الاعتداء على المفاهيم الإسلامية

يقول أحد المفكرين: إذا أردت تغيير أمة، فابدأ أولاً بتغيير كلماتها ومفرداتها!

الإنسان يفكر بالكلمات، ويوسع آفاق فكره باللغة. لهذا لا يستطيع المرء اكتشاف طريقه نحو آفاق التفكير الإسلامي الواسعة بلغة ضُيِّقَ نطاق كلماتها ومفرداتها، أو تضاربت معاني مفاهيمها.  يقول أحد المفكرين: "إذا أردت تغيير أمة، فابدأ أولاً بتغيير كلماتها ومفرداتها!

فقد جرى خلال فترة من الفترات في البلاد الإسلامية تحميل كلمات ذات أصول دينية مثل "الشريعة، والطريقة، والتكية، والمرشد، والمريد، والذكر، والجهاد" بمعاني سلبية ومستهجنة، وجُعلت أسيرة لها في أذهان الناس. وذلك كان أساساً لوقوع الكثير من المسلمين الأبرياء إما في دائرة الإدانة والاتهام أو الحرمان

واليوم تتعرض الكثير من المفاهيم الإيجابية مثل "التصوف، والطريقة، والجماعة، والإمام، والخدمة، والطاعة، والتسليم، والإخلاص" لخطر محدق متمثل بفقدان أهميتها بسبب الذين يستغلون المشاعر والعواطف الدينية لدى الناس. والواقع أن الذنب ليس ذنب هذه المفاهيم، وإنما الذنب ذنب الذين يلوِّثون ويشوِّهون النزاهة والطهارة التي في داخلها

فكما أن المياه الملوثة بالأوساخ والطين لا تفقد جوهرها النقي، فكذلك لا يمكن أن تفقد الكلمات والتعابير التي صارت مثل حجارة لبنية التفكير الإسلامي أهميتها، ولا يصيبها خلل بسبب بعض ممن استخدموا روحانيتها مطيَّةً لأعمال ومصالح دنيوية

يوجد اليوم الكثير من المفاهيم التي لفها السواد واستهجنها الناس لمجرد استخدامها من قبل شرذمة من الاستغلاليين. مع أن مجتمعنا فيه الكثير من المخلصين لمحتوى تلك الكلمات، ومن أهل الصدق والاستقامة؛ وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها

والخلاصة أن أهل الفتن والفساد يلصقون بمفاهيمنا وتعابيرنا الإيجابية البنَّاءة بطاقاتٍ ولافتاتٍ  سلبية ومستهجنة. ويحاولون وضع جميع المسلمين موضع الإدانة والشبهة بسبب بعض ممَّن يستغلون الدِّين. إنهم يلعبون لعبة خبيثة وخسيسة لإلحاق الضرر بأفكارنا ومشاعرنا

التصوف

على سبيل المثال؛ يحتل مفهوم التصوف مكانة رفيعة في قلوبنا، إلا أن هذا المفهوم شأنه كشأن الكثير من المفاهيم الدينية الأخرى عرضةٌ لاتهامات وافتراءات كبيرة

هناك بصورة عامة سببان رئيسيَّان وراء الاعتراضات والاتهامات الموجهة إلى التصوف

أما الأول: فهو البعد عن حقيقة التصوف والجهل بها

والآخر: تقديم تطبيقات خاطئة للتصوف قام بها بعض الجاهلين أو ممن ليسوا أهلاً له، ثم إلصاقها كلها بأرباب التصوف

مع أن التصوف ليس بالشكل الذي استغله بعضٌ من ذوي النوايا السيئة، أو الكيان الذي أرادوا إظهاره

وإنما التصوف يُعد من القيم الأصيلة التي تشكل هويتنا المعنوية. فأرض الأناضول مثلاً مجبولة على التربية الصوفية منذ ألف عام. لذلك فإن التصوف موجود في عجينة وفطرة شعبنا

إن التصوف الحقيقي مدرسة للتربية، هو منهج تأديبي يجنِّب العبد كلَّ ما من شأنه إبعاده عن الله تعالى، ويوصله إلى التقوى

التصوف  اسم آخر لمقام الشرب من ينبوع التسليم للحق سبحانه وتعالى، وللمقام الذي يحمل العبد إلى أفق رفيع عال مثل "الإيمان و الإحسان

التصوف معركة مستمرة مع النفس لا تعرف الصلح

التصوف تربية للنفس وتزكيتها ووضعها في خدمة الروحانيات

التصوف توجه المؤمن الذي يسعى بقلبه إلى الكمال نحو المخلوقات بشعور الإيثار، وتحمله لمسؤولية تلبية احتياجاتها وتلافي نواقصها بمشاعر الشفقة والرحمة

التصوف ليس إيقاع الناس في المصائد، وإنما هو جعل القلب منبع رحمة يؤمِّن الطمأنينة والسلام للبشر كلهم من أجل انتشال حتى الذين سقطوا في المصائد

التصوف يعني التخلي عن الرغبات والشهوات الدنيوية  عند الحاجة  من أجل الآخرة،  ولكنه لا يتضمن أبداً  التخلي عن الآخرة في سبيل الدنيا مهما غلا الثمن

التصوف سعيٌ لتربية المشاعر الداخلية لدى الإنسان، والوصول به إلى كمال الشريعة في حياة العبودية. فالعبد لا يمكنه الوصول إلى الكمال من خلال قراءة السطور فقط، وإنما يحصل الكمال بتطهير حاله وعالم قلبه من كل الشوائب والسلبيات. فالتصوف بالنسبة إليه هو تطبيق شريعة نقية صافية وبراقة

التصوف سعيٌ لمعرفة رسول الله عليه الصلاة والسلام عن قرب بالمحبة، والالتزام بالدين بصورة تليق بجوهره وروحه من خلال نيل نصيب من شخصية النبي العظيمة وأخلاقه الرفيعة

فكل أمر يتناقض مع ما ذكرنا، ولا يستند إلى القرآن والسنة يُعد باطلاً مهما ادعى صاحبه التصوفَ أو نسب شيئاً إليه

وكذلك فإن التصوف هو الشعور بالعجر وإدراك ذلك إدراكاً تاماً مهما كان المقام أو المنصب الذي يشغله الإنسان. إنه طريق لإخراج الغرور، والكبر، والعجب، والأنانية من القلب، والتحلي بمشاعر نكران الذات. إنه الابتعاد عن نسبة أي نعمة أو توفيق إلى الإنسان، وإنما إضافة ذلك كله إلى الله عزّ وجل

التصوف هو العبودية للحق سبحانه وتعالى بقلب يحيط به الخوف والرجاء، أي الخوف من التعرض لغضب الله، والأمل بنيل رحمته

التصوف ليس تفاخرٌ بالذات ورياء، وإنما عيشٌ بحال التجاء دائم إلى رحمة الله تعالى خشيةً من لحظة خروج الأنفاس الأخيرة والحياة بعدها. هو الالتزام المستمر بالتواضع ونكران الذات. إن لجوء بعض ضعاف النفوس اليوم بتجاهل تام لكل ما ذكرنا من حقائق إلى وضع التصوف وطرقه التي هي مدارس للتربية في كفة واحدة مع الفرق الضالة التي تضرب بالأوامر والنواهي الإلهية عرض الحائط في سبيل المنافع الدنيوية لهوَ دليلٌ جليٌّ وصارخ على إضمارهم نية الشر والسوء

لقد كان المتصوفون الصادقون والحقيقيون على مر التاريخ مشاعل إرشاد تنير المجتمعات على الدوام. وقد صار عبد القادر الجيلاني، وبهاء الدين النقشبندي، ومولانا جلال الدين الرومي، ويونس أمْرَه، وعزيز محمود هُدائي وأمثالهم من أهل الحق منابع رحمة للمجتمعات التي عاشوا فيها. ولم يتساهلوا قيد أنملة مع أي عمل أو كيان من شأنه إلحاق أدنى ضرر بالدين، والوطن، والناس، والأمة، وكذلك أبدوا مقاومة وكفاحاً عظيماً في مواجهة مصادر الفساد والشر. ويُعد الإمام الرباني، وخالد البغدادي من أشهر النماذج في هذا المضمار

الجماعة

إن كلمة "الجماعة" تعبِّر حسب ما هو مترسخ في أذهاننا وقلوبنا عن مجتمع فاضل متميز تكاتفوا فيما بينهم لأجل رضا الله تعالى. ولا يمكن أن يكون المسلم أنانياً منزوياً أبداً، فهو مضطر بواقع حاله لأن يكون منتسباً إلى الجماعة الإسلامية، ومداوماً عليها، ومتمماً لها

وصلاة الجماعة عُدت أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين مرة. وصلاة الجمعة والعيدين لا يصح أداؤها فرادى، وإنما لا بد من أدائها في جماعة. وكذلك فإن الحج يُعد ملتقى اجتماعياً للمسلمين. وقد جاء في الحديث النبوي الشريف

الجماعة رحمة، والفرقة عذاب" (أحمد، جـ4، ص 278)

فكل ما تقدم يلقِّن المسلم شعورَ الجماعة دائماً

ومن جهة أخرى؛ نجد أن مسؤولية المسلم عن الآخرين وإنشاء المؤسسات الوقفية والخيرية انطلاقاً من هذا الإحساس بالمسؤولية  يُعَدُّ انعكاساً للحس الجماعي الموجود في المجتمع. فالجماعات تُعدُّ بالنسبة للمجتمع إحدى وسائل الرحمة

ولكن إقدام بعض الناس على تشكيل جماعة بقصد الإفساد، وإضفاء صبغة إسلامية عليها هو أمرٌ مردودٌ، وسببٌ لجلب غضب الله تعالى

يقول الله عزّ وجل في كتابه العزيز

(... وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوٰى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْاِثْمِ وَالْعُدْوَانِ...) (المائدة : 2)

إذاً؛ إن تشكيل جماعة للقيام بأعمال الخير، والتعاون على البر والتقوى أمر جائز ومقبول. وأما الاجتماع على العداوة والإثم والسوء والشر وإن كان على شكل منظمة أو فرقة فأمر مردود

لذلك فإن محاولة الحط من قيمة مفهوم "الجماعة" الذي يحتل مكانة مهمة ومتميزة في قلوبنا، ووضع كل الجماعات في كفة واحدة لوجود بعض الاستغلاليين، يُعد جنايةً بحق حقيقته الأصلية

لقد ظهرت عبر التاريخ الكثير من الفرق بمظهر ديني وتحركت لتحقيق مقاصد لا يقبل بها الدين. والمحاولات الجارية اليوم لإعلان كافة الجماعات والطرق على أنها منظمات مشبوهة وخطيرة بالاعتماد على مثل تلك الفرق المنحرفة لا تختلف أبداً عن وضع المتفجرات داخل الأسس المعنوية التي تحفظ تماسك الأمة ووجودها

فينبغي عدم إتاحة الفرصة للمحاولات الخبيثة التي تتذرع ببعض الذين يستغلون العقيدة الإيمانية لدى الشعب لتستهدف هوية "أهل السنة والجماعة" التي صارت كالشريان الرئيسي لهذه الأمة منذ ألف عام. إذ ينبغي التحلي بالفراسة والبصيرة والتحرك وفقها لإفشال هذه المخططات الخطيرة التي يرسمها أعداء الإسلام

إن الإصرار على رد كافة الجماعات والطرق جملةً وتفصيلاً بدلاً من توجيه النقد لأخطائها والعمل على إصلاحها يُعدُّ محاولةً لاقتلاع أحد شرايين هذه الأمة. فهذا العمل الذي يدل على الغفلة أو سوء النية لا يختلف أبداً عن محاولة قطع الجذع الذي تستند إليه أمتنا وحضارتنا منذ قرون طويلة. وهذا الوضع ليس من شأنه إلا إدخال السرور في قلوب أعداء هذه الأمة

وصفوة الكلام أن ردَّ أمرٍ ما جملةً وتفصيلاً بالاستناد إلى بعض النماذج التطبيقية السيئة له – دون مراعاة جوانبه الإيجابية – ليس إلا اشتراكاً بالجرم مع الذين أساؤوا التطبيق واستغلوا الأمر لمنافعهم الخاصة. فالأمر الذي ينبغي القيام به هنا هو التمييز بين الغث والثمين وفرزهما، وعدم الخلط بين الصواب والخطأ. فمثلاً؛ لا نستطيع رفض علم الطب لأن هناك بعض الأطباء يسيئون استخدام مهنتهم، وكذلك لا يمكن التخلي عن المحاماة بحجة أن بعض المحامين يسيئون استعمال مهنتهم، ولا يمكن اتهام جيش بكامله بالإرهاب والإجرام لأن هناك بعض الإرهابيين والمجرمين قد اندسوا في صفوفه

ويوجد في هذا الشأن مثال شهير من التاريخ الإسلامي وهو أمرُ النبي عليه الصلاة والسلام بهدم مسجد الضرار الذي أقام المنافقون أساسه على النفاق والفتنة، وبالمقابل أداؤه الصلاة في مسجد قباء الذي أُسس على الإخلاص والتقوى

فإذا نظر الإنسان إلى هذين البناءين من الخارج يجد بأن كلاهما مسجد. ولكن إذا تم النظر إلى المسألة من الداخل فيظهر بأن الفرق بينهما كالفرق بين المشرق والمغرب، والفرق بين الجنة والنار. لأن مسجد قباء هو ذاك المسجد المبارك الذي يجمع ويوحد قلوب المؤمنين بين يدي الله تعالى، بينما يُعد مسجد ضرار حاضنةَ الشر التي أسسها المنافقون بقصد شق صفوف الأمة وإثارة الفتنة بين أفرادها

إن وظيفة المؤمن الذي ينظر إلى الأحداث بمنظار إيماني انطلاقاً من هذا المثال الذي يلخص المشهد السائد في عصرنا هذا ليس الاعتراض على المساجد، والجماعات، والطرق، وإنما المراقبة والنظر بفراسة المؤمن لاكتشاف أوكار الفساد التي جعلت من هذه الكيانات قناعاً لها، ثم محاربتها ومكافحتها لتخليص المجتمع من شرورها. وظيفته حماية الأصلي والقضاء على المزيف، وعدم التهاون مع الذين يبطنون الشر للقيم المعنوية والروحية. وإلا - أي إذا جرت محاربة الجماعات والطرق كلها - ستحدث نتائج كارثة ومحزنة بسبب القرارات الخاطئة البعيدة عن الصواب، وذلك كمَن يحاول التخلص من البرغوث فيقرِّر حرق الفراش كله، فبدل الضرر الواحد ستحدث مئات الأضرار

الإمام

إن المعنى الأصلي لكلمة "الإمام" يشير إلى الذين يرشدون الناس بحالهم، ومقالهم، وسلوكهم على طريق الخير والهداية والاستقامة، وهؤلاء هم الأنبياء والرسل، ومَن سار على دربهم من بعدهم. وبناء على ذلك؛ فإن الإمام الأعظم للمؤمنين هو سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، لأنه شخصية قدوة لا مثيل لها للبشر أجمعين. ومن الأسماء التي يسمى بها نبيُّنا الكريم: "إمام الأنبياء". وقال الله عزّ وجل في كتابه الكريم

(وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان : 74)

فالله عزّ وجل يوجهنا في هذه الآية القرآنية إلى أن نكون من أهل التقوى من جهة، ومن جهة أخرى أن نقدم بذاتنا شخصية إسلامية تكون قدوة وإماماً في التقوى

الجهاد

إن "الجهاد" الذي يُعد أحد أكثر المفاهيم الإسلامية تعرضاً للتحريف والتشويه في عصرنا الحالي هو إعلاء شأن الإسلام في القلوب بإنفاق مختلف الإمكانات التي أكرم الله بها عباده في سبيله. فمثلاً تُعد خدمة التبليغ "جهاداً أكبر". يقول الله عزّ وجل

(فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (الفرقان:  52)

 إن نزول هذا الأمر الإلهي "الجهاد الكبير" في الفترة المكية إذ لم يكن المؤمنون يمتلكون القوة والإمكانات المادية التي تؤهلهم لمحاربة ومقاومة المشركين، يقدم لنا أحد أهم معاني الجهاد

إذاً؛ إن محاولة حصر مفهوم الجهاد بالقتال فقط إنما هو تحريف وتشويه لمعنى هذا المفهوم

إن غاية الجهاد في الإسلام ليست إزهاق الأرواح وإراقة الدماء، وإنما الغاية هي فتح القلوب. وكذلك يُعد من الجهاد التضحيةُ بالروح عند الضرورة للدفاع عن بلاد الإسلام، وحماية الأعراض، وحفظ المقدسات من أي اعتداء. ولكن تقديم هذا النوع من الجهاد على أنه المقابل أو المقصود الوحيد "للجهاد" الذي يعني في الأساس جعل كل الإمكانات والطاقات في سبيل الله فيه تضييق لمحتوى هذا المفهوم. وهذا هو ما يريده أعداء الإسلام لإبعاد الناس عنه، وذلك بإظهار الإسلام وكأنه "دين حرب". فظاهرة (الإسلاموفوبيا) التي تعد من أعظم فتن عصرنا أثرٌ من آثار هذا التخريب والتشويه الذهني

الخدمة

تعبِّر كلمة "الخدمة" بمعناها الأساسي عن مختلف الأعمال والأنشطة التي يتم القيام بها لوجه الله تعالى. فالثمرة الأولى للإيمان إنما هي الرحمة، وأول مظهر للرحمة هو "خدمة" المخلوقات برأفة. وهي العمل على انتشال المحتاجين من غائلة الجوع والحرمان بتقاسم مختلف النعم التي بين أيدينا معهم. وأما إن كانت الخدمة للنفس والشيطان والباطل، وظهرت بمظهر الإسلام، فلا تسمى ب "الخدمة" أبداً. لأنه جاء في الآية القرآنية

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (الكهف:  103 - 104)

 لذلك لا يطلق على الجهود المبذولة في السبل التي لا يرضى الله تعالى عنها تسمية "الخدمة". فالخدمة الحقيقة هي كل نشاط وعمل يكون في سبيل الحق ولوجه الله تعالى

الطاعة، التسليم، الإخلاص

علينا قبل كل شيءٍ أن نتذكر بأنه لا يجور الوصول إلى غاية مشروعة بطريقة غير مشروعة. لذلك فإن استباحة حرمات الله تعالى بذريعة خدمة غايةٍ أو غايات سامية لا تدل على التسليم والطاعة أبداً. لأن هذا  ليس بطاعة، وإنما عصيان، وسببٌ لاضطراب الناس، وانزلاق المجتمع إلى الفتنة والفساد

فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام

على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية. فإن أُمِرَ بمعصية، فلا سمع ولا طاعة" (مسلم، الإمارة، 38)

لذلك على المؤمن أن يعلم بأن مقياس الحقيقة الوحيد في كل أمر هو القرآن والسنة. وينبغي تقييم الأوامر والتعليمات والتوجيهات الصادرة ممَّن يتَّبِعُهم على ضوء هذه الحقيقة. وينبغي دائماً وأبداً اتباعُ الحق واجتناب الباطل مهما كانت الظروف والأحوال. وليعلم المؤمن بأن طاعةَ الباطل عصيانٌ للحق. فطاعة أي أمر مخالف للقرآن والسنة – بغضِّ النظر عن الذي أصدره – سلوكٌ مخالف للإسلام. فالحدود الأساسية والجديرة بالاعتبار هي حدود الإسلام، وليست حدود الأشخاص

يقول حذيفة رضي الله عنه: دخلت على عمر رضي الله عنه وهو قاعد على جذع في داره، وهو يحدث نفسه فدنوت منه فقلت: ما الذي أهمك يا أمير المؤمنين؟ فأشار إلى خشيته من الوقوع في الخطأ وهو أمير المؤمنين

قلت: هذا الذي يهمك! والله لو رأينا منك أمراً ننكره لقوَّمناك. فقال: الله الذي لا إله إلا هو لو رأيتم مني أمراً تنكرونه لقوَّمتموه؟

فقلت: الله الذي لا إله إلا هو لو رأينا منك أمراً ننكره لقوَّمناك

ففرح بذلك فرحاً شديداً، وقال: الحمد لله الذي جعل فيكم أصحابَ محمد مَن الذي إذا رأى مني أمراً ينكره قوَّمني. وكذلك قال عمر رضي الله عنه

أحب الناس إلي من رفع إلي عيوبي. (السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 105)

إذاً لا أحد ما عدا الأنبياء والرسل معصومٌ من الخطأ والتقصير مهما كانت مكانته ومنصبه، فلا طاعة ولا تسليم لأحد في شيءٍ مخالف لأمر الله تعالى

نسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يدع مجالاً لمن يريد الكيد بأمة محمد عليه الصلاة والسلام، وأن يكرمنا ويكرم أجيالنا القادمة بالبصيرة والوعي والفراسة لحفظ قيمنا المادية والمعنوية

آمين