسليمه الفريد له

ولهذا فإن أهل الله وأولياؤه لم يولوا أهمية للكرامات المادية المحسوسة، حتى أنهم كانوا يحرصون حرصاً شديداً على التكتم على مثل هذه الكرامات وعدم إفشائها إن حدثت، خشية تسرب الغرور وحب الشهرة إلى قلوبهم. وكانت كل جهودهم ومساعيهم تنصب على الاستقامة من خلال الالتزام التام بكتاب الله وسنة رسول الله والسير على نهجمها، إذ  هي الكرامة الحقيقية

وقد قال الجنيد البغدادي: إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء فاعرضوا حاله على الكتاب والسنة فإن لم توافقهما فهو استدراج (وليس بكرامة)

التصوف؛ حفظ من الغفلة بالذكر

يريدنا الله تعالى أن نذكره بكثرة وبكل الوسائل، فيقول

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا الله ذِكْرًا كَثِيرًا) (الأحزاب: 41)

ويريد لنا أن نكون على صلة قلبية به بشكل دائم، فيقول

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (آل عمران: 191)

إذاً؛ إن واجب ذكر الله المترتب على عاتقنا نحن كمؤمنين ليس عبارة عن إقام الصلاة فحسب. وإنما ينبغي أن يستمر إحساس المعية مع الله في الصلاة بعد انتهاء الصلاة أيضاً. إذ إن الله سبحانه وتعالى الذي لا ينسى عباده ولو طرفة عين، يريد من عباده أن يذكروه بشكل دائم أيضاً. فالغفلة عن ذكر الله تعالى ولو للحظة واحدة سبب لتهلكة عظيمة، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول في التجائه وتضرعه

اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين" (الجامع الصغير، 1، 58)

إذ إن القلب يُبتلى بالغفلة بقدر نسيانه الله تعالى. ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام

إنه ليُغانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله، في اليوم مائة مرة". (مسلم، الذكر، 41؛ أبو داود، الوتر، 26)

وهذا يدل على أنه ليست الذنوب والمعاصي وحدها تستوجب الاستغفار، وإنما تستوجبه اللحظات التي تمر والإنسان غافل فيها عن الله أيضاً. وذلك لأنه عندما تدق المعايير في القلب الذي بلغ آفاق ومراتب معرفة الله وتصبح أكثر حساسية، يتم اعتبار حتى النفس الذي يتنفسه الإنسان بغفلة عن الله تعالى ذنباً ومعصية. حيث قال رسول الله عليه الصلاة والسلام

 ما جلس قوم مجلساً فلم يذكروا الله، إلا كان عليهم ترة (ذنب)، وما من رجل مشى طريقاً فلم يذكر الله، إلا كان عليه ترة، وما من رجل أوى إلى فراشه فلم يذكر الله، إلا كان عليه ترة (أحمد، 2 ، 432)

وإن الحالة المذكورة في الآية 191 من سورة آل عمران (يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) فيها إشارة إلى هذا الذي ذكرناه. وبطبيعة الحال فإن الإنسان يكون في الغالب بإحدى هذه الحالات. إذاً؛ فربما سبحانه وتعالى يريد منا أن نكون بحالة ذكر دائم. إلا أنه في معرض بيانه لشرط قبول هذا الذكر الدائم يقول في الآية ذاتها

(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (آل عمران: 191)

أي أنه يريد منا ذكراً نتعمق فيه بالتفكير والتأمل بتجليات القدرة والعظمة الإلهية، مدركين عجزنا وضعفنا المطلق، وبقلب خاشع وجل من الحيرة والدهشة والخشية. حيث يقول ربنا عز وجل في آية أخرى

(إِنَّمَا الْمؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) (الأنفال:  2)

إذاً؛ إن الذكر الذي يكون عبارة عن تكرار اللفظ باللسان، ولا يتجاوز الفم ليصل إلى القلب، ومن ثم لا يكون وسيلة لحدوث حالة من الوجل والخشية القلبية ليس ذكراً حقيقياً، ولا يرتقي إلى مستوى الذكر المقبول. فالمقصود من الذكر هو تنبه القلب للمذكور، وتحقيق المعية والحضور القلبي مع الله تعالى

ولهذا فإن الترقي في التصوف ليس مرتبطاً بالتقدم بالدروس المعنوية والأوراد خلال فترات زمنية معينة فقط، وإنما مرتبط أيضاً بالتقدم والسمو في الأخلاق والأحاسيس القلبية، وبزيادة تجليات الأسماء الإلهية في ذلك القلب

يجب على الإنسان الذي يتقدم ويرتقي في الدروس المعنوية أن يزيد أيضاً من لين جانبه، ورقة قلبه، ورحمته، وخدمته، وجهده، وتضحيته؛ وأن يكون أكثر تسامحاً وعفواً، وتفاهماً، وتحملاً، وتقبلاً؛ وأن يقوي صبره ورضاه. يجب أن يكون ذا روح رقيقة ومتحلية بالإيثار بحيث يحب لأخيه ما يحبه لنفسه. فلا يتحقق الارتقاء المعنوي إلا بهذا الذي ذكرناه

وإن حياة التصوف هي أن يحيا الإنسان بحالة معية دائمة مع الله تعالى ضمن هالة من فيض وروحانية الذكر. وإن اكتساب المؤمن لهذا الإحساس والإدراك يضمن له في الوقت ذاته كشف أسرار الامتحانات الإلهية التي يتعرض لها. فمثلاً يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى

المحرمات نار. ولا يمد يده إليها إلا ميت القلب. فلو أن قلب من مد يده إليها كان حياً، لأحس بألم تلك النار

إذاً؛ فلأن المؤمن الذي قلبه حي بذكر الله محفوظ من الغفلة، فإنه

 لا يمد يده إلى المحرمات، وحتى إلى الشبهات

 ويحفظ روحه من كل الشرور والأحوال والمواطن التي من شأنها الحط من قيمته المعنوية والروحية

 لا يسعى خلف المغامرات التي لا طائل منها؛ ولا يخوض في الأمور العبثية، والباطلة، والفاسدة؛ ولا ينخدع بأشكال الحب التي تقودها الأهواء المتقلبة

 لا يفني عمره بالسعي خلف رعونات النفس؛ ولا يلطخ سجله بالسخافات والرذائل من الأعمال

 وإنما يزين عمره بالأعمال الصالحة والحسنات

 ويتخذ القرآن والسنة مرشداً وهادياً

 يؤدي عباداته بخشوع تام، ويزيد من المساعي والخدمات التي تكون في سبيل الله، ويتجه لمجالس الصالحين

 وأخيراً يحيا عمره كشاهد لربه على الأرض فيخلف وراءه صدى طيباً في السماء، وذكريات تفيض بالفضائل والصالحات

وبالمقابل؛ فإن القلب الخمول والجلف الذي أصابته الغفلة لبعده عن الذكر معرض للسقوط في مستنقع مختلف أشكال الذنوب والمعاصي. لأن الغفلة مصدر للذنوب، فهي خير أرضية تنبت فيها المعاصي والخطايا. فعندما تتشكل تلك الأرضية يبدأ اقتراف الذنوب بسهولة دون الشعور بثقل وعبء المعنويات وتأثيرها

ومن هنا فإن القضاء على الغفلة بالذكر يُعد درع التقوى الأسلم والأفضل أمام الذنوب والمعاصي، أي أنه وسيلة حفظ ووقاية معنوية. لأنه ليس هناك إنسان يستطيع خداع أخيه وهو يتلفظ ب البسملة: يسمي بالله. فالقلب الذاكر لله لا يمكن أن يخدش قلباً ولو بشوكة

ولهذا فإن التصوف هو أن يحيا الإنسان بالفيض الروحي للذكر، وأن يكون بمقام الإحسان، أي أن يعيش وكأنه يرى الله فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، أي أن يشعر في كل لحظة من لحظات حياته أنه تحت كاميرات المراقبة الإلهية

أسأل المولى سبحانه وتعالى أن يرزقنا جميعاً إيماناً بمقام الإحسان. وأن ينير قلوبنا بنور ذكر الله، ومعرفة الله، ومحبة الله. آمين