التحلي بالأخلاق الحميدة

ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء (الترمذي، البر، 62)

خلق الله تعالى الإنسان على الفطرة، وأودع في فطرته الأخلاق الحسنة التي ترتقي به في عالم المعنويات، وهداه السبيل وألهمه السير في طريق الترقي واستثمار هذه الأخلاق والمزايا للوصول إلى قمة العالم القلبي، كما أتاح له أيضًا ملكة الاختيار وإمكانية التحول إلى السبيل الآخر، في درب الغواية والشقاء والتشبع بالشهوات؛ وعلى الإنسان أن يتمسك بفطرته التي فطره الله تعالى عليها، ويبني بنيانه المعنوي على أساسها، ويتحول من صورة إلى سيرة، ومن هيكل بشري إلى نور سماوي، فيرسخ الأخلاق الحميدة في فطرته، وينفي خبث الأخلاق الذميمة من سريرته

والقلوب التي تمتلك قدرًا مناسبًا من الروحانية هي التي تتمكن من استثمار الأخلاق الحميدة فيها للقيام بالأعمال الصالحة، ومن الترقي في الأحوال المعنوية، منطلقًا صاحبها من كونه خُلِقَ على أحسن تقويم

وعلى النقيض نجد القلوب التي فقدت روحانيتها، وغلبت عليها شقوتها تصير أرضًا خصبة لمساوئ الأخلاق والشهوات ونزغات الشياطين، فيهجر فطرته ليختار طريق الشر بعد أن هداه الله النجدين، فيضل ويهوي، ويصير أضل من الأنعام سبيلاً

وها هو الحق الرحيم سبحانه يخاطب الإنسان ويحذِّره كي يعود إلى ذاته ولا يقع في الهاوية فيقول

(يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) (الانفطار، 6-8)

ويقول ربُّنا عزَّ وجل أيضًا في القرآن الكريم

(وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) (يونس، 25)

لكن هذه الدعوة مشروطة بشروطها، مقيدة بمقتضاها، فليس الأمر هكذا خبط عشواء، أو احتطاباً بليل، إنما هو انتقاء للارتقاء، واستجابة لنداء السماء، فلابد من امتلاك المؤهلات التي تجعلك أهلاً لاستحقاق النداء وتلبية الدعوة، إنها «دار السلام»، فلا يستحقها إلا أهل السلام والسلامة، وأصحاب «القلب السليم»

والشرط الوحيد للعيش كإنسان هو تمثل الأهداف السامية للدين والأخلاق، فذروة الكمال الإنساني والأخلاق الحميدة هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول المولى عزَّ وجل تأييدًا وتصديقًا لصفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم

 (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم، 4)

ويقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف

«أدبني ربي فأحسن تأديبي» (السيوطي، الجامع الصغير، جـ 1، 12)

«ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء» (الترمذي، البر، 62/2002)

«إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (أحمد، مسند، جـ2، 381؛ موطأ، حسن الخُلق، 8؛ الحاكم، جـ2، 670)

إن الإنسان الكامل والنبي الوحيد في التاريخ الذي ذُكرت تفاصيل حياته الدقيقة كلها هو سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد كان تدوين كلامه وأفعاله ومشاعره جميعها لحظة بلحظة وسام شرفٍ في تاريخ الإنسانية، فحياة النبي صلى الله عليه وسلم «الأسوة الحسنة» تمثل ذروة قيم البشرية كلها، ويبيِّن الله عزَّ وجل هذه الحقيقة في الآية الكريمة

 (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) (الأحزاب، 21)

ومَنْ أراد الحياة الحقيقية، وأراد السير على منهج الله تعالى، والتزام طريق الهدى الذي خطته له فطرته؛ فعليه الأخذ بنصيب وافٍ من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو الإنسان الكامل، والأسوة الحسنة، ومحبتُه صلى الله عليه وسلم هي السبيل إلى بلوغ رضا الله تعالى، والحياة في ظلال سيرته والاقتباس من معين روحانيته والتأسي بشمائله صلى الله عليه وسلم هو السبيل لتمثل حاله وبلوغ بعض من كماله، ولعل أعظم مثال على ذلك هم الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ثم ورثتُهم من الأولياء والصالحين والصادقين

وتهيم الأرواح اللطيفة في سماء روحانيته، وتذوب القلوب الرقيقة في بحر محبته، حتى تفنى الأرواح والقلوب في عشقه، وتنعم في الدنيا نعيمًا يغرقها في الألطاف الإلهية

إن أرقى النماذج البشرية في السمو والكمال على مدار التاريخ هم أولاء الذين اتخذوا من الرسول صلى الله عليه وسلم مصدرهم النوراني، ونبعهم الإيماني، وفيضهم الروحاني، واتخذوا من محبته علاجًا ربانيًا لقلوبهم، ومددًا إلهيًا لأرواحهم

ولنا أن نذكر هنا أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم هي أكثر علاج مؤثر في القلوب المريضة الغافلة

ومن بين الأمثلة على رفعة خلقه وأخلاقه وسلوكه

كان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم المبارك أجمل وأطهر الوجوه، وحين هاجر إلى المدينة كان عبد الله بن سلام وهو من أحبار اليهود يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضول، وما إن رأى وجهه المبارك حتى قال

«أن وجهه ليس بوجه كذَّاب»، وأسلم حينها. (الترمذي، القيامة، 42/2485؛ أحمد بن حنبل، مسند، جـ5، 451)

لقد كان الوجه الكريم وحده معجزة ودليلاً وبرهانًا على نبوته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان انعكاسًا لروحانيته، ومرآة لسريرته، ومظهرًا لنورانيته. كان الوجه الكريم للنبي صلى الله عليه وسلم كتابًا مفتوحًا يقرأ الناظرون إليه أحوال الإنسان الكامل وأخلاقه ومشاعره، والنبي النوراني، والرسول الرباني؛ حتى كان أصحابه رضي الله عنهم يعرفون رضاه وغضبه من محياه، ويعرفون رغبته في شيءٍ ما أو رغبته عنه من قسماته، لقد كانت حركاته وسكناته وإشاراته وقسماته دليلاً على مشاعره وباطنه، وهي سُنة واجبة الاتباع لـمَنْ أراد سلوك طريق النجاة، ولـمَنْ أراد لقلبه طريق السلامة

لقد كان أول نور خلقه الله تعالى هو نورَ محمد صلى الله عليه وسلم، وكان الإنسانَ الكامل في خَلْقه وخُلُقه، فقد كان الجسد الشريف قويًا نشيطًا يحمل عزيمة ماضية، مع حياء شديد هو أشد من حياء العذراء في خدرها، وكانت الحكمة تتفجر ينابيعُها من لسانه الشريف، ولا يعرف الفم الشريف من الغيبة أو النميمة أو اللغو شيئًا؛ بل لا ينطق إلا بالحق، ولا ينطق عن الهوى؛ يخاطب الناس على قدر عقولهم، ويوصل المفاهيم للناس على قدر مداركهم، لينًا سهلاً متواضعًا، دائم التبسم، ضحكه تبسمًا لا قهقهة ولا لغوًا، ذا وقار ومهابة، يحبه مَنْ يراه، ويعشقه من يألفه، وتفيض بركات نوره وأخلاقه وفضائله على كل من حوله أو مرَّ به

أما معاملاته صلى الله عليه وسلم فقد كان يُنزل الناس منازلهم، ويعرف لذوي الفضل فضلهم، رفيقًا بأهل الضعف، مُكرمًا للضيف، خيرَ الناس في معاملته للأهل والأصحاب، أغدق الناس على الأقارب، أكثر الناس عطاءً لكل سائل وطارق، أكثر الخَلق رفقًا ولطفًا

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف

«لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (البخاري، الإيمان، 6؛ مسلم، الإيمان، 71-72)

كان خلقه الكريم صلى الله عليه وسلم يوازن بين الشجاعة والحلم، ويجمع بين الرأفة والرحمة والكرم والعطاء؛ حتى إنه لم يكن يلبس أو يأكل دون خدمه، ولم يسمعوا أو يجدوا منه ما يجرحهم قط

وأما وعده فكان مُنجزًا، وعهده ثابتًا، وقوله صادقًا، كثير الصمت تغشاه السكينة، لا ينطق إلا بمقدار، مفوهًا بليغًا قد أوتي جوامع الكلم، يسترعي إليه آذان السامعين وقلوب المستمعين

وكان صمته فكرًا ونطقه ذاكرًا، دائم التفكر، يطول حزنه خشية لله وشفقة على الأمة، ولا تنقطع ابتسامته أملاً في الله وبشرى للأمة

لا يستثير غضبَه شيء من أمور الدنيا، إلا أنْ تُنتَهك حرمةٌ من حرمات الله، ولا يدخل في شيء من الجدال أو المراء، ولا يغضب لنفسه؛ يراعي مشاعر الناس أشد ما تكون المراعاة، حتى إنه لم يدخل بيت أحد دون استئذان، حتى بيوت زوجاته

وكان وقته مقسمًا بين ثلاثة: وقت في عبادة الله، ووقت في معية أهله، ووقت لِذاته، ويشاركه في القسم الثالث العوام والخواص، وكلُّ آتٍ يطلب الهدى والنصيحة وفيوضات النور النبوي

وكان صلى الله عليه وسلم دائمًا في معية الله تعالى، وكنفه، عبادة وذكرًا وتفكرًا

ورغم قدسية المسجد فإنه لم يتخذ فيه مكانًا محددًا، يقوم فيه أو يصلي أو يعظ، ولم يُرِدْ أن يضفي قدسية على مكان ما، ولا يضفي على نفسه مكانة ما تكبرًا بالمكث في مقام ما؛ بل كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، ولا يتصدر مجلسًا أو يتخذ فيه كرسيًا أو مكانًا متميزًا، وكان يأمر أصحابه بذلك

لا يردُّ صاحب حاجة حتى يقضي له حاجته، عاجلة أو مؤجلة، مادية أو معنوية، فإن لم يستطع قضاءها عوَّض صاحبها بدعوة أو عظة أو نصيحة، يعيش بين الناس كواحد منهم، فعلى سمو مقامه وقدسية مكانته عند ربه وعند المؤمنين؛ إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان شديد التواضع، شديد التواصل والتعايش مع الناس، يشاركهم أتراحهم وأفراحهم وحياتهم ومواقفهم، لا فرق عنده بين غنيهم وفقيرهم، ولا بين سيدهم ومولاهم، رابطة الإنسانية والإسلام هي التي تجمع الناس وتزن مقاديرهم عنده

وكانت مجالسه صلى الله عليه وسلم نبراسًا للهدى وفيضًا للنور، ونبعًا للفضائل الكبرى من الحلم والعلم والحياء والصبر والتوكل والأمانة

يعالج أصحاب المعايب والنقائص بالإشارة والتلميح، ولم يُعرف عنه قط أنه فضح أحدًا بالتصريح، إنما هي إشارات لطيفة، وإيماءات لا تجرح المشاعر، فيقول في حديثه معرضًا: ما بال أقوام، ما بال أحدكم،... وغيرها من إشارات عامة، لم تكن عيوب الأشخاص تشغلُه إلا بقدر رغبته في إصلاحها، ولا يتبعها تجسسًا ولا ظنًا؛ بل كان ينهى عن ذلك ويزجر

ومن أحاديثه صلى الله عليه وسلم

«لا تُظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك» (الترمذي، القيامة، 54)

كلماته وأحاديثه إنما هي في شؤون الآخرة، وما يوصل إلى نعيمها من أفعال وأعمال، يفيض منها الوجد، وتغمرها السكينة، وتشع منها المحبة

وحين يتكلم يُفتَن مَنْ حولَه بروعة كلامه، ويمسي آذنًا صاغيةً له، وقد روى سيدُنا عمر t أنهم كانوا يستمعون للنبي صلى الله عليه وسلم الساعات الطوال بسكينة وكأن على رؤوسهم الطير، لقد كان الأدب الذي ينعكس على الصحابة والحياء من النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى درجاته، حتى إنهم كانوا يَعُدُّون سؤالَه نوعًا من التطاول على النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك كانوا ينتظرون قدوم أعرابي يسأل النبي صلى الله عليه وسلم كي يستفيدوا من فيوضاته وروحانيته. (انظر: ابن سعد، جـ1، 422-425؛ الهيثمي، جـ9، 13)

ويوضِّح أبو هريرة t سعة رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ورأفته في روايته التي يقول فيها

قيل لرسول الله: يا رسول الله ادعُ على المشركين، فقال

«إني لم أُبعث لعَّانًا، وإنما بُعثت رحمة» (مسلم، البر، 87)

ويقول الله تعالى في القرآن الكريم واصفًا حبيبه صلى الله عليه وسلم

 (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء، 107)

ويقول شيخنا أحمد الرفاعي -وهو من أولياء الله تعالى- ناصحًا أبناءه وإخوته في الدين

«يا طالب العرفان، انفق كل ما تملك في سبيل الله، واتَّبع السُنة الشريفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمضِ أيامك ولياليك في عبادة مليئة بالخشوع، ولتكن معاملتك دائمًا معاملة حسنة... فبهذا فقط تستطيع أن تصل إلى المعرفة، وما لم تفعل ذلك فلن تنال نصيبًا من ذلك كله، وإن لم يكن حالك كحال النبي، فستبقى عبدًا ناقصًا

هذه الجولة السريعة في روضة الأخلاق النبوية الفيحاء هدفنا منها أن نتنسم من عبير هذه الجنة الغنَّاء، وأن تتساقط على أرواحنا قطرات الندى، فتروي ظمأها، وتُنبت في أرضها من خيرات الفيض النبوي، فالوصول إلى الله تعالى له طريق وسر، هو العيش بقلب خالص في ظلال كتاب الله تعالى وسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك دافع وحافز على ذلك مثل محبته صلى الله عليه وسلم، وكراهية كل من عاداه