عزة المؤمن

إسماعيل لطفي تشكان

وللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (المنافقون، 8)

المعرفة ومقدار الوعي

كثيرة هي معاني كلمة العزة التي يقول القرآن الكريم إنها من صفات الله جل جلاله، ويشير إلى أنها تحتل مكانة هامة في العلاقة بين المؤمنين وغير المؤمنين، فمن هذه المعاني: الشرف والرفعة والقوة والمكانة السامية والانتصار والهيبة. وتُعرَّف عزة المؤمن على أنها شرفه وهيبته. وإذا ما استبدلنا كلمة المؤمن بالمصدر المشتق منه؛ أي الإيمان تصبح الجملة "عزة الإيمان" والعزة بهذا المعنى: "الأصالة النابعة من الإيمان" وهذه هي العزة الحقيقية. وجاء ذلك في الآية الكريمة: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْملْكِ تُؤْتِي الْملْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْملْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ حيث تشير الآية إلى المصدر الحقيقي للعزة، وفي الآية الكريمة التالية: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ إشارة أيضاً إلى المصدر الوحيد للعزة التي يطلبها الإنسان وإلى المكان الذي يجب عليه البحث فيه عن العزة. وفي آية كريمة أخرى موجهة للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ دلالةٌ على أن الادعاءات المغرِضة لا تضر عزة المؤمن

وتدل الآيتان الأخيرتان على أن العزة لله تعالى ولكن هذا لا يعني أن امتلاك البشر لهذه الصفة ومقوماتها أمر مستحيل، بل على العكس إن كل عزة أو شرف أو رفعة يمكن أن يتسم بها الإنسان إنما هي من الله تعالى، ولا يمكن أن تكون هذه الصفات أصيلة لدى شخص إلا إذا وعي هذه الحقيقة. ويتجلى ذلك واضحاً في الآية الكريمة: ﴿ولِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ

البعد السلوكي

إن كلمة العزة تعني من جانب آخر المكانة المرموقة للشخص في المجتمع، فكل من يمتلك قوة اقتصادية وتأثيراً اجتماعياً يُعدُّ صاحب عزة (العزة الظاهرية). وفي هذا السياق تستخدم كلمة "العزة" مناقضة لكلمة "المذلة" التي تعني العجز والضعف والانحطاط. ويتجلى ذلك في الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ونجد تعريفاً للصحابة الكرام في الآية التالية: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ فالمعنى الذي عبرت عنه الآية المذكورة أعلاه "أَعِزَّةٍ" يقابلها في الآية الأخرى كلمة "أَشِدَّاءُ". وهذا يعني "أن معاملة الكافرين بوقار وبشيء من القسوة والعنف" إنما هو سلوك تفرضه عزة الإيمان

ونجد إشارة في الآيتين الكريمتين نفسهما إلى أن العزة المنبعثة من إيمان المسلم هي العزة الحقيقية الأصيلة التي تقتضي التعامل بتواضع ورحمة مع المؤمنين، وأي تصرف خارج عن هذا الإطار لا يليق بعزة الإيمان على الإطلاق. ذلك أن إظهار القوة أمام المسلمين أو أمام الضعفاء، والخنوع أمام الأعداء أو الأقوياء ليس بالتصرف الذي يسلكه المسلم أبداً. وقد وصف الشاعر التركي محمد عاكف أرصوي بكثير من الحزن هذه الحالة بأنها "مذلة ما بعدها مذلة" قائلاً

يبدون أسوداً من الخلف ومن الأمام ما هم إلا قطط متملقة

لم يرَ الإسلام البتة قبلنا مذلة كهذه المذلة

إن الهزيمة لا تعني دائماً فقدان القوة والأصالة والعزة. فمن يتمتع بالقوة والرفعة يمكن له أن يتعرض للهزيمة في بعض الأحيان إلا أن هذه الهزيمة لا تغير الحقيقة، ولا تطغى على الأصالة والعزة الحقيقيتين النابعتين من الإيمان. وهذا ما حدث في غزوة أُحد حيث هُزم المسلمون ظاهرياً فخاطبهم الله تعالى مواسياً ومؤكداً هذه الحقيقة التي لا تتبدل: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وفي آية كريمة أخرى نرى إثباتاً قاطعاً على ذلك بقوله تعالى: وَاللهُ مَعَكُمْ

كما وردت كلمة العزة في آيات أشارت إلى موقف الكافرين والمنافقين من الإسلام حيث بدوا متكبرين ومتغطرسين ومعاندين ومتعجرفين. ومثال على ذلك ما جاء في الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ

السعي من أجل العزة

كل من يلجأ إلى غير الله تعالى ويجعل من المخلوقات إلهاً يطلب منه العزة، يقع في الخطأ ولن يفلح سعيه وهذا ما تؤكده وتعلنه الآية الكريمة: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا﴾ فلا ريب أن السعي للبحث عن العزة والشرف في غير مكانهما سيذهب أدراج الرياح، إلا أن منطق الكفر لا يعي هذه الحقيقة، ويبيِّن حالَ الكافرين قولُهُ تعالى: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ حيث توضح الآية الكريمة أخطاءهم السلوكية والنفسية

إن السعي إلى العزة والتمتع بها أمر جميل بلا ريب، ولكن على أن يتم ذلك بالتوجه إلى الله تعالى صاحب العزة الحقيقية وأن تكون تلك العزة نابعة من الإيمان، وكما قال الشاعر عاكف أرصوي بحزن كبير وبصوت مكلوم: "الإسلام دين العزة" وقال

يا جموع المسلمين! إنما هذا الدين المبين الذي أقررنا به في عالم الأرواح هو دين العزة، دين العظمة، دين السعادة. وليس دين المذلة، ليس دين المسكنة وليس دين البؤس

إذا ما انُتهكنا اليوم، فلأننا نستحق الانتهاك

انظر!.. أين هي عزتنا أين هي أخلاقنا؟

إن الأشخاص والجماعات والحكومات الإسلامية الذين تركوا المسلمين جانباً وبحثوا لأنفسهم عن العزة والمكانة على المستوى العالمي في الأوساط والمجموعات غير المسلمة، قد وقعوا في خطأ كبير يشابه خطأ غير المؤمنين الذين أشارت إليهم الآية الكريمة أعلاه. وهذا التصرف مخالف تماماً للقواعد الأساسية لعزة المؤمن. إن النهج الفكري الذي يليق بالمسلم يتمثل بما قاله المرحوم محمد حميد الله: "إن أخانا المسلم الأكثر إثماً أقرب إلينا من الكافر". والتصرف خلافاً لذلك سيعني ترك المسلمين أصحاب العزة الحقيقية، والتواطؤ مع أعداء الإسلام ضدهم، والتحول إلى المنافقين الذين يسعون إلى محاربة المسلمين وخيانتهم. والآية الكريمة الآتية قد وصفت المنافقين واستهجنت أفعالهم وحذرت منهم: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا

هذه الحقائق دفعت أحد أحباب الله ليجيب مسلماً استوقفه في الطريق طالباً منه الدعاء لأمة محمد بالنجاة، إلى القول: "يا بني أرني أمة محمد أولاً حتى أدعو لها بالنجاة

فهيا أيها المؤمنون... هيا يا إخوتي... هلموا بنا معاً إلى الإسلام من جديد، إلى الإيمان من جديد، إلى العزة من جديد، إلى الهيبة والسعادة... إلى الرحمة والمغفرة

الحواشي: 1) آل عمران، 26. 2) فاطر، 10. 3) يونس، 65. 4) المنافقون، 8. 5) المائدة، 54. 6) الفتح، 29. 7) صفحات، ص. 328. 8) آل عمران، 139. 9) سورة محمد، 35. 10) البقرة، 206. 11) مريم،81. 12) ص، 1-2. 13) محمد عاكف أرصوي، الوعظ والتفسير، ص. 304 (منشورات رئاسة الشؤون الدنية التركية، أنقرة، 2012). 14) النساء، 139


عفو نبي الرحمة

إن الله تعالى يحبُّ العفوَ، وقد كتب على نفسه أن يقبل توبة العبد إن ندم على ذنبه بقلبه. والله تعالى يريد من عباده أن يعفوا لأنه يحب العفو. وأحسن الطرق لنيل العفو الإلهي أن يكون العبد عفوًّا

وخير أمثلة العفو نجدها في حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث رحمة للعالمين

ففي الحديبية قبض الصحابة الكرام على جماعة يريدون قتل رسول الله، فعفا عنهم عليه الصلاة والسلام

وقد أوحى اللهُ تعالى إلى رسولَه الكريم فخبَّره عن لبيد المنافق الذي أقدم على سِحر النبي صلى الله عليه وسلم وعمَّن حرَّضوه على ذلك. غير أنه عليه الصلاة والسلام لم يرَ وجه لبيد ولم يعيِّره بفعلته، ولم يعاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيدًا الذي أراد قتله ولا قبيلته بني زريق

فقالت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله فهلَّا، تعني تَنَشَّرْتَ؟، فقال النبي عليه الصلاة والسلام

«أمَّا اللهُ فقد شفاني، وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرًّا»

لقد عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمَّن أساء إليه إساءة عظيمة مع أنه كان قادرًا على معاقبته، ولم يعيِّره بذنبه بكلمة ولا حتى بإشارة. فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحب أن يُساءَ لأي أحد مسلمًا كان أم كافرًا، بل كان يعامل كل امرئ بأدب عظيم وأخلاق حميدة

وقد وضعت امرأةٌ يهودية السم في طعام رسول الله بعد فتح خيبر. فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا وضع لحم الشاة في فيه أن الطعام مسموم. فاعترفت المرأة اليهودية أنها وضعت السم في الطعام، ومع ذلك عفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم

ولمَّا أسلمَ ثمامة بن أثال زعيم قبيلة اليمامة، قطع علاقته التجارية بمشركي مكة. وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة، فلما أضرَّ بهم، كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم، وتحض عليها، وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضرَّ بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلِّيَ بيننا وبين ميرتنا فافعل. فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن خلِّ بين قومي وبين ميرتهم

مع أن أولئك المشركين أنفسهم قد أنزلوا بالمسلمين أشد العذاب لما قاطعوهم في مكة ثلاث سنوات. لكن نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام عفا عنهم على كل ما فعلوه

وبعد فتح خيبر في السنة السابعة للهجرة، بلغه صلى الله عليه وسلم ما فيه أهل مكة من الضر والحاجة والجدب والقحط فبعث إليهم بشعير ذهب، وقيل نوى ذهب... وأخذه أبو سفيان كلَّه وفرَّقه على فقراء قريش، وقال: جزى الله ابن أخي خيراً فإنه وَصُولٌ لرَحِمِه

فرقَّت أفئدة أهل مكة أمام مثل تلك الفضائل العظيمة، وأسلموا جميعًا بعد مدة

وقد عفا النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة حتى عن هند بنت عتبة عندما أسلمت، وهي التي أمرت بقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم ولاكت كبده

إذ قدِمت هند مع نسوة من قريش يردن مبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت قد بدَّلت نقابها متنكرة خوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة. فلما سكتت النسوة، قالت هند

«يا رسول الله، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، لتمسني رحمتك يا محمد، إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة. ثم كشفت عن نقابها فقالت: هند بنت عتبة، فاعفُ عمَّا سلف يا نبيَّ الله عفا الله عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مرحبًا بك". فقالت: والله يا رسول الله، ما كان على الأرض من أهل خباء أحب إليَّ أن يُذلُّوا من أهل خبائك، ولقد أصبحت وما على الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يُعزُّوا من أهل خبائك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وزيادة أيضًا!"»

لقد عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هند وكثيرين غيرها إعظامًا وإجلالًا لكلمة التوحيد

وقد سأل نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم أهل مكة الذين كانوا يرقبون مصيرهم بعد الفتح

«ماذا تقولون وماذا تظنون؟» قالوا: نقول خيرًا ونظن خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإني أقول كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

وفي خطاب آخر قال

«اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله قريشًا»

وقد بايع أهل مكة النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وتعهدوا له بإطاعة أوامر الله ورسوله ما استطاعوا

فعن أبي العباس رضي الله عنه أنه قال

«لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في الفتح، قال لي: "يا عباس أين ابنا أخيك [أبي لهب] عتبة ومعتب لا أراهما؟" قلت: يا رسول الله، تنحَّيا فيمن تنحَّى من مشركي قريش، فقال لي:"اذهب إليهما وأتني بهما"»

قال العباس: فركبت إليهما بعُرَنَة، فأتيتهما، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكما، فركبا معي سريعين حتى قدِمَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهما إلى الإسلام، فأسلمَا، وبايعَا، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بأيديهما، وانطلق بهما يمشي بينهما حتى أتى بهما المُلتَزَم، وهو ما بين باب الكعبة والحجر الأسود، فدعا ساعة، ثم انصرف والسرور يُرَى في وجهه، قال العباس: فقلت له: سرَّك الله يا رسول الله، فإني أرى في وجهك السرور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم

"نعم إني استوهبت ابنَي عمي هذين ربي، فوهبهما لي"

لقد كان أبو لهب وابنَاه ألدَّ أعداء رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذ أساؤوا إلى رسول الله كثيرًا. غير أن رسول الله عليه الصلاة والسلام عفا عن ابنَيه عندما نطقَا بكلمة التوحيد. ولو عاش أبو لهب وآمن بالله سبحانه وتعالى، لعفا عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام بلا ريب، ولَسُرَّ سرورًا عظيمًا بإسلامه. غير أن قدرَ الله تعالى يبقى مجهولًا يفوق حدود إدراكنا

وكان عكرمة بن أبي جهل من أعداء الإسلام البارزين. وبعد فتح مكة هربَ إلى اليمن، ثم أحضرته زوجته إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقد أسلمَ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم برضا

«مرحبًا بالراكب المهاجر». وعفا عمَّا ارتكبه من ظلم للمسلمين

وكان هبَّار بن الأسود من أشدِّ أعداء المسلمين، ولمَّا هاجرت زينب بنتُ النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، ضربها بالرمح وكانت حبلى فسقطت، وأسقطت هناك ما في بطنها، وكان سقوطها ذلك سببًا في وفاتها فيما بعد

ولم يقتصر هبَّار على هذا الجرم فحسب، بل جارَ على المسلمين كثيرًا. ولمَّا فُتِحَت مكة هرب ولم يُقبَض عليه. وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بالمدينة في أصحابه إذ طلع هبَّار بن الأسود، وقد جاء مُقِرًّا بالإسلام. فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعفا عنه. ومنع أصحابه من تحقيره والتعرض له

فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو الله سبحانه وتعالى أن يغفر لأمته

*

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنًا حيًّا، إذ كان يعفو دون تردد عن كل جرم ارتُكِب بحقِّه. أما إن كان الجرم بحق الناس، فلم يكن يهدأ حتى تُردَّ الحقوق لأهلها، ويأخذ كل ذي حقٍّ حقَّه

فلمَّا كلَّم أسامةُ رضي الله عنه -وكان أحبَّ الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم- سيدَنَا محمدًا في امرأة قد سرقت وكانت من أسرة مشهورة، احمرَّ وجهه عليه الصلاة والسلام وقال

«والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة فعلت ذلك لقطعتُ يدها»

إن صفحة الغضب في كتاب الحياة صفحة مظلمة، والسبيل للخلاص من هذا الخطر العظيم استعمال سلاح الصبر والأخوة أمام هذه الفورة المنفِّرة، والالتجاء إلى السكينة دون إفساد الاعتدال والتوازن

وما أعظم تضحية الصحابة الكرام وعفوهم الذي لا نجد له مثيلًا  فيما   يخصهم؛ وكيف لا يكون ذلك حالهم وهم من تربوا بين يدَي رسول الله صلى الله عليه وسلم! والحادثة التالية التي مرَّ بها سيدنا علي رضي الله عنه دليلٌ على ما ذكرناه

في إحدى الغزوات كان سيدنا علي رضي الله عنه يقاتل رجلًا من صناديد الرجال، فطال بينهما القتال، وفي النهاية تمكَّن رضي الله عنه من خصمه وأسقطه جريحاً تحته. ولما هَمَّ بقتله بَصَقَ المُشرِك في وجه سيدنا علي رضي الله عنه والسيف في الهواء يُوشك أن يهوي به. فما كان منه رضي الله عنه إلا أن أرجع سيفه إلى غمده، وانصرف عنه ولم يقتله

فلما سُئِل قال: لقد كنت أقاتله لله فلما بَصَقَ في وجهي، أحسست بأني أريد الانتقام لنفسي فتركته

وقد عبَّر مولانا جلال الدين الرومي عن تلك الحادثة تعبيرًا نابعًا من أعماق قلبه فقال

«قال الرجل: يا علي، قد وضعتَ سيفك الحاد في رقبتي! وكدتَ تقتلني فتركتني وعفوت عني! فلمَ فعلت ذلك؟ ماذا رأيتَ حتى سكنَ ذلك الغضب الذي طرحَني أرضًا؟

يا أيها البطل الذي لا يُقهَر في ساحات الوغى! الطف عليَّ واشرح ليَ شيئًا من حالك! ما هذي الأحوال التي أنت عليها؟

يا علي، قد فهمت الآن أن ذلك من أسرار الحق تعالى. فقتلُ رجل بلا سيف أمرٌ لله تعالى. اشرح لي هذا السر

فقال سيدنا علي رضي الله عنه بعد كلام خصمه

يا رجل، اِعلَم أنَّي أحمل سيفي في سبيل رضا الحق تعالى، لأني عبد الله، لا عبد النفس والهوى والوساوس

لقد عرفتُ نفسي، واستثقلت أن يغلبني بصاقك. وأرجعت سيفي إلى غمده لخشيتي من شر نفسي. لذلك لم التفت إلى ما سوى رضا الله تعالى

إنني مثل السيف المزيَّن بالجواهر مليء بلآلئ التوحيد، أبذل جهدًا في إحياء الناس أكثر من قتلهم في المعارك

لذلك حينما بصقت في وجهي أثناء المبارزة ظهرت حال نفسانية -، ففضَّلتُ إرجاعَ سيفي إلى غمده، لعلَّني بذلك أكون من السعداء الذين يحبون لله ويبغضون لله

وعندما يكون الحديث عن أسير النفس والشهوة، فحاله أسوء من حال العبد والأسير، لأن العبد قد يغدو حرًّا بكلمة من سيده، أما عبد النفس والشهوة فيسكر في لذات فانية يلتذذ بها، ثم يصحو فيجدُ نفسَه في خسران أبدي

لذلك لم أتَّبع هوى نفسي وأمسكت عن قتلك

يا رجل، لا صفة عندي غير صفات الحق تعالى. فإن أردت أن تدخل حِمَى هذه الهداية، هلمَّ إليَّ

اقترب، ليعتقك الله بفضله ورحمته! فرحمته تسبق غضبه

ثم قال سيدنا علي رضي الله عنه لهذا الرجل السعيد الذي تشرَّف بنور الهداية

الآن قد نجوت من الخطر، وعرفت نفسك، وغدوت كالجوهرة النادرة بنور الهداية

يا أيها الرجل الذي تشرَّف بنور الله، الآن أنت أنا، وأنا أنت؛ أي إنك عليٌّ أيضًا. وإن كان الحال كذا، فكيف لا أضمُّ عليًّا إلى صدري؟


عندما تُكسَر أجنحة الأطفال

محمد أمين كاراباجاك

يرغب الآباء والأمهات في أن يكون أطفالهم ناجحين دائماً في المدرسة، وأن يدرسوا دون أن يُطلب منهم ذلك، وأن يكونوا الطلبة الأكثر تفوقاً في مدارسهم. ويرغبون أيضاً في أن يروا أبناءهم في الحياة الاجتماعية يتحملون المسؤولية، ويعتمدون على أنفسهم في أداء أعمالهم، ويتمتعون بثقة تامة بالنفس. إن التمني أمر سهل، غير أن تحقيق الأماني يكون في بعض الأحيان أمراً صعباً

أولاً يجب أن لا تتجاوز الأماني طاقة الأطفال ومقدراتهم. إذ يعتقد أغلب الناس أن أطفالهم أذكياء وموهوبون، لكنهم يشتكون في بعض الأحيان حينما يرون أطفالهم لا يدرسون. إن الأطفال-بطبعهم- يميلون منذ نعومة أظفارهم إلى اللعب بكل ما يصادفونه، فذلك أمر ضروري لنموهم العقلي، وأثناء ذلك يتعلمون ما يجب عليهم تجنبه من خلال أوامر الوالدين التي تنهاهم عن لمس هذا الشيء أو اللعب بذاك أو الذهاب إلى مكان ما... لذلك يبتعد الأطفال عن دروسهم، ويتجنبون البحث وتفحص المحيط وتقليب صفحات الكتب، وهكذا فإنهم عندما يكبرون سيتحولون إلى أشخاص يكتفون بالمراقبة وحسبْ، بعد أن يقل لديهم شغف البحث ويعجزون عن معرفة ما يريدون فعله، ويفقدون الرغبة في الدراسة

ثانياً يعمد الآباء إلى وضع الأطفال أمام عدة خيارات لتنمية إحساسهم بالأمان والمسؤولية. وفي حين يعطي الآباء أبنائهم الإحساس بالأمان حتى النهاية في موضوع الدراسة، فإنهم لا يقدمون لهم الدعم والثقة اللازمين فيما يخص إعطاء القرارات وتطبيقها

يجب أن تكون توقعات الأهل من أطفالهم ملائمة لقدراتهم ولطاقاتهم، ويجب تطوير إحساس المسؤولية واحترام الذات لدى الأبناء، لأن الفعل الذي لا يرافقه إحساس الثقة بالنفس كأوراق أشجار الخريف التي تتساقط على الأرض مع أول هبة ريح خفيفة

تنمية الشعور بالمسؤولية

يتربى الأطفال في مجتمعنا عموماً أشخاصاً تابعين، وليس أفراداً يتمتعون بحس المسؤولية. لذلك يكونون تابعين للشخصية المرتبطين بها، ويتخوفون من إقامة علاقات صداقة، ويصبحون انطوائيين غير قادرين على الاعتماد على أنفسهم أو اتخاذ القرارات

لا تقف تدخلات الآباء بأطفالهم عند حدٍّ، فَهُم يتدخلون في كل شيء بدءاً من الأحذية التي ينتعلونها، وليس انتهاء بالمهنة التي سيختارها أبناؤهم مستقبلاً، بل يريدون أيضاً أن يقرروا عوضاً عنهم متى وأين وكيف سيدرسون. ولعل بعض الآباء يرغبون بخوض الامتحانات عوضاً عن أبنائهم إذا سُمح لهم بذلك

وعندما يبلغ الأبناء سنَّاً معينة، يلقي الآباء على مسامعهم عبارات مثل "لقد أصبحتم كباراً لكنكم لا تقومون حتى الآن بعمل أي شيء بدوننا". إن حال الآباء هذا كحال الشخص الذي يطلب من العصفور الطيران بعد كسر جناحَيه

إذا رغبنا برؤية أبنائنا ناجحين في المدرسة وفي المجتمع ينبغي لنا التوقف عن القيام بأعمالهم عوضاً عنهم وعن التفكير بشؤونهم

يجب تشجيع الأبناء على أداء مهام ملائمة لأعمارهم، ومكافأتهم أحياناً تقديراً لجهودهم. ويجب مقارنة الأمس باليوم بدلاً من مقارنة الأطفال بالآخرين، والتركيز على تصرفات الطفل الإيجابية وليس السلبية لتنمية شعوره بالاحترام تجاه ذاته

إلى جانب ذلك يجب

إعطاء الأطفال حق التعبير في النقاشات الأسرية

التركيز على الجوانب الإيجابية وليس السلبية لدى الأطفال، وإبداء ردود الأفعال المناسبة على تصرفاتهم السلبية

أن تكون الآمال المعقودة على الأطفال ملائمة لأعمارهم وقدراتهم

بث روح الشجاعة لدى الأطفال من خلال جعلهم يتحملون مسؤوليات تلائم أعمارهم وقدراتهم

جعل الأطفال يشعرون أنهم ذوو قيمة وأن لهم مكانة لا يستغنى عنها في الأسرة

تجنب إطلاق الأحكام السلبية بحق الأطفال وعدم معاقبتهم بصورة غير ملائمة

تجنب التركيز على صفات الأطفال السلبية أو مقارنتهم بالآخرين باستمرار

تشجيع الأطفال على دخول الأوساط الاجتماعية ولعب دور فيها

تشجيع الأطفال على استقبال الضيوف الذين يزورون المنزل وإعطائهم حق الكلام أمام الضيف

تجنب إبداء ردود أفعال أو انتقادات مبالغ فيها حيال التصرفات السلبية الصادرة عن الأطفال

والخلاصة أنه على الآباء أن يكونوا قدوة لأبنائهم، وأن ينموا إحساسهم بالثقة بالنفس، ويوكلوا إليهم مسؤوليات تناسب مهاراتهم، ويعطوهم دفعات إيجابية


غار حراء وبدء الوحي

كان يتصف النبي صلى الله عليه وسلم في شبابه بالصدق والأمانة والنزاهة، وكان زواجه بالسيدة خديجة زواجًا ميمونًا، وقبل أن يبلغ الأربعين من عمره، قدَّر الله تعالى أن يكون غار حراء في مكة مدرسةً يتعبد الله تعالى فيها ويملأ قلبه من الفيوضات والعلوم الربانية

ففي تلك المدرسة المليئة بالفيوضات والروحانيات تعلَّم العلوم الفانية والباقية. ولمَّا بلغ الأربعين من عمره المبارك جاءه الأمر الإلهي أن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ، فكان ذلك شهادةً له بالنبوة وأهليته للإرشاد وتبليغ الدين

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي قد بدأ يرى  «الرؤى الصادقة». فيأتي إلى غار حراء يتعبد فيه الليالي الكثيرة

إنَّ عقولنا تعجز عن فهم سِرِّ غار حراء وما وراءه من الحكم والأسرار، فذلك المكان المبارك سيظل مجهولًا للناس إلى أبد الآباد من حيث إنه مكانٌ للإعداد والتحضير. فما دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المكان - في الظاهر- إنما هو الظلمُ والجور والرذيلة التي انتشرت بين الناس، ورحمتُه التي عمَّت العالَم كله. أما في الحقيقة فقد كان غار حراء مرحلة إعداد لانتقال القرآن -نور الهداية- إلى إدراك البشر بواسطة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم

وإن وقفنا عند هذه المرحلة وحاولنا التنقيب عن تفاصيلها، فلن نستطيع أن نجد جوابًا، لأن هذا الأمر يفوق إدراك العقول، وبقاؤه سرًّا بين رب العباد وحبيبه أوجبَ تجليه في غارٍ بعيد عن أبصار الناس وأسماعهم

إن الإنسان العادي لا يستطيع تحمل الحِمل الثقيل الذي تفرضه مخاطبةُ الوحي، لذلك كانت مرحلة غار حراء مرحلةً ظهرت فيها تلك الطاقة والقدرة الخفية التي منحها اللهُ تعالى الإنسانَ، فكانت كمرحلة تحول الحديد الخام إلى فولاذ صلب بالخصائص الكامنة فيه... لذلك يقف الإدراك عاجزًا عجزًا مطلقًا أمام بلوغ أسرار هذه المرحلة وكشف خفاياها

وكلُّ من لم ينظر إلى هذا السر بعيون فؤاده وبصيرته، ويؤمن بالوحي الذي نزل في هذا المكان المبارك  فسيلحق بقافلة الأشقياء التعساء التي يقودها الجهَّال أمثال أبي جهل وأبي لهب


غاية التصوف

أن تكون عبدًا لله تعالى على أرقى حال»؛ ذلك هو دستور التصوف وغايته وهدفه الذي يسعى إليه، وضعها المتصوفة نصب أعينهم طَوَال الطريق، ووضعها الأولياء نبراسًا هاديًا تسعى حوله آمالهم وقلوبهم، وقبل ذلك كله وضعها الأنبياء عليهم السلام مَعْلمًا رئيسًا جامعًا لكافة الرسالات والنبوات والأديان

تلك هي غاية التصوف؛ بل غاية الغايات فيه، الفوز برضا الله عزَّ وجل عندما نأتيه بقلبٍ سليم نجا من علائق أمراض الدنيا، وتخلص من شوائب الذنوب والمعاصي، وسار على النهج النبوي متبعًا أوامر الشرع ونواهيه، متخلقًا بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ممتثلاً أوامر القرآن؛ يحيا بالعبادات ويحلِّق بها في أفق الإحسان، ولا يهوي بها إلى قاع العادات، فتسمو الروح، ويَطهُر القلب

فإذا غابت هذه الغاية، أو لفها شيء من الضباب، اختلَّت الموازين، وانعكست نتيجةُ المعادلة -رغم وجود الإنسان عنصرًا رئيسًا فيها- تلك هي حقائق التاريخ والواقع الذي حدثتنا عنه آيات القرآن الكريم، فالإنسان ذلك المخلوق الراقي الذي اصطفاه الله تعالى وميزه على كل مخلوقاته حتى على الملائكة، وارتقى -بعبوديته- إلى أعلى درجات الكمال، هو نفسه ذلك الإنسان الذي ارتكس بنفسه في وهاد الطين بعدما كان في عليين؛ حتى وصل إلى درجة (أولئك كالأنعام بل هم أضل) رغم أنه كان في الأصل مخلوقًا (في أحسن تقويم)، ذلك أنه تخلى عن المعيار الأساسي الذي به يُقَوَّم عمله، وافتقد التركيبة الأساسية التي تحول ذلك الطين إلى نور، وتحول ذلك التراب إلى جوهر، إنه الإيمان الذي تتبعه الأخلاق

 ولم تكن مهمة الأنبياء إلا تزكية الأنفس حتى يصل الناس إلى الإيمان، وتتحلى أنفسهم بالأخلاق

كذلك كانت مهمة الأولياء الذين واصلوا تلقي العلوم القلبية من لدن المنبع النبوي النوراني الفياض، ليواصلوا ما هم موكلون به من الهدي المحمدي

وهكذا؛ كان الارتباط الدائم بنهج المصطفى صلى الله عليه وسلم والسير الدائم على أثره، والاستمداد الذي لا ينقطع من ينبوعه هو ديدن هؤلاء المتصوفة السالكين في كل حركاتهم وسكناتهم، وأحوالهم ظاهرًا وباطنًا، وديدن أولياء الله الذين تعاهدوا هؤلاء بالتربية في طريق الهدي النبوي؛ حتى صدق فيهم الحديث الشريف

«العلماء ورثة الأنبياء»

وبناءً على ذلك يمكننا القول: إن النضج المعنوي هو ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم تحقيقه في قلوب وسلوك المؤمنين، وهو أيضًا غاية التصوف، الذي يدعو الناس إلى الإيمان، والتخلي عن دنس الدنيا، والتحلي بمحاسن الأخلاق، فيشمل النضج المعنوي الظاهر والباطن

 يقول الله تعالى في الحديث القدسي

إن هذا دين ارتضيته لنفسي، ولن يصلح له إلَّا السَّخَاء وحُسْنُ الخلق، فأكرموه بهما ما صحبتموه

 والتصوف من هذه الناحية هو إيصال المؤمن إلى حالة التلذُّذ بالأخلاق الحميدة السامية، مثل الرحمة، والرأفة، والكرم، والعفو، والشكر

إن النموذج الأسمى الذي يتأسى به أهل التصوف، والشمس التي تنير دربهم، والكوكب الذي يدورون في فلكه، وسفينة النجاة التي يتعلقون بها لتنقذهم من أرض الطوفان، وتوصلهم إلى أرض الإحسان؛ هي الحياة كما عاشها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم والتي وضع بنيانها القرآن الكريم، ونقلت لنا دقائقها السنةُ النبوية المطهرة، ثم يأتي الصالحون الذين عاشوا على هذا المنهج، وذاقوا لذة الحياة في ظلاله، فانتقلت إليهم الفيوضات القلبية إلهامًا وكشفًا ووجدًا، فنقلوا هذه الانعكاسات المعنوية إلى من حولهم من أرباب التصوف، ليحيا الجميع هذه الأحوال الرائعة في ظل سيرة المصطفى وصحبه الكرام، وتلك هي الغاية العظمى للتصوف وأهله

وثمة وجه آخر لغاية التصوف، هي مدُّ يد العون والمساعدة لأولئك السائرين في طريق الزهد، الذين يحملون المؤهلات القلبية والإيمانية التي تدفعهم في طريق الكمال، الطريق الذي يجد الإنسان فيه نفسه، ويجد فيه كمال إنسانيته بكمال عبوديته، ويعرف ربَّه حقَّ المعرفة بعد أن يعرف إمكاناتِه وطاقاتِه معرفةً تمكنه من استثمار هذه الطاقات، وتسخير هذه الإمكانات ليصل في المجاهدة إلى أعلى الغايات، ويرتقي أسمى الدرجات إلى جوار الحق سبحانه بعد أن ينتصر على نفسه، فيخمد نيران شهواتها ويعالج روحه من آفاتها

 يقول الله تعالى في القرآن الكريم

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب، 72)

هذا الإنسان الظلوم لنفسه، الجهول بالعلوم القلبية والظاهرية، يريد التصوفُ أن ينقذه من «ظلمه» لنفسه وللناس، ومن الجهل بعلوم الظاهر والباطن، كي ينال الكمالات الأخلاقية والإيمانية ويصير أهلًا لحمل الأمانة، ويصبح إنسانًا كاملاً

وفي هذا الباب يقول الإمام الغزالي رحمه الله

ورثة الأنبياء هم من يملكون علوم الظاهر والباطن؛ أي: العلوم العقلية والقلبية؛ العامة والخاصة

ولا ينفصل العلم عن الأخلاق، ولا السلوك عن الصفات، فخلاص الإنسان يبدأ بتطهير نفسه من سوء صفاته، وانحراف سلوكه، ثم تتحول هذه الصفات إلى الأجمل، وتتبدل هذه السلوكيات إلى الأفضل، ويرتبط العلم بالأخلاق، ويندمج السلوك في الأدب، ويتشرب العمل خلقًا، ويتشبع السلوك أدبًا، فيتحول العلم إلى «العرفان»، وتصير الأخلاق واقعًا يُعاش، ويصير العلم أركانًا تُبنى عليها صروح الخُلُق

وقد أفصحت آيات القرآن عن أولئك النفر القليل العظيم الذين حققوا هذه الغاية، ووصلوا إلى الكمال الإيماني، والتكامل العلمي الخلقي، فقال الله تعالى

(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس، 62-63)

ذلك الإيمان، وتلك التقوى هما سر الوصول والحصول: الوصول إلى الله، والحصول على فيوضات الله

فالإيمان عندما يسكن القلبَ ينفي عنه خبث المعتقدات الباطلة كلها، ويقربه من الحق سبحانه، والتقوى حين تجد طريقها إلى سلوك العبد تطهر قلبه من كل الأغيار، حتى لا يبقى فيه سوى الله سبحانه، وهكذا يصبح قلب ذلك العبد محل نظر الله تعالى، وموضع تجلي أسراره وحِكَمه


فتح مكة

وبعد الانتصارات المتتابعة للمسلمين وبشارة صلح الحديبية، فَتحت مكة أبوابها لفلذات كبدها فتحًا روحانيًّا فيه العفو والصلح والأمن والهداية. وبلغ المشتاقون إلى مكة مقاصدهم بعدما عاشوا فيها سنوات مليئة بالظلم والجور والمشقات، وانقلب حزن السنين إلى سرور وحبور. وشهد ذلك اليوم  أعظم عفو في التاريخ شكرًا على نعمة الله العظيمة، وفيه تشرف كثيرٌ من الظلمة والقتلة الذين قاتلوا المسلمين قبل الفتح بنور الهداية

أما الأنصار فقد كانوا في ريب من الأمر بعدما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة التي ولد فيها، فقال بعضهم لبعض

«أما الرجل (يعنون الرسول) فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته»

وجاء الوحي بما قاله الأنصار، فاعترفوا بما قالوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم والممات مماتكم»

فكان ذلك وفاءً منه عليه الصلاة والسلام للأنصار. ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة


فلنقل : الله

صالح زكي مريتش

قلْ: "الله" كلما شعرت بضيق!

قلْ: "الله"كلما وقعت في مأزق!

قلْ: "الله"كلما ضاق صدرك!

قلْ: "الله" كلما أصابك الحزن!

"الله" دواء كل داء. كل ضيق في نهايته فرج، وكل حزن يتبعه الفرح

الله؛ في كل حرف من هذه اللفظة معنى، وفي كل مقطع دواء لكل داء

الله؛ مالك الوجود والعدم، ومالك الممكن والمحال، ومالك النقطة والفاصلة والذرة والكلي والجزئي. من كان الله مولاه فما حاجته لمولى سواه!

الله؛ الاسم الأعظم، جمع في ذاته كل الصفات الخاصة بالألوهية، وهو ذات لا يمكن ـ ولو للحظة ـ افتراض عدمها. الله، عنوان ذاته وأسمائه. الله، الاسم الأسمى

إذا نطق اللسان عشقاً وقال مرة: "الله"، تتساقط الذنوب جميعاً كأوراق الخريفبسم الله تحيي القلوب وتضيء العيون، إذا قال اللسان بعشق مرة: "الله". عالم الوجود وعالم العدم يقولان دائماً: "الله". انظر حولك! هل من شيء إلا يسبح باسمه؟ هل من شيء حولك بلا روح؟ الجبال والحجارة والأشجار والبحار والغيوم كلها تقول: "الله". فقول: "الله" يهب الوجود ماء الحياة في كل نفَس. إن البذور التي تنمو تحت التراب، والماء المتسلل إلى الأغصان، والجذور التي تشق الصخور... كلها تقول: "الله

الأصوات تردد دوماً: "الله"... ثمة طرق بعدد الأنفس، وفي كل منها هناك الله، في كل نظرة وفي كل وقفة

الإنسان مخلوق ينسى ويتمرد. كيف للإنسان أن ينسى الله وكل شيء يقول الله!

**

ماذا فقد من وجده وماذا وجد من فقده

أيها الإنسان

أنت أجمل المخلوقات وأشرفها. أنت المخلوق الاستثنائي الذي نال شرف معرفة ربه وعبوديته. كل شيء في عالم الوجود خُلِق لأجلك منذ آدم عليه السلام. أنت من وهبك ربك النعم

أيها الإنسان

أنت المخلوق الوحيد العاقل المتفكر المتذكر في عالم الوجود

إيمانك يهبك المعنى، وإحسانك يضفي نكهة على إيمانك

الله يدعوك لتأتي إليه خطوة خطوة

لقد أوجد الله في العالم السرمدي حياة، وفي هذه الدنيا أوجد عالماً آخر هو الإنسان؛ إنه أنت

قدرة الله لا متناهية، وحكمته لا متناهية، ورحمته لا متناهية، ونعمته لا متناهية

أيها الإنسان عليك أن تذكره بحمدك وشكرك، وأن تحيا باسمه وتحترق بمحبته

لقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقر 152) وفي آية كريمة أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ (الأحزاب 41)

أيها الإنسان

لقد وهبك اللهُ قلباً عليه أن يذكره وألا يدخلَه أحباءٌ آخرون سواه، وألا يذكر اسماً آخر غير اسمه... لقد منحك الله تعالى قلباً قادراً على أن يكون مكاناً تعمره به. فالقلب إنما هو المكان الوحيد الذي يُقلَّب فيه الإنسان ويُشكل فيه على شاكلته. القلب مركز حساس تعشش فيه الأمراض والكره والحقد والحسد

**

أيها الإنسان

قلْ: "الله" بقلبك! قلْ: "الله"بفؤادك! قلْ: "الله" بلسانك! قلْ: "الله" بفكرك! قلْ: "الله" بعملك!

هلم ليفيض قلبك محبةُ لربك... وليدمي قلبك في الصحارى القاحلة

هلموا بنا جميعاً لنقول: الله" قبل أن نقول: "واحسرتاه


قراءة القرآن، واتباع أحكامه (تطهير القلب)

إذا تطهرت القلوب لم تشبع من كلام الله سبحانه، وإذا سمت روحانيتها استشفت أسرار الكون المنظور عبر تأمل الكتاب المسطور

إن القرآن الكريم هو النعمة الكبرى التي منحها الله تعالى للبشرية؛ لأن فيوضاته اللانهائية هي المدد المادي والمعنوي لكل معاني السكينة والطمأنينة، وهي المصدر المثالي لسلامة الإنسان وقلبه، ولسعادته في الدنيا والآخرة

ومنْ اطلع على هذا الكنز العظيم، ثم أدار له ظهره فهو المحروم حقًا، وذلك هو عين جحود النعمة، ووصمة عار الإنسانية، وطريق الهلاك الذي لا موطن فيه لقبس من نور

هذا النبع الروحاني الفياض يقدم للبشرية أنجع الأدوية لعلتها الأزلية، ويجيب على أسئلتها الحائرة التي ضل في غياهبها الفلاسفة، ويسقي البشرية إكسير السعادة والحياة المثالية، ويمنح القلوب المتعبة والكليلة الراحة والهدى والسكينة

والحق تبارك وتعالى يصف لنا كنه هذا القرآن ووظيفته، فيقول

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس، 57)

والنبي الهادي صلى الله عليه وسلم، ومنْ تَنزَّل عليه القرآن يصف القرآن فيقول

ليس من مؤدب إلا وهو يحب أن يؤتى أدبه، وإن أدب الله القرآن» (الدارمي، فضائل القرآن، 1)

اقرؤوا القرآن ولا تغرنكم هذه المصاحف المعلقة، فإن الله لن يعذب قلبًا وعى القرآن» (الدارمي، فضائل القرآن، 1)

أهل القرآن هم أهل الله وخاصته (الحاكم، المستدرك، جـ 1، 743)

إن القلوب المحرومة من ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن تصيبها القسوة، وقد بعث أبو موسى الأشعري إلى قرَّاء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمئة رجل قد قرؤوا القرآن، فقال

أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم، فاتلوه، ولا يطولنَّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، كما قست قلوب منْ كان قبلكم (مسلم، الزكاة، 119)

والحادثة التالية تحمل الكثير من العِبر عن تأثير القرآن الكريم حتى على الحيوانات والملائكة

عن أسيد بن حضير قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس، فسكت فسكتت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت فسكتت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها، فأشفق أن تصيبه فلما اجترَّه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح، حدَّث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير، قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريبًا، فرفعت رأسي فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال

وتدري ما ذاك؟، قال: لا، قال

تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم (البخاري، فضائل القرآن، 15)

لقد أنزل الله تعالى القرآن من أجل الإنسان، أخرجه من مستودع السماء إلى مستودع الأرض، إلى قلوب المؤمنين، فأيُّ سرٍ إلهي أعظمُ من القرآن الكريم، وأي مستودع رباني أوعى من القلب السليم، فهل من الممكن أن تُغلق هذه القلوب دونه، وتبخل على نفسها بفيض حِكَمه وعِبَره وأسراره؟

(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد، 24)

إن القرآن الكريم هو انعكاس لأسماء الله تعالى على إدراكنا الدنيوي في صورة كلام، ويُظهر الله تعالى عظمة المعاني التي لا تُعد ولا تُحصى في القرآن الكريم بالصورة التالية

(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لقمان، 27)

فإن القلوب إذا تطهرت لم تشبع من كلام الله سبحانه، وإذا سمت روحانيتها استشفت أسرار الكون المنظور عبر تأمل الكتاب المسطور

لذا، على المرء أن يُعد قلبه إعدادًا يليق بتلقي القرآن، وبفهم القرآن، وبإدراك أسرار القرآن، وبانكشاف حقائق القرآن

فمنْ أقام القرآن أمامه، وجعله إمامه، هداه إلى الصراط المستقيم، ومن جعل القرآن مهجورًا، نال في حياته ثبورًا، وصلي في آخرته سعيرًا

وتوضح الآياتان الآتيتان الأثر العضوي والنفسي والمعنوي والإيماني في قلوب المؤمنين عند تلاوة القرآن الكريم

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ) (الزمر، 23)

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال، 2)

 والقرآن هو أعظم دليل عرفته البشرية في الدنيا، وفي الآخرة، به تستقيم حياتها المادية حتى تبلغ المثالية، وبه ترتقي حياتها المعنوية حتى تبلغ العرفان، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى

(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (الإسراء، 9)

ولأن القرآن هو كتاب الله وكلامه سبحانه، فهو الحق المحض الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ليس كأديان البشر الوضعية تطالها أيدي التحريف، وليس كمذاهب البشر الآنية ينقض بعضها بعضًا، إنما قرآن كريم عظيم صالح لكل زمان ومكان، مناسب لكل الأحوال والأحيان، يقود البشرية في طريقها عبر الأزمان إلى أن يفتح لها باب الأبدية بعد الموت، ويرتقي بها في درجات الخلود

وفي ذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم

يُقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارتقِ، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها

وثمة إشارة نبوية جليلة هنا، تومئ إلى الحالة التي ينبغي أن يكون عليها قارئ القرآن؛ بل هي تمنح السامع مؤشر الحكم، فقد سُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ النَّاس أحسن صوتًا للقرآن، وأحسن قراءةً؟

قال: «من إذا سمعته يقرأ، أُريتَ أنه يخشى الله» (الدارمي، فضائل القرآن، 34)

وهل ننسى المعجزة القرآنية التي حولت القلب العمري من عداوته الشديدة للإسلام والمسلمين إلى الفاروق الذي تتوافق آراؤه مع أحكام القرآن الكريم حتى قبل أن ينزل القرآن، يستمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى آيات الله تُتلى في بيت أخته فاطمة بخشوع، فيعتريه ما يعتريه

وتسلِّط الآيتَان الكريمتَان الآتيتَان الضوءَ على كيفية قراءة القرآن الكريم

(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص، 29)

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) (المزمل، 4)

وعن نافع عن ابن عمر قال: تعلم عمر رضي الله عنه البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزورًا (القرطبي، الجامع، جـ 1، 40)

في حين أنهى عبد الله بن عمررضي الله عنهما سورة البقرة في ثمانية أعوام. (الموطأ، القرآن، 11)

وكان الصحابة الكرام يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، فكانوا يعملون بما في القرآن من علم، ووصلوا بحِكم القرآن إلى حالة الكمال. (أحمد، جـ 5، 410)

وحُكي عن أبي سليمان الداراني -قدس الله سره- أنه قال

 إني لأتلو الآية فأقيم فيها أربع ليالٍ أو خمس ليالٍ ولولا أني أقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها

والأمثلة الواردة كلها توضح بجلاء أن من واجب قارئ القرآن أن يتخطى الألفاظ والسطور، وأن ينفُذ إلى المعاني والبواطن، وأن ينتقل من القراءة إلى تنفيذ ما فيها من أوامر ونواهٍ، وأن يمتثل ما في المعاني من أخلاق وسلوك

ولعل أولَّ الشروط في التعامل مع القرآن والنفاذ إلى أعماقه احترامُ القرآن قلبًا وقالبًا، فتحترم صحائفه وأوراقه، كما تتمثل أوامره وأخلاقه

والتاريخ يخبرنا عن الدولة العثمانية وما وصلت إليه من مرتبة في العالمين المادي والمعنوي ببركة احترامهم للقرآن الكريم وتقديسهم له

وتشير إحدى الروايات التاريخية المشهورة إلى أن مؤسس الدولة العثمانية السلطان عثمان غازي رحمه الله بات ليلةً في بيت الشيخ أدبالي، فلم يستطع النوم فيها أبدًا احترامًا للقرآن الكريم الذي كان معلَّقًا على الحائط

وثمة آداب أخرى للتعامل مع المصحف باحترام وقدسية، وهي من آداب حملة القرآن التي استقاها العلماء من نصوص الكتاب والسُنة، مثل عدم جواز مس المصحف للجُنُب أو الـمُحدِث، وعدم حمل المصحف أسفل الخصر، وعدم تركه مفتوحًا، أو موضوعًا على الأرض، أو وضع شيء فوقه، وغير ذلك من الآداب التي تُظهر وجوب احترام المصحف الشريف الذي يضم بين دفتيه كلام الله تعالى

ويأتي بعد ذلك الاهتمام بالقرآن بكثرة قراءاته، والمداومة على تلاوته، والحرص على أن يكون لك ورد ثابت من القرآن مهما كان قليلاً، لكنه ثابت لا ينقطع، ولتتذكر دومًا أن أول أمر إلهي جاء به الوحي هو: (اقرأ) (العلق، 1)

وهل تصح أولى العبادات وعمود الإسلام -الصلاة- إلا بقراءة القرآن!؟

وعن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار

فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل

«ورجل آتاه الله مالًا فهو يهلكه في الحق»

فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل. (البخاري، فضائل القرآن، 20)

وكان أول كلام تكلم به الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك مخاطبًا الرعية

 «يا عباد الله اتخذوا كتاب الله إمامًا وارضوه حكمًا، واجعلوه لكم قائدًا؛ فإنه ناسخ لما كان قبله ولن ينسخه كتاب بعده، اعلموا عباد الله أن هذا القرآن يجلو كيد الشيطان وصفاصفه كما يجلو ضوءُ الصبح إذا تنفس إدبارَ الليل إذا عسعس» (البيهقي، كتاب الزهد، ص61)

بل إن مجرد النظر إلى كلمات القرآن وصحائفه استئناسًا، واتخاذها للعين نبراسًا، يُثاب عليه الناظر، فليس شيء يمس القرآن أو ينتمي إليه ويقرب منه إلا وينال صاحبُه ببركة القرآن نوالاً وثوابًا

وعبر كل هذه الآيات التي تدل على عظمة القرآن، وتلك الأحاديث التي توضح جلال أثره، نستطيع أن ندرك ما للقرآن من قَدر في حياة المؤمن، بل هو حياة المؤمن، وحياة قلبه، والمدد الإلهي لهما

وكان من دعاء الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم

ما أصاب أحدًا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك بن عبدك بن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو علمته أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همي. إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجًا

فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال

بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها». (أحمد بن حنبل، مسند، جـ 1، 391)


ماهية القلب

للقلب دورٌ محوري وجوهري في عالمنا المادي وعالمنا الروحي، وهو مركز دائرة التربية، ومحط رحلات الأحاسيس، وميزان تقويم المشاعر

ومن مقاصد الدين تربية الناس والوصول بهم إلى درجة من الرقي المعنوي تتطهر معها قلوبهم، فتدرك عبوديتها للخالق سبحانه، وتعمل وفق هذا الإدراك بعد أن تصل قلوبهم إلى درجة من النضج المعنوي تحيا فيه بذكر الله تعالى، وتقشعر خوفًا منه سبحانه

وإذا كانت الحقائق العلمية قد أظهرت أن الخلية التي ينقطع عنها ضخ الدم لمدة أقصاها أربع ثوانٍ تموت، فما بالنا بالخلية التي ينقطع عنها المدد الرباني والفيوضات الإلهية، أو تلك الخلية التي تنقطع عنها المشاعر الإيمانية وذكر الله تعالى وكل ذلك يضخه القلب؛ فالدم في عالم المادة كالشعور في عالم الروح

فإذا ما اتجهنا إلى العقل وأثره في العالم المادي والمعنوي وجدناه مركز التفكير، ومجمع إصدار الأوامر والإشارات للأعضاء والخلايا، إلا أن أفكاره وأحاسيسه مصدرها القلب

إذًا، فالقلب هو صاحب السلطتين المادية والمعنوية في الجسد والروح حتى على العقل نفسه، فهو الذي يترجم إشارات الحواس ويحولها إلى مشاعر، وهذه المشاعر تدفع العقل إلى اتخاذ قرار تتصرف الأعضاء بموجبه، وبهذا يكون القلب هو المحرك الأساسي لأفعال الإنسان تجاه مواقفه، فالعين ترى حال المرضى، والأذن تسمع أنينهم، واليد تلمس جلودهم، لكن القشعريرة التي تمر من الجلود إلى الجلود تتحرك عبر القلب الذي شعر بالرحمة، فتحولت الإشارات العصبية من العين والأذن واليد إلى العقل، لكنها في العقل تظل مجرد مدركات للعالم الخارجي، وأحاسيس تنقل إليه صورة ذلك العالم، أما مشاعر الرحمة والمحبة أو الغضب والانتقام، أو اتخاذ قرار وتكوين رأي تجاه هذه الأحداث، فالمحرك الأول والأخير له هو القلب الذي يصيغ هذه الإشارات العصبية إلى مشاعر، وهذه الحركات الميكانيكية إلى دفقات شعورية

 هذه الحقيقة يمكننا إدراكها بسهولة في كل التصرفات البشرية، والخالق المبدع سبحانه حين خلق القلب، حدد له وظيفته وفق فطرته، وهي أنه بوصلة للحق والحقيقة في دنيا المعنويات. وأيُّ شيء يخالف الفطرة؛ تزيغ به الطرقات، وينحرف عن الغايات، فتنقلب سعادته ثبورًا، وتتحول نعمته شرورًا

لذا؛ فمن الأسس التربوية أن يتجه القلب نحو غايته الفطرية التي خلقه الله تعالى لها، وكل منْ أراد أن يربي فعليه تغذية القلب لمواصلة سيره نحو تلك الغاية، ودعمه في التوجه نحو الهدف ليوافق الإرادة الإلهية

 وفي الآية التالية يحذر الحقُّ عباده من ذلك الميل القلبي نحو الدنيا، والانحراف الشعوري عن الغاية، منخدعين بالملذات ومغترين بالشهوات، فيقول عزَّ وجل

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (فاطر، 5)

ويوضح مولانا جلال الدين الرومي -قدس الله سره- ضرورة إلجام الرغبات النفسانية، كي لا يحيد الإنسان عن الغاية الأساسية التي خُلق لأجلها قائلاً

لا تهتمنَّ بتسمين بدنك، فمآله في النهاية إلى التراب، إنما الأصل أن تربِّي قلبك، فالقلب هو منْ سيرتقي، ويصل إلى مراتب الشرف وينال حُسن المآب

قدِّم القليل من الدسم والعسل لبدنك؛ لأن منْ يزيد في تسمينه عن الحد الضروري يقع في الرغبات النفسانية، ويصل إلى الدناءة في نهاية المطاف

ولكن قدِّم للروح الغذاءَ المعنوي، وقدم لها الفكر الناضج، والفهم الدقيق، والغذاء الروحاني، كي تبقى قوية ومقتدرة أينما حلَّت

وينصح لقمان الحكيم ابنه بقصد إيقاظه من الغفلة، فيقول

«يا بُني، إن الدنيا بحر عميق، هلك فيه عالمٌ وخَلق كثير، فاجعل سفينتك فيه الإيمان بالله، واجعل حشوها تقوى الله وطاعته، واجعل شراعها الدين، به تجري توكُّلًا على الله، لعلك تنجو ولعلك لا تنجو» (البيهقي، كتاب الزهد، ص73)

وإذا كان للقلب دور أساسي في حياة البدن وعمل الجسد، فإن دوره أكثر أهمية وأعظم أثرًا في الحياة الروحية، لأن الذي يمنح الإنسان صفة الإنسانية هو روحه لا صورته

فالقلب هو الذي يصل بالإنسان إلى معنى «الإنسانية»، وهو الذي يمده بأسبابها ويرفده بينابيعها، ويحقق فيه معانيها؛ لأنه هو الذي يحمل الأسرار الكونية والتجليات الربانية، ويضم في جوهره الحِكَم الإلهية

وبناءً على هذه الحكمة، يتحقق الإيمان بـ«تصديق القلب» قبل «إقرار اللسان»؛ واللافت للانتباه أن «التصديق الجازم» بالقلب كافٍ أكثر من مجرد الإقرار بالذهن أو الفكر

والإنسان هو جوهر الكون كله، وقد جبله الله تعالى على ما فيه من المتناقضات؛ إذ يحمل في فطرته الخير والشر معًا، كما أن القلب هو جوهر ذلك الإنسان الذي هداه الله النجدين، وهيأه للطبيعتين المتضادتين، للتأثيرات الملائكية وللتدخلات الشيطانية، فالقلب واحد من أكبر ساحات الصراع، وميادين المواجهة بين قطبي الدنيا: الخير والشر، وهو صراع أبدي لا تزال القلوب تضطرب فيه بين النفحات الملائكية والنزغات الشيطانية

هذه النفحات الملائكية هي التي تمنح القلب أحواله الروحانية وسلوكياته الإيمانية، فتروي في أرضه شجرة الإيمان، وتُثمر في رياضه الأخلاق الحميدة، وتلقي ثمارها إلى الناس أعمالاً صالحة، فتحتويهم رأفة ورحمة وخدمة، ثم هي تستمد حياتها من معين لا ينفد، عبادات خاشعة، وذكر تطمئن به وتحيا

أما تلك النزغات الشيطانية فهي التي تصيب القلب بآفات المادة، وتصرفه عن لذة الروح، فتبدله بالعمل الصالح ذنوبًا، وبالأخلاق الحميدة عيوبًا، وبينابيع الإيمان والتقوى غربة ووحشة، وتغريه ليمضي في سبل الشهوات والنزوات بعيدًا عن الله تعالى

أما صد النزغات الشيطانية وطردها من القلب، فلا يكون إلا بالعبادة الخاشعة، وذكر الله تعالى، فترتقي القلوب حتى تتصاغر أمامها المغريات والأهواء، وتتوالى عليها النفحات والتجليات، ويترسخ فيها الإيمان كجذور الشجر؛ حتى ترقى إلى مرتبة تنكشف فيها الأستار، ويتجاوز القلب كل الأسوار، فيطَّلع على الكون من نافذة الكشف والتجليات

فتبدو أسرار عالم اللاهوت المغيب وعالم الناسوت المشاهد واضحةً جليَّةً لصاحب هذا القلب، ويمسي الكون بأسراره كلها كالكتاب المقروء

وليس القلب عضلة إرادية مثل بقية الأعضاء البشرية التي يسيِّرها الناس وفق إرادتهم، ويتحكمون فيها وفق رغبتهم، فالقلب مختلف عنها في تلك الطاعة وذلك التسليم للإرادة البشرية؛ إذ إنه متأثر أكثر بالعوامل الخارجية، وتراه منساقًا إلى الأحاسيس التي يكتسبها من عالم الماديات أكثر من الخواطر والسوانح التي تأتيه من عالم المعنويات في داخله، وكأنه مثل الماء الذي يتخذ شكله ولونه ووضعه من الإناء الموضوع فيه

أما أرباب القلوب- رواد الطريق والسلوك- الساعون إلى دار السلامة، فهم الذين تمكنت قلوبهم من اختيار النفحات الملائكية، والميل إلى الفطرة النقية، والاستسلام للميول الإيجابية في ساحة الصراع الكبرى بين الجانبين، لأنها تملك التركيبة الحيوية الفعالة التي تجعلها في الفريق المنتصر

وتعرض لنا الآيات الكريمة الآتية هذا الموضوع

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة، 119)

(وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأنعام، 68)

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (النساء، 140)

والإرادة في ساحة الصراع تبدأ عملها أولاً بالتمييز بين الفريقين، وإلقاء نظرة فاحصة عليها حتى تتعرف على قوى الخير وأياديها البيضاء، وتتعرف على قوى الشر وأياديها الملوثة، ثم تختار إلى أي الجانبين تميل، ومع أيهما تمضي، فتقرر مصيرها، وتحدد غايتها، وتختار الرفيق في الطريق، ولا تستسلم لمنْ يسوقها إلى جهنم وعذاب الحريق، فالقلوب في طبعها الهوائي المستسلم للمؤثرات، والمنقاد للشهوات مثل أرجوحة الأطفال التي لا تستقر في أي من الجانبين، ومثل نواس الساعة لا يزال يروح ويجيء يمنةً ويَسرةً طالما الساعة تعمل، والعمر يمر، ولا يتوقف تأرجح القلوب إلا مع نهاية العمر والحياة

وإذا ما رجعنا إلى الأصل اللغوي لكلمة «القلب» وجدنا المعاجم العربية تقول إن «قلب الشيء ضده، وتغيير الشكل واللون»، مما يؤكد على التغيير والتقلب، وهو خصوصية تميز بها القلب عن سائر أعضاء الجسد رغم أنه العضو المركزي في البدن

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم

«مثَل القلب كمثَلُ ريشةٍ بأرضٍ فلاةٍ تقلبها الرياح»

وتوضِّح الحادثة التالية التي جرت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم حالة «التغير» في القلب خير توضيح

فعن حنظلة الأسيدي -وكان من كُتَّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: لقيني أبو بكر، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟، قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله، ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنا نراهم رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟» قلت: يا رسول الله نكون عندك، تذكِّرنا بالنار والجنة، حتى كأنا نراهم رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي من الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» ثلاث مرات. (مسلم، التوبة، 12-13)

وفي الحديث دلالة واضحة على ضرورة التوفيق بين العالمين المادي والمعنوي، فعليك أن تؤدي العبادات أداءً تستشعر معه معاني الآخرة وأسرارها، كما عليك أن تؤدي من مشاغل الدنيا ما يقيم أودك، ويصلح شأنك، وتستمر به الحياة

وهو إشارة نبوية إلى تأكيد المعنى اللغوي للقلب من حيث «التلوُّن» والانتقال من حال إلى حال

ومن الأهداف الأساسية والأولية للتصوف أن تُستبدل حالة «التمكين» بحالة «التلوُّن» بحيث يتمكن القلب من «الاستقرار على استقامته» ببركة الذكر والصحبة

ولعل من أظهر الأمثلة على ثبات القلب وتمكينه من الحق وثباته على الاستقامة والتصديق، هو موقف سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه إبان حادث الإسراء والمعراج، فلم يسرِ إليه تردد، ولم يساوره أدنى شك؛ بل كان تصديقه يقينًا، وثباته على فكرته متينًا، واستقرار الإيمان في قلبه مكينًا

وهاهم رؤوس الفتنة وزعماء الكفر يصولون في ساحات مكة بين أهل الإيمان، كما تصول نزغات الشيطان في ساحات القلب، ينشرون الشك والتكذيب، ويخاطبون الصحابة رضوان الله عليهم -وعلى رأسهم أبو بكر الصديق- مستهزئين قائلين: هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم أنَّه قد جاء هذه اللَّيلة بيت المقدس وصلَّى فيه ورجع إلى مكَّة؟

وكما كانت صولتهم أقوى عنفوانًا، كانت وقفة أبي بكر رضي الله عنه أثبت إيمانًا، وكان ثبات القلب البكري أقوى من زلزلة التشكيك المكي، وجاءهم الرد الـمُسكت الصادم

«والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك! فوالله إنه ليخبرني أن الخبر يأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه» (ابن هشام، السيرة، جـ 2، 31)

لقد خلق الله تعالى ثلاثة أصناف من مخلوقاته شديدة التباين في فحواها ومبناها

الملائكة، وهم لا يفعلون إلا الخير

الشياطين، وهم لا يقترفون إلا الشر

البشر، وهم في الوسط بين الطرفين، أو هم يجمعون بين النقيضين

ومن ثم يجب على بني الإنسان أن يحافظوا على هذا التوازن، وألا يكونوا متطرفين في الميل؛ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فالفطرة البشرية لا طاقة لها بنورانية وحياة الملائكة، فتصير مثلهم تمامًا، وليست بقدر السوء والظلامية التي عليها الشياطين فتنجذب إليهم بالكلية، إنما يجب على الإنسان الاعتدال بين الإفراط والتفريط، وأن يكون على فطرته التي فطره الله تعالى عليها، وأن يدرك هدفه وغايته، ويعرف أن شغله الشاغل هو «الاستعداد لما بعد الموت»، والاستعداد ليوم الرحيل، والحشد للوقوف بين يدي الله تعالى يوم القيامة، فتكون غايته الدنيوية هي حماية قلبه من نزغات الشيطان، وعمله هو تعريضه للنفحات الرحمانية، فيحافظ على قلبه سليمًا كما كان في أصل خلقته

يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في الحديث

ما من مولود إلا يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه» (البخاري، الجنائز، 80)

وتعني هذه الحقيقة أن البناء الفطري والسليم للقلب هو «الإسلام»، لكن حين يتعرض القلب لتأثيرات سلبية، تفسد بنيته السليمة ويفقد الاستقامة

لكن ثمة قلوب لها من المناعة والقوة والقدرة ما يضعف هذه التأثيرات السلبية فلا تنالها بسوء، تلك هي القلوب المليئة بالتجليات الروحانية، التي جعلت الأخلاق الحميدة شعارها، والأعمال الصالحة لها ديدنها، والأحوال المعنوية غايتها، وانهالت عليها الفيوضات من عالم المعنويات، كما ينهال القطر من السماء، فيجعل الصحراء جنات وأنهارًا.  وبهذه الطريقة وحدها ينال العبد سر الاحتفاظ بالأصل الفطري له، والذي هو (أحسن تقويم)

وللقلوب عيون تُرفع عنها الحُجُب، ولا تَظهر في سمائها السُحُب، فترى الحقائق والدقائق، ولا يتوارى عن أبصارها أسرار ولا رقائق، وهي القلوب ذات البصيرة والفراسة في النظر إلى الحادثات والمخلوقات

وأصحاب هذه القلوب المبصرة هم أهل التربية والإرشاد، المجاهدون لكل ما يصرفهم عن سبيل الرشاد والحق

أما منْ فقد مزية الصدق في الإخلاص والسعي، فقد كبا جواده بعيدًا عن مرحلة اليقين، وصُمَّت أُذنه عن كلمات الأولياء والمرسلين، فأقعده عناده عن الطريق، وصده تكبره عن المسير، وهوت به نفسه إلى ظلمات قسوة القلب والضلال؛ بل يحسب نفسه أنه قد أحسن صنعًا، ويشفق على العميان فاقدي الأبصار بينما هو فاقد للبصر والبصيرة

وقد أعطى الله تعالى للإنسان الـمُكلَّف القدرة على الأفعال، والإرادة في الاختيار، والتمكن من فعل الخير أو الشر، والرغبة في الميول الملائكية أو الشيطانية بكل حرية ومحض إرادة

لكن الذي يحدد اختيار الإنسان، ويتحكم في توجيه إرادته هو قلبه، ومدى ميله إلى النزعة الشيطانية أو الملائكية، وعمق تأثر هذا القلب بالمؤثرات الخارجية أو الميول النفسانية، ومستوى استقامته أو انحرافه عن غايته الأخروية

فإذا وقعت القلوب تحت سلطان النفسانية وملأتها الطموحات الشهوانية انعدمت فيها الأخلاق، وران عليها الفسق والنفاق، وغلفها الشرك، واغتالتها الوساوس، فخالفت فطرتها، وضلت طريقها وغايتها، وكانت -وفق التعبير القرآني (أَضَلّ) وأقل وأذل من مرتبة الحيوانات، تحتاج لعلاج طويل، وجهد جهيد في تخفيف علتها، والبرء من أدوائها


ماهية النفس

عندما خلق الله تعالى سيدنا آدم أبًا للبشر كرَّمه وكرَّم نسله وذريته، فجعلهم من أفضل المخلوقات؛ لذا فقد شاءت العناية الإلهية أن تجعل العمل والطاعة سببًا لدخول آدم وبنيه الجنة، فاستقرارهم في الجنة يكون جزاءً لما عملوا في الدنيا منَّةً من الله تعالى وكرمًا منه سبحانه، وقد تحققت هذه الإرادة الإلهية كما جاء في القرآن الكريم، فقد كان الزلل البشري الذي وقع فيه سيدنا وأبونا آدم عليه السلام هو السبب الظاهري للخروج من الموطن الأصلي لبني آدم، ونزولهم إلى دنيا الاختبار وعالم الامتحان، وكان عليهم للعودة إلى الجنة والموطن الأصلي أن يتجاوزوا الكثير من الصعوبات، ويقدموا الكثير من التضحيات

وعلى غير المنهج الرباني في المخلوقات، جَبَل الله تعالى الإنسان جِبِلَّة مغايرة، فلم يفطره على الخير المحض، ولم يخلقه على الشر المحض؛ بل هداه النجدين، وأعطاه النقيضين

ولأن الإنسان هو أكرم المخلوقات وأشرفها، فقد ترك الله تعالى له حرية الاختيار، وتحديد المكانة التي يرنو إليها من أقصى اليمن إلى أقصى الشمال، فإما أن يهوي إلى أسفل سافلين، وإما أن يرقى إلى أعلى عليين، فيحدد هو بنفسه درجته، إما أن يكون كالأنعام أو أَضل، وإما أن يكون كالملائكة بل أجلَّ، وذلك وفق إرادته واستعداده، وما تهديه إليه فطرته خيرًا أو شرًا

ويتوقف اختياره والمكانة التي يتبوؤها على نتيجة الحرب الضروس التي تدور رحاها في جوانحه بين نوازع الخير ونوازع الشر، هذه النوازع تمثل جيشين متحاربين في فطرة نفس واحدة، الميول السلبية من ناحية، والميول الإيجابية من ناحية أخرى؛ كلٌّ يجهز عُدته وعَتاده، ويحمل على الآخر ويجلب عليه بخيله ورجله

ومنشأ هذه الميول -كما يرى الفكر الصوفي- يعود إلى ما يسمى «الروح الحيوانية»، و«الروح السلطانية»، فما هما هاتان الروحان؟

الروح الحيوانية: هي تلك القوة الحيوية التي تسري في جسد الإنسان، فتحفظ حياته، وتمده بعوامل البقاء، وهي التي نسميها «النفس» أو «الروح»، وهي المسؤولة عن العمليات الحيوية لاستمرار حياة الإنسان، إراديًا ولا إراديًا، في يقظته ونومه وحتى في حالة غيابه عن الوعي، كالتنفس وعمل المخ وسريان الدم ونبضات القلب، وغيرها من النواحي البيولوجية

هذه الروح هي التي تنتهي بنهاية الحياة، والتي تخرج مع الموت، ومركزها إما في الرأس والدماغ، وإما في الصدر والقلب؛ أما انتشارها ففي كل أعضاء الجسد وخلاياه، ومع كل قطرة دم تسري فيه، وهي الروح الحيوانية المرتبطة بعالم الخَلق والجسد

لذا فهي المسؤولة بشكل ما عن الحركات والسلوكيات والأفعال، ومن الضروري أن تخضع - هذه الروح الحيوانية- إلى التربية والإصلاح حتى لا يكون اتجاه الإنسان ونوازعه إلى الميول السلبية وحدها

الروح السلطانية: هي تلك النفخة الإلهية التي بثها الله تعالى من روحه في الإنسان، فميزته عن سائر مخلوقات الكون، هذه الروح الآتية من عالم الغيب هي التي تتحكم في العالم القلبي للإنسان، وفي أعماله الصالحة، وهي تسكن الجسد البشري إلى حين أيضًا؛ لكنها لا تنتهي بنهايته كما هو الحال في الروح الحيوانية، إنما تغادر الجسد، وتنتهي ولايتها عليه بمجرد موته وفنائه

وكلاهما موجود في الإنسان -الروح الحيوانية والروح السلطانية- فأيهما كانت له الغلبة والسيطرة والتوجيه، كان توجه الإنسان وعمله، فإما أن تخلد به الروح الحيوانية إلى الأرض وطينها وشياطينها، وإما أن تصعد به الروح السلطانية إلى السماء وأفلاكها وأملاكها

وكل ذلك معلق بإرادة الإنسان وقدرته على السيطرة والتوظيف والقيادة، وذلك بقدر معلوم، وهو مناط التكليف، ومبعث الثواب والعقاب والحساب

وفي هذا المعترك الدنيوي الذي يدور الإنسان في رحاه، ويحاول أن يجتاز عقباته، يجد أن أكبر تلك العقبات هي النفس، وليست النفس في ذاتها، إنما فيما تجر إليه من كبوات، وما تتبعه من شهوات

أما جوهر النفس وكنهها فهو جوهرة ثمينة، ومعدن نفيس إذا نفى عنها الإنسانُ خَبَثَها بالمجاهدة، وعمل على تجليتها وتلميعها بالسلوك، وهذبها وشذبها كالجواهري، فأبدى جمالها، ووضعها في موضعها الذي تستحقه بالعمل الصالح؛ وكل ذلك عبر التربية المعنوية

أيها الإنسان إنك تجني ما زرعت، فمن جاهد وَجَد، ومَن زرع حَصَد، ومن سلك بلغ، ومن تَزَكَّى تَرَقَّى

هَب أنك مغترب سعيًا وراء المال، فهل تضيع الوقت وتبخل بالجهد الذي يمنحك المال، طبعا لا، فما بالك بغربة الدنيا التي تجمع منها مال الآخرة

يقول البوصيري في البردة

والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

والنفس كذلك مثل الفرس القوي، فإما أن تلجمه وتتحكم في قوته، فيقطع بك الطريق إلى غايتك، وتكون قوته في خدمتك؛ وإما أن يهيم بك جامحا، تسيل به الأباطح، فلا يصل إلى غاية، ولا تستقر به نهاية، إلا هلاكًا أو هاوية

والفرس لجامه التربية، وسرجه الاتباع والانقياد، وترويضه المجاهدة والسلوك

والفيصل في مسألة النفس هو التربية، فمن أخضعها للتربية فقد زَكَّاها، ومن تركها لهواها فقد دَسَّاها

والنفس التي تحملها بين جنبيك مثل الفرس الذي يحملك، كلما كان ضامرا كان سباقًا، وكلما أجهدته قطع بك أبعد المسافات، وكلما حفزته على تخطي العقبات قويت سواعده، وبلغ الغاية، وإنما تكون عظمة النتيجة وكبر الجائزة على قدر العرق المصبوب، والجهد المبذول

لكن ذلك كله منوط بمن يروِّض الفرس، وليس بالفارس وحده، فليس اللجام هو الذي يكبح جماح الفرس، وليس السرج هو الذي يسهِّل قيادته، إنما هو الـمُرَوِّض الذي يعرف طبعه، ويدرك فنون سياسته وقيادته، ويدرك أسباب جموحه ونفوره، ويعالج كبواته، ويجيد التحكم بزمامه

والنفس كالفرس في احتياجها لمن يروضها ويسوسها، ويعرف طبائعها، ويدرك أساليب علاجها، ويهديها سبيلها لتبلغ غايتها، وتحتاج أيضًا لمن يساعدها على القيام من كبواتها، وعلى تجاوز عثراتها، ومواصلة الطريق رغم العقبات، والبلوغ إلى أقصى الغايات وأرفع الدرجات

إنه المرشد المعنوي الذي يقود نفسك في طريقها، ويسوسها في سلوكها، وينقذها من غفلتها، ويملأ فراغها، ويكفيها من حرمانها، ويطلعها على حقائق النفس والكون

إن أبرز سيئات النفس، وأشد جوانبها ظلامًا أن تكون حاجزًا بين العبد وربه، وحجابًا بينه وبين طريق الهدى، فتحرم القلب من الذكر، وتشغله بما سوى الله تعالى، هنا لابد من إعلان الحرب عليها، والاستعداد لقتالها بكل سلاح، ووضع خطة محكمة للتغلب عليها؛ خطة تخضع لأصول وعلم ومعرفة وتجربة، كي تكون النتيجة مضمونة، والنصر أكيدًا، فجهاد النفس -لكل سالك- هو قدر محتوم

لذا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف مخلوقات الكون يقول في الحديث الشريف

«المجاهد من جاهد نفسه»

فهو الجهاد الأكبر والأصعب والأخطر

والهدف من جهاد النفس ليس قتلها، إنما أسرها لتتمكن من قيادها، ولتحسن السيطرة عليها، والتحكم فيها

لأن الأصل ليس إفناء النفس، بل تجنيبها الإفراط، وتربيتها، وتحديد رغباتها وميولها بالأحكام المطابقة للرضا الإلهي، والإمام الغزالي يشبِّه الإنسان في هذا الخصوص بالراكب على دابة، فيقول

 النفس مطية الروح، فإذا ما أطلق الإنسانُ لجام النفس وتبِعها فقدَرُه الهلاك، وإذا ما سعى إلى قتل هذه النفس وإفنائها فلن تكون له مطيةٌ يركبها في طريق الحقيقة، لهذا كله، عليك أن تمسك لجام النفس، وتستفيد منها لتكون مطيتك إلى غاياتك

 إن مراعاة هذا المعيار في تربية النفس حاجة تقتضيها الأصول النبوية. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان شديد الحسم والوضوح في أمر الثلاثة الذين أرادوا الغلو في مخالفة الفطرة، ومنع النفس عن حاجاتها الأساسية، فرجل أراد الصيام الدائم، ورجل أراد القيام المستمر، ورجل أراد التبتل والانقطاع عن النساء والحياة الأسرية، فجاء البيان النبوي الشافي بأن هذا الغلو مخالف لسيرته وسنته صلى الله عليه وسلم؛ ومناقض كذلك لفطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها

ولا يتوقف خطر النفس على حجبها لطريق الهداية؛ بل خطرُها كذلك أعظم للسالكين في ذلك الطريق، ولعل أعظم تلك المخاطر وأكبر تلك الآفات على الطريق: العُجْب، والكِبْر

فهي تعجب بذاتها، وتتكبر بطاعتها وعبادتها، وتتطاول على الآخرين بمكانتها من الله تعالى. وهو ما يحتاج إلى يقظة دائمة وحماسة مستمرة في المجاهدة، واحتراسٍ دائمٍ من مكائد النفس، فتعيش حياتَك كلَّها وأنت تخشى مكرها، ولا تأمن شرها، ولا تغفل عن دسائسها

فالمعركة حامية الوطيس، لا تنفك تدور رحاها فتطحن بين شقيها من تدركه الغفلة أو يخلد إلى الراحة، أو ينتابه ضعف الإرادة، أو تخبو جذوة الحماسة في صدره وقلبه. فالمؤمن الواعي، والسالك اليقظ هو من يظل متنبهًا لأخطار النفس، وينصب لها دائمًا المحاكمة العادلة الحاسمة التي تكبح جماحها، وتضمن لها الصراط القويم

وبعد ذلك كله لابد أن يمتلك صاحبها وقائدها إرادة قوية لا تخور، وعزيمة ثابتة لا تفتر، عزيمة تَرَبَّت على منهج القرآن، وإرادة عاشت على منهاج السنة، تدرك كيف تحكم، وتعرف كيف تتحكم

لكن كيف يكون ذلك؟ كيف تقود فرسًا جامحًا، وتتحكم بنوازعَ بشريةٍ الشرُّ مطيتُها والشهواتُ فطرتها؟ إن تربية هذه النفس وتزكيتها أمر جِدُّ خطير، فهيا بنا نقف على حقيقة الأمر


محبة الرسول صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه

(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب، 56)

يرتد البصر البشري خاسئًا وهو حسير إذا ما نظر إلى نور الشمس، وكل أقداح الدنيا لا تكفي إذا ما حاولنا أن نسكب فيها مياه البحار، فما بالنا بالعقل البشري العادي الذي يحاول استيعاب الحقيقة النبوية، وما بالنا بالبصر البشري العادي الذي يحاول رؤية واستبصار حقيقة النور المحمدي، إن أدوات الإدراك التي يمتلكها البشر لا تملك القدرة على استكناه واستيعاب هذه الكينونة النبوية المباركة على حقيقتها الكاملة

ويقول الله تعالى في الآية الكريمة موضحِّاً هذه الحقيقة

(إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب، 56)

إن الصلاة والسلام على سيد الكائنات واجب بمقتضى الأمر الإلهي الوارد في الآية الكريمة، وهذه من الآداب التي حثنا عليها المولى عزَّ وجل، وأمر بها الأمة كلها تجاه النبي صلى الله عليه وسلم. بل إنه من مقتضيات الإيمان ومن أساسيات الإسلام السعيُ الدائم للتخلق بأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم، والتأسي بسيرته العطرة، وتتبع آثاره وسننه الشريفة، وترسيخ محبته صلى الله عليه وسلم بالقلوب

فهذا النبي الكريم هو الذي «يصلي ويسلم» عليه الحق عزَّ وجل مع ملائكته الذين لا يُحصون، فيقول الله تعالى في الآية الكريمة

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران، 31)

تبدأ المشاعر الأولى في محبة النبي صلى الله عليه وسلم بخشية الله تعالى، والتأدب في حضرته، والاستشعار الدائم لمعيته سبحانه، ثم تخليص النفس من شهواتها وآفاتها رغبة فيما عند الله تعالى، وحرصاً على نيل محبة نبي الله، إذ هو الطاقة الكبرى الدافعة في الاقتداء والتأسي بشخصيته العظيمة صلى الله عليه وسلم

وفي هذه الأمة المحمدية هناك أناس من «أهل القلوب»، وهؤلاء هم الذين حققوا في مشاعرهم معاني محبته والتأسي به صلى الله عليه وسلم، حتى بلغت محبتُهم مرحلة الفناء فيه صلى الله عليه وسلم، وهم يقدمون لنا نماذج حية وواقعية من هذه المحبة

لقد استطاع هؤلاء أن يصلوا إلى نبع المحبة، فقد أحبوا الله تعالى حق المحبة، وأحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق المحبة، فصاروا هم أيضًا أهلاً لمحبة الخلق إلى قيام الساعة، وحبنا لهم حبًا عمليًا يكون في تذكرهم والترضي عليهم، والدعاء لهم والاقتداء بهم

فإذا ما تساءلنا عن كيفية وصولهم إلى هذه المنزلة والمحبة، نورد لك نموذجين وقصتين من حياة هؤلاء الأفذاذ

أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبائل المحيطة به معلِّمين كي ينشروا الدين المبين ويعلموه، لكن بعضًا من هؤلاء المعلمين تعرضوا للغدر من بعض هذه القبائل، وهذا ما تحقق في وقعة الرجيع

فقد أرادت كلٌ من قبيلتي «عضل» و«قارة» من رسول الله صلى الله عليه وسلم معلمين كي يعلِّموهم الإسلام، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم وفدًا من عشرة رجال، وحين وصلت هذه القافلة إلى موقع الرجيع، وقعت في المكيدة، فاستُشهد منهم ثمانية، بينما سُلِّم اثنان منهم إلى مشركي مكة

وكان الأسيران الصحابيَّين زيدًا بن الدثنة وخبيبًا بن عدي رضي الله عنهما، واستُشهدا على يد كفار مكة، وكانوا قد سألوا زيدًا قبل أن يصلبوه

«أيَسرُّكَ أن محمدًا في أيدينا مكانك وأنت في بيتك؟»

 فأجاب زيد رضي الله عنه: والله ما يسرني أن محمدًا أُشيكَ بشوكة وأني في بيتي

فما كان لأبي سفيان بعدما رأى من هذه المحبة إلا أن يقول

ما رأينا أصحاب رجل قط أشدَّ حبًا من أصحاب محمد لمحمد

ثم ذهبوا إلى خبيب رضي الله عنه، وقالوا له: ارجع عن الإسلام، نُخلِ سبيلك

 فقال: لا والله ما أحب أني رجعت عن الإسلام وأن لي ما في الأرض جميعًا

وسألوه ما سألوا زيدًا رضي الله عنه فكان جواب خبيب مثل جواب زيد

وقبل استشهاد خبيب كان له طلب واحد فقط وهو: «السلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

لكن لم يكن عنده منْ يرسل سلامه هذا للنبي، فرفع عينيه بحزن إلى السماء ودعا قائلاً

«اللّهم إني لا أرى إلا وجه عدو، اللهم إنه ليس ها هنا أحدٌ يبلغ رسولك السلام عني، فبلِّغه أنت عني السلام

وفي ذلك الحين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا مع أصحابه، فأخذه كما كان يأخذه إذا أنزل عليه الوحي. ثم قال: «وعليه السلام ورحمة الله»، ثم قال: «هذا جبريل يُقرئني من خبيب السلام

وكانت النهاية أن استشهد الصحابيَّان قتلا بعد التعذيب الشديد، وكان ممَّا قاله خبيب رضي الله عنه من كلام عظيم حين استشهد

فلست أبالي حين أُقتل مسلمًا على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع

إذًا، هكذا كان إيمان الصحابي وعشقه وجسارته!.. وفي الوقت الذي يروعنا مثل هذا التعذيب، لم يكن محبُّو الله ورسوله ليشعروا بأي هول أو ذعر أمام مثل هذه المشاهد أبدًا، إذ كان جلُّ همِّهم هو تنفيذَ أمر وسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان سلامهم يصل إلى مكانه بإخلاصهم ومحبتهم، وفوق ذلك كلِّه كان الذي يوصل السلام هو رب العباد جلَّ وعلا

ولَكم هو معبِّر المثال التالي الذي يظهر اشتياق الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبتهم له

جاء عبد الله بن زيد الأنصاري رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له

«يا رسول الله! أنت أحبُّ إلي من نفسي ومالي وأولادي وأهلي. ولولا نعمة رؤيتك لما أردت إلا الموت»، ثم بكى

فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عبد الله؟

فأجاب: يا رسول الله، إذا مُتَّ كنت في عليِّين لا نراك ولا نجتمع بك

فسكت رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم، وفي تلك الأثناء نزلت عليه الآية الكريمة

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء، 69)

وبينما كان عبد الله بن زيد الأنصاري رضي الله عنه يعمل في أرضه، أتاه ابنه منقطع الأنفاس ليخبره بكل أسى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع الأنصاري هذا الخبر دعا قائلاً

اللَّهم أعمني فلا أرى شيئًا بعد حبيبي حتى ألقى حبيبي، فعمي مكانه

وعن القاسم بن محمد أن رجلاً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ذهب بصره فعادُوه، فلم يكن عليه هم أو غم من فقدان عينيه، وكان يقول لمنْ يواسيه

«كنت أريدهما لأنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأما إذ قُبِض النبي صلى الله عليه وسلم فوالله ما يسرني أنَّ ما بهما بظبي من ظباء تبالة». (البخاري، الأدب المفرد، 533؛ ابن سعد، جـ 2، 313)

ذلك الحب الذي صار عشقًا، لا تغيره الظروف، ولا تبدله الأحوال؛ يسري بين القلوب بلا انقطاع كما تسري الجاذبية بين الأقمار والكواكب، لا ينفرط عقدها إلا بأمر إلهي جليل.  يقول الله في الآية الكريمة

(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (النور، 56)

ومن منطلق مقولة «إن المحبَّ لمنْ يحب مطيع»، نرى أن اتِّباع الأسوة الحسنة في كل الأمور هو شرط لازم، ولهذا فإن العشق والمحبة والاتباع في هذا المجال هي العمود الفقري لمحبة الله تعالى

إن الشهادة التي هي من أسس الإسلام ومقتضيات الإيمان، تجد فيها كلمة «محمد رسول الله»، دائمًا تتبع كلمة «لا إله إلا الله»، فهما على الدوام متلازمتان متتاليتان لا تنفصلان، يرددهما العبد قولاً وعملاً واعتقادًا، فمع كل كلمة توحيد، وكل صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تكون خطوة يخطوها نحو ربه، يقترب منه سبحانه، ويغرس غرسًا جديدًا في جنة محبته، ويفتح آفاقًا جديدة في مدارك بصيرته، يرتادها بفتوحات معنوية، وتجليات ربانية، وفيوضات إلهية، وحيها وجبريلها هو محبة الرسول صلى الله عليه وسلم

والكون كله ما هو إلا تجلٍّ للمحبة الإلهية، وجوهر هذا التجلي هو «النور المحمدي»، والطريق الوحيد للوصال مع الله تعالى هو بمحبة نبيه صلى الله عليه وسلم

إن الروحانية في العبادات، واللباقة في المعاملات، والتأدب في الأخلاق، واللطافة في القلوب، والنورانية في الـمُحيا، والسلاسة في اللسان، والرقة في المشاعر، والعمق في البصيرة، والأمور الحسنة الحميدة كلها، ما هي إلا ومضات انعكست على القلوب من محبة نور الوجود صلى الله عليه وسلم

وما أجمل كلام مولانا جلال الدين الرومي حين يقول

تعال يا قلبي! فالعيد الحقيقي حين يكون الوصال مع سيدي محمد صلى الله عليه وسلم، فضوء الكون كله من نور جمال هذا الرسول المبارك

والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم زاد عظيم للمسلم في كل الأزمنة والأمكنة والأحوال، فبها يقوِّي رابطته بحبيبه صلى الله عليه وسلم، وبها يستمد من روحانيته صلى الله عليه وسلم، وبها يستمطر الرحمات والبركات من السماء، وبها ينفرد في الأسحار وأوقات المناجاة، وبها تنزل الفيوضات الإلهية على قلبه

هذه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كانت سر الفضائل التي نالها أولياء الله، وكانت معراجهم إلى الدرجات العُليا في اتباع رسول الله ، وتتعدد هذه الفضائل والوسائل في الصلاة على نحو لا يمكن حصره؛ لكننا نورد فيما يلي بعضًا منه

موافقة الله تعالى وملائكته في صلاتهم على النبي وذلك بالامتثال للأمر الإلهي، فالآية الكريمة تقول

(إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب، 56)

وبالطبع ثمة فرق في المعنى بين صلاة وسلام الله، والملائكة، والمؤمنين: «فصلاة الله» هي رحمته بنبيه ورفعه إلى أعلى الدرجات، «وصلاة الملائكة» هي الاستغفار للنبي الكريم والدعاء له، «أما صلاة المؤمنين» فهي الدعاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنفسهم

 وسيلة للعفو عن الذنوب

يقول النبي صلى الله عليه وسلم

منْ صلَّى عليَّ صلاة واحدة، صلَّى الله عليه عشر صلوات، وحُطَّت عنه عشر خطيئات، ورُفعت له عشر درجات» (النسائي، السهو، 55)

 وسيلة للقرب من النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث

أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة (الترمذي، الوتر، 21)

 رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من يصلِّي عليه

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث

ما من أحد يسلِّم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام» (أبو داوود، المناسك، 96)

 عرض اسم منْ يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث

إن لله ملائكة سيَّاحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام (النسائي، السهو، 46)

6.  الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تحمل المسلم على التخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، والترفع عن الرذائل، وتحثه على الفضائل، وترتقي بالعبد من وِهاد الدنيا إلى سماوات المحبة، فيحيا ساميًا عن أوضار المخلوقات، فانيًا في محبة الخالق، وسيد المخلوقات صلى الله عليه وسلم

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تزيدك حبًا له، وتزيد حبه صلى الله عليه وسلم لك

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم نوع من شكر النعم العظمى التي امتن الله تعالى بها على عباده، تلك النعم التي لا تعد ولا تحصى والتي كان أجلَّها إرسالُ الهادي البشير النذير صلى الله عليه وسلم لينقذنا من الظلمات إلى النور

 هو وسيلة لنزول رحمة الله تعالى علينا

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم

من صلَّى عليَّ واحدة صلى الله عليه عشرًا (مسلم، الصلاة، 70)

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسيلة فريدة ليحظى المؤمن بدعاء ألسنة لم تعصِ الله قط، ولم تنطق بغير تسبيحه قط، إنهم الملائكة الكرام الذين يدعون الله لكل منْ صلى وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسهم جبريل الأمين عليه السلام يستغفر للعبد عشرًا بكل صلاة أو تسليم، ثم يأتي ربهم جل وعلا فيمحو ذنوبهم

 يكون سببًا لتذكُّر الكلام الذي ينساه العبد

 وسيلة لقبول الدعاء

فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا يومًا يدعو بعد الصلاة دون أن يحمد الله تعالى أو يصلي ويسلم على نبيه فقال

«عجلتَ أيها المصلي». ثم نادى على الرجل وقال له

إذا صلَّيت فقعدتَ فاحمد الله بما هو أهله، وصلِّ عليَّ ثم ادعُه (الترمذي، الدعوات، 64)

ويقول في حديث آخر

«عن علي -يعني ابن أبي طالب- قال: كل دعاء محجوب حتى يُصلَّى على محمد صلى الله عليه وسلم وآل محمد» (الهيثمي، مجمع الزوائد، 10، 160؛ البيهقي، شعب الإيمان، جـ 3، 136، رقم: 1475)

يحمي العبد من التعرض للعتاب الإلهي

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم

رَغِمَ أنفُ رجل ذُكرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ (الترمذي، الدعوات، 100/3545)

ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يُصلُّوا على نبيهم، إلا كان عليهم تِرة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم (الترمذي، الدعوات، 8/3380)

«ما قعد قوم مقعدًا لا يذكرون الله تعالى ولا يصلون على النبي إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنة للثواب» (أحمد، جـ 2، 463)

 إن العبد الذي يصلي على النبي يُكفَى همه ويُغفرُ ذنبُه

يقول أُبي بن كعب رضي الله عنه: سألت النبي: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟

فقال: ما شئت

قال: قلت: الربع

قال: ما شئت، فإن زدتَ فهو خيرٌ لك

قلت: النصف

قال: ما شئتَ، فإن زدت فهو خيرٌ لك

قال: قلت: فالثلثين

قال: ما شئتَ، فإن زدت فهو خيرٌ لك

قلت: أجعلُ لك صلاتي كلَّها

قال: إذًا تكفى همك، ويغفرُ لك ذنبك

إن الصلاة والسلام على النبي يضمن للعبد الارتباط مع روحانية سيدنا النبي والاستفادة من أنواره، وثواب هذه الصلوات ناتج عن محبة العبد للنبي والإخلاص له

فالصلاة والسلام عليك سيدي يا رسول الله

اشفع لنا يا نبي الله


مراتب النفس

النفس في معراجها نحو الكمالات التربوية وصولاً إلى القمم المعنوية تمر بمراحل ومراتب، وتنقسم إلى أقسام سبعة هي

النفس الأمارة- النفس اللوامة- النفس الملهمة- النفس المطمئنة- النفس الراضية- النفس المرضية- النفس الكاملة

النفس الأمَّارة

وجاء اسمها من فعلها الدائم بالأمر، فهي كثيرًا ما تأمر الأعضاء بإطاعة الهوى، وإرضاء النزوات، والتمرغ في الشهوات، وتأمر العبد دومًا بكل ما يبعده عن مرضاة الله تعالى

وهذه النفس واحدة من فريق الشيطان وحزبه، عملها الذنوب، وهدفها اللذات، وطريقها الشهوات، ودأبها المعاصي

والعبد الواقع في أسر هذه النفس الأمارة لا يستطيع مقاومتها، ولا يملك سوى الاستسلام، والانقياد التام لرغباتها وميولها وغوايتها

وفي هذه الحالة تكون «النفس الأمارة» أشدَّ خطرًا وأقوى غواية على العبد من إبليس وشياطينه، وهي حقيقة واقعة يؤكدها ابن عطاء الله السكندري بقوله

إن ما يجب أن تكون أشدَّ له خشية هو نفسك التي بين جنبيك، فهي الخصم الذي لا يفارقك، والعدو الذي لا ينفك يحاربك، أما الشيطان فهو قيد الأسر في بعض الأوقات، ألا ترى أن الشياطين حين تُصَفَّد في رمضان لا تمتنع الجنايات من الوقوع، ولا المظالم من الحدوث، ولا الأخلاق من الانحدار، فمنْ المسؤول عن ذلك كله سوى النفس وغوايتها

وقوله تعالى في الآية الكريمة: (...إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ...) إنما هو إيضاح لمرتبة هذه النفس وصفتها

والشاعر «نوئي زاده عطائي» يشبه النفس بالأفعى السامة، لأنها في مثل خطرها ونعومتها، وفي مثل تخفيها وسُمِّيتها، وفي مثل آفاتها المفجعة، وآثارها على العالم المعنوي للإنسان

يقول عطائي في شعره

    كل خلق ذميم صار كالأفعى ورأس الأفاعي النفس الأمارة

والمؤمن الحصيف الواعي الحريص هو الذي يبذل دومًا كل ما في وسعه للنجاة من لدغاتها وسمومها وآفاتها

إن إعلان حالة التأهب القصوى، والاستنفار الدائم لجهاد النفس ومجابهتها هو طريق النجاة، فرُبَّ غفلةِ ساعةٍ تودي بك إلى الخسران حتى قيام الساعة

فمنْ أراد أن يريح فرسه فاته العَدْو، ومنْ أراد أن يغمد سيفه خسر المبارزة، ومنْ أغمد سيف عقله وإرادته في غمد غفلة النفس خسر المعركة الكبرى في الدنيا والآخرة؛ ذلك هو الخسران المبين، ولا ينجو من ذلك سوى عباد الله المخلَصين، أي هؤلاء الذين يستمدون العون والحماية منه سبحانه، مثل سيدنا يوسف عليه السلام، وقصته مع السيدة زليخة في بيت عزيز مصر، ويقص علينا القرآن تفاصيلَ معبرةً عن عجائب قصة يوسف عليه السلام، ذلك الشاب جميل الصورة، نقي السريرة، والأحوال التي تقلبت به خفضًا وارتفاعًا، حتى كانت الفتنة الكبرى التي نسجت خيوطها امرأة العزيز

ويوضِّح المولى سبحانه هذه الحادثة في الآيات الكريمة الآتية

(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(يوسف، 23-24)

لقد تنزلت ألطاف الله بالمدد الإلهي على سيدنا يوسف عليه السلام، فكانت ترياقًا ضد سموم أفاعي النفس الأمارة المتمثلة في زليخة وحبائلها، أما هؤلاء الذين لم تبلغ نفوسهم اللطف، ولم ترقَ درجتهم إلى نوال المدد، فقد ألجأهم الله تعالى إلى الاعتصام بتقواه، واتخاذها مجنَّة ضد سهام النفس وغوائلها

وقد وضع الله تعالى لنا المنهج الرباني الحكيم الذي يقينا الاقتراب من شواطئ بحر المعاصي، فضلاً عن الخوض فيه. فالإسلام -في تشريعاته الوقائية- لا يحرم الزنا فحسب، إنما هو يحرم ويمنع كل ما يؤدي إلى ذلك الطريق، أو يسهل الوصول إليه من الخلوة والنظرة، وغيرها من المقدمات

فإذا عدنا إلى الحادثة الزليخية ومجمع العبر والبلايا اليوسفية، نجد «البلاء العظيم» الذي تعرض له «الكريم ابن الكريم ابن الكريم»، منذ أن كان غلامًا صغيرًا إلى أن صار رجلاً بلغ أشده، وبلغ معه الاختبارُ أشده، ربما كان ذلك هو الثمن الذي يدفعه في الدنيا، ليكون الجزاء في الآخرة أيضًا بالغًا أشده

لقد اجتمعت عناصرُ وعواملُ وخيوطٌ نسجت طولاً وعرضًا نسيجًا محكمًا في لحمته وسداه، وأفضت إلى ابتلاءٍ قلَّ أن نجد في عالم المعنويات له مثيلا: شابٌ يافعُ الشباب نابضٌ بالحياة، جمع من الحُسن ما لم يجمعه إنسي، ونال من انجذاب القلوب إليه ما جعل صفوة النساء يقطعن أيديهن، ووضع في مكانة تجعل المعصية أقرب إليه من شراك نعله ومتناول يديه

وامرأة جمعت مع الحسن الوافر مالًا أوفر، ومع الجاه والشهرة حظًا أكبر، وإلى جانب ذلك كله جاذبية وشهوة أكثر، ثم تدبيرًا وتهيئة للمعصية أشد حنكة

فقد غَلَّقت الأبواب، وغيبت الحُجَّاب، وهيأت الأسباب، في أيسر معصية تنالها النفس، وأعظم ذنب يقترفه البدن، فقالت المرأة: «هيت لك» في إصرارٍ سبقه إعداد، وأحاطت به تيسيرات، وكلما كانت التيسيرات أكثر كانت الصعوبات على يوسف أكبر، فاشتد عليه البلاء والامتحان، وصَعُبَ عليه الأمر حتى لا يطيقه إنسان، حتى جاءه من الله تعالى مدد وبرهان، ويصف القرآن الموقف قائلاً: «لولا أن رأى برهان ربه، وكان طوق النجاة الذي ألقاه الله تعالى إليه، وحبل السماء الذي تعلق به هو: معاذ الله

«اللجوء إلى الله» هو ملاذ المستجيرين وغوث المستغيثين وطوق النجاة في خضم الحياة، وحبل السماء المنقذ من براثن البلاء؛ لكن منْ يستحق هذا المدد المنقذ، ومنْ الذي يدرك هذا اللجوء المعجز؟

إنهم أهل التقوى؛ الذين قويت لديهم مشاعر مراقبة الله والخوف من سلطانه تعالى، فقاومت مشاعرهم رغبات النفس الأمارة، وتصدت لأوامرها، ونجت من بلواها

ولعل الاختيار الأصعب للشباب مواجهة شهوة امرأة وإغرائها، وقد هُيِّئت الأسباب وأُسدلت الستور

لكن منْ أطفأ نار الشهوة بالتقوى، واستظل في الدنيا بمجنة الأخلاق، كان جزاؤه في الآخرة أن يستظل في ظل عرش الرحمن، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم

رجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله (البخاري، الأذان، 36)

وإذا كان الإغراء والوعد لم يُجدِ مع نبي الله يوسف عليه السلام، فلعل الوعيد والتهديد ينفع معه، فقد تواصل الإغواء، وطال الامتحان، وبعد أن كانت قد هيأت له امرأة العزيز أسباب الغواية فأعرض عنها، وأعدت له أيضًا غياهب السجون، لكن كمالات المقام التربوي وسموه، واكتمال الرعاية الإلهية، وشمول الكنف الرباني، كان السبب الدائم للنجاح والنجاة، وكانت نجاته هذه المرة هروبًا إلى بلاء أقل قسوة وأسهل مراسًا إذ (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِليَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيه)، ثم يكرر اللجوء والاستعاذة بلطف الله وحده، (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، فهو سبحانه صاحب الملاذ الآمن، والركن الركين

*

والتقوى هي القلعة الحصينة، والدرع الواقي، والترياق الشافي من كل آفات النفس الأمارة

وحين تُعرَف النفس على حقيقتها فلن يكون منك إلا الذعر والفرار منها، وها هي الإشارات في قصة سيدنا موسى عليه السلام توضح لنا حقيقة هذه النفس وتجلِّيها

 فلقد كُلِّف سيدنا موسى عليه السلام بالنبوة في طور سيناء، وجاءه عقِب ذلك التكليف الأمر الإلهي

(وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) (القصص، 31)

لقد أظهر الله سبحانه قدرته لموسى عليه السلام في العصا، واستأنس بهذه القدرة، وحين اصطفى الله موسى عليه السلام نبيًا، وتكلَّم معه عن قرب، وألقى عليه بعض التكاليف، خاطبه قائلاً

(وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى) (طه، 17)

فأجابه سيدنا موسى عليه السلام

(قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) (طه، 18)

فأمره الله تعالى

(قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى) (طه، 19)

فاستجاب موسى سريعًا لهذا الأمر الربَّاني

(فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى) (طه،20)

فما كان من موسى عليه السلام إلا أن فرَّ منها

(قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى) (طه، 21)

لقد ذكر سيدنا موسى عليه السلام في كلامه مع رب العالمين، وفي إجابته البديهية عن العصا التي في يمينه أنها من المهمات الدنيوية والعلائق المادية، فأمره الحق تعالى برميها والتخلص منها، وكأنه يأمره أن يخلع من نفسه كل سبب يعتمد عليه من دون الله تعالى، فلا يعتمد على غيره، ولا يتعلق إلا به سبحانه

وسيدنا موسى عليه السلام حين نفذ الأمر الإلهي، وألقى أسباب الدنيا وعلائق النفس أظهر الله تعالى له النفس على حقيقتها حيةً تسعى، وأفعى ضخمة تلقف ما يأفِكون من الأفاعي والحبال، فكان ذعره شديدًا، وهربه بعيدًا، وتجلى الدرس الرباني والمعنى الإشاري في الآيات

«يا موسى، إن تلك الحية هي نفسك، وهي العلائق والأسباب التي تركن إليها من دون الله تعالى، فانظر كيف كانت حقيقتها حين ألقيتها، فإذا هي حية تسعى، وكيف فررت منها فزعًا ومُلئت منها رعبًا

يا موسى، إنك منذ اليوم نبي موحد، فكيف ترتبط بالأسباب، ولا يكون ارتباطك الأعز والأوحد برب الأسباب؟

 كيف تعتمد في عالمك المادي والمعنوي على الأشياء

وكيف يسمح لك أدبك النبوي وسلوكك التوحيدي بأن تعدد أوجه الاستفادة من أشياء ما أنزل الله تعالى بها من سلطان

تذكرُ الأشياءَ ولا توحد رب الأشياء

ثم كيف يكون لك فيها مآرب أخرى؟ بل كيف يكون لك أصلًا اتصال مع أي أشياء أخرى؟

إن أولى خطوات التوحيد تركُ الاعتماد على الأسباب، والتسليمُ المطلق لله تعالى، والتوكل عليه سبحانه حق التوكل

يا موسى، كما ألقيت عصاك، ألقِ كل الأسباب والعلاقات، وتخلصْ من كل الطلبات والرغبات، حينها ترى نفسك على حقيقتها، فتفر منها إلى الله

وقد قيل

منْ سمع بقلبه نداء ربه، ورأى ببصيرته نور جماله، وأدرك سبحات جلاله، فإنه ينخلع من نفسه ودنياه، ومن كل شيء ويلجأ إلى كنف الله، ويأوي إلى فضل وكرم مولاه، ويتجرد من كل أهواء نفسه

*

والإنسان يترك سعادته الحقيقية، ويتنازل عن حياته الأبدية والأخروية -بتأثير النفس الأمارة- في مقابلٍ بخسٍ من اللذة الزائفة الدنيوية الفانية، وهكذا بأقل القليل تغريه على ترك منازل عليين، لتهوي به إلى أسفل سافلين

هذا الإنسان المبتلى بالنفس الأمارة يركبه العناد، فيتنكب طريق الحق، ويعميه الكبر عن النظر إلى سبيل النجاة، وتشغله سفاسف الأمور عن معاليها، فيشغله الزور عن الذكر، ويلهيه اللهو عن التسبيح، ويستغرقه الكذب والنميمة والأفعال الذميمة عن لطف الذكر وطيب الكلام والأفعال العِظام

فهل يترك الجنةَ إلا جاهلٌ، وهل يعمى عن جمال الله تعالى إلا غافل، وهل يتنازل عن السعادة الأبدية إلا إنسان خُتم على قلبه وسمعه وبصره

إنها النفس الأمارة التي تسيطر فيها الروح الحيوانية على الروح السلطانية، وتتحكم الصفة الحيوانية بالنفس حتى تفقد الصفة الإنسانية

ويقول المولى عزَّ وجل في هؤلاء

(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف، 179)

إن هذه هي صفات أهل الغفلة، الذين تحجرت مشاعرهم فلا يقدِّرون حقيقة الأشياء، ولا يرونها على طبيعتها، فيسوغون لأنفسهم سدورهم في غيهم، متعللين بتأجيل التوبة وتأخير العذاب، أَلْبَسَ عليهم الشيطان مفاهيم الأشياء، وقلَّب لهم الأمور، فكأن الإمهال إهمال، وكأن الرحمة إغفال، وكأن الآية تِلو الآية، والفرصة تلو الفرصة، تأييد على الباطل، وتغييب أبعد لغفلة الغافل؛ حتى استمرؤوا الذنوب، واستلذوا المعاصي، واستصغروا الكبائر، وتهاونوا وتناسوا ظُلمة المصائر

 وما أعظم تحذير الله تعالى عباده حين يقول

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (لقمان، 33)

 ومن مساوئ النفس الأمارة أنها تعبث بمشاعر الإنسان فتشوه مفاهيمه، وتُضعف عقله ومداركه، فهو في غفلة شديدة عن السعي الحثيث نحو الآخرة، يعبُر صحراء الدنيا بلا زاد ولا راحلة، يأوي إلى واحة غنَّاء في طريقه فلا هو يتزود منها ولا يستعد لما هو مُقدِم عليه، فلا هو بالخير يتزود، ولا عن الشر ينتهي

وفوق ذلك كله إذا تصادف أن قام أحدهم بخير ما مهما كان قليلاً، فهو في عينيه كبير، وفي موازينه كثير، لا يزال يكبر في نفسه حتى يشغله عن غيره من الخيرات، وإذا اتفق أن شعر ببعض الندم على منكر ما، فلا تزال به نفسه الأمارة تطمئنه وتواسيه حتى يتلاشى تأثير الندم، ويفقد الإنسان قدرته على التغيير في السلوك نحو الأقوم، ويفقد قدرته على التوجيه في الطريق نحو الخير

إن المؤمن في هذه المرحلة كمريض بحاجةٍ إلى دواء ليتخلص من النفس الأمارة، وينتقل إلى النفس اللوَّامة، ولذلك كان من أهم الأصول الضرورية في التداوي المعنوي محاسبتُه لذاتِه محاسبةً دقيقة. ويجب على العبد أن يعرف أن الله -صاحب العظمة والجلالة- مطَّلعٌ على كل شيء، فيعزم على التوبة، ويفكِّر في الأسئلة التي ستُوجَّه إليه في القبر، والحساب يوم الحشر، والعذاب الشديد في سقر، ويجب على العبد أثناء التوبة أن يُخلِص ويشعر بالندامة، ولا يناجي الحقَ تعالى بلسانه فقط، بل يناجيه بالقلب أيضًا

فالندم حين يعض القلب ويسكب فيه مرارته، يُخرج منه حبَّ المعصية والإصرارَ عليها، فتكون التوبة نصوحة صافية، وليست شعلة من النار تهيج فجأة ثم ما تلبث أن تخمد، وحين تبرد حرارتها يبحث القلب عن معصية يروي بها ظمأه إلى الذنوب واللذة الشهوانية ولسان حاله يقول

رمضان وَلَّى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ

فهى توبة زائفة مؤقتة، وهي توبة المنافقين المستهزئين بمقام التواب، غير المدركين لعظمة الغفور الرحيم

أما التوبة الحقيقية فهي التي يروي بذرتها الندمُ، ويشيد بنيانها تركُ الإصرار، وينمي فروعها التعهد بعدم العودة، وينبت ثمرها ترك المعصية أبدًا

وفي طريق التوبة والتخلص من النفس الأمارة، يجب على العبد أن يجاهد ساعيًا في معرفة كلمة التوحيد، والتعمق في روحها، وإدراك حقيقة معانيها، وتنفيذ متطلبات القول، وما وراءه من فعل، والفعل المطلوب في الأساس -تنفيذًا لكلمة التوحيد- هو مراعاة الأحكام الشرعية الضرورية على أقل تقدير

وبمجرد قول «لا إله» يجب أن تنفي من قلبك -كما نفيت بلسانك- كل الأغيار من دون الله تعالى، وكل معبود للشهوة سواه، فتنفي كل أوثان الهوى، وتحطم كل أصنام الرغبات، وتمحو آثارَ كلِّ تعلقٍ بغير ذاته سبحانه، وتنفي كل توجُّه وقصد لغير جلاله تعالى

ثم بعد أن تنظف قلبك من كل تماثيل الشرك، تنطلق كلمة «إلا الله»، ومعها تثبِّت حقيقتها في جوهر قلبك، فيكون القلب هو عرشه وحده، لا يدنو من مكانه شيء من رغبات النفس، فلا يكون في قلبك إلا الله، حينها يرتقي إيمان العبد من التقليد إلى التحقيق، وتنتقل أعماله الصالحة من التمثيل إلى التوثيق؛ ليبلغ في النهاية إلى كمالات الطريق

وكان من دعاء محمد أسعد أفندي

جعلنا الله آمرين للنفس الأمارة ونائلين للنفس المطمئنة بمقتضى مقولة: (الحُرُّ منْ كان أميرًا على نفسه) وجعلَنا من المستحقين لمقام خطابه الجميل حين قال

(فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي) آمين

النفس اللوَّامة

يدرك المسلم أن الله عفوٌّ غفور مهما ارتكب العبد من المعاصي، فهو يركن إلى هذا الغفران، أما إذا أراد التوبة بصدق، وشعر بالندم يحرق الأعماق، وجاهد نفسه للإقلاع عن الذنوب؛ عندها ينتقل المرء من حالة النفس الأمارة إلى حالة النفس اللوامة

واللوم في اللغة يعني المؤاخذة والتقريع، والنفس اللوامة هي التي يغالبها الشعور بالندم على ما قصرت في جنب الله تعالى، وما أهملت من حقوق وواجبات، وهي النفس التي تلاقي تعذيب الضمير في كل حين على انحرافها عن منهج الله وعدم التزامها بأوامره ونواهيه سبحانه

هذا اللوم والندم هو المقدمة الأولى الأساسية للتوبة، والمدخل إلى المغفرة، والخطوة الأولى نحو طريق الهداية، والبعد عن طريق الغفلة، والانتصار -المؤقت- على الرغبة في اقتراف الذنب

ويحدث الندم بعد الوقوع في الذنب مباشرة، عندما تتخلص الروح السلطانية من أسر الروح الحيوانية، فيلوم العبد نفسه، ويعيب عليها معصيتها، ثم يشرع في الاستغفار

وتبدأ بوادر الإفاقة من الغفلة، فتجد في قلبك بعضًا من نور، فتسرك حسناتك، وتحزنك سيئاتك، ثم لا تجد ميلاً قويًا للشهوات، ولا اندفاعًا نحو الرغبات، بل سعيًا من النفس لمجاهدة الإفراط في السيئات، والبعد عن المعاصي

وهذه حالة الخاضع لأمر الله تعالى على الدوام، المكثر من الأعمال الصالحات، المخلص فيها لوجه الله تعالى

لكن ذلك الإخلاص منقوص غير تام، فلم تصل أنفسهم بعد إلى حالة النضج والطمأنينة، ولا أرواحهم إلى حالة السكينة التي يلهمها إياها الفيض الرباني، فهم رغم عملهم لوجه الله تعالى يرغبون أن يطَّلع الناس على تلك الأعمال، وأن يشتهروا بتلك الأحوال، وهم بذلك ما زالوا يحملون بعض طبائع السوء للنفس الأمارة، فتلومهم النفس اللوامة

وقد ورد في القرآن الكريم اسم هذه النفس حين أقسم المولى عزَّ وجل

(وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة، 2)

هذا الاسم «اللوامة» ليس مجرد كلمة ينطقها اللسان؛ إنما هو فعل وشعور تدور رحاه في الجنان ليؤدي إلى النتيجة المطلوبة، وهو عبور الحد الفاصل والدقيق بين «النفس الأمارة»، و «النفس اللوامة»، وإلا منعك الكبر من لوم نفسك لومًا حقيقيًا، فبقيت تحت حكم النفس الأمارة

يقول المولى سبحانه في الآية الكريمة

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق، 16)

لذا؛ يجب على الإنسان أن يكون شديد الحيطة والحذر من وساوس هذه النفس ومداخلها، وألا يأمن جانبها، وألا يتهاون في مراقبة أفعالها، فهي تُفسد من حيث تُظهر الإصلاح، فتراها تُظهر التواضع المصطنع أحيانا؛ لأنها تريده، وتحب أن تُحمد عليه، فقد أصابها الرياء، وفارقها الإخلاص، وانزوت فطرتها، فتوارى «التواضع»، وجاء الفخر بالتواضع

ويستطيع المرء أن ينجو من هذه الوساوس، ويغلق أمام وساوس النفس تلك المداخل إذا هو أخضع نفسه للتربية المعنوية، وآنسها بصحبة الصالحين، ومتابعة المرشدين، عندها يتحقق الثبات على التوبة، والتطهر من خبائث الأفعال

ولكن تبقى هناك في القلب بعض العادات، وفي الروح بعض الآفات، وعليك أن تواصل الجهاد والانتقال من مرحلة إلى أخرى أعلى منها، وأن تتجاوز مرحلة النفس اللوامة إلى غيرها

والمرحلة التي تلي مرحلة النفس اللوامة هي «النفس الـمُلهَمة»، لكن التجاوز إلى هذه المرحلة يحتاج إلى أحد الأصول المهمة في التربية المعنوية، وهو ما يسمى «الرابطة»، إنه الارتباط القلبي الدائم مع المرشد الكامل، فالمرشد الذي أخذت عليه عهدك وأسلمت إليه قيدك، عليك أن تلتصق به كالرضيع مع أمه

تتطلب مرحلة النفس الملهمة الالتزام التام بالأوامر الإلهية، والحذر التام في كل السلوكيات والأحوال، ومداومة حساب النفس ومحاكمتها على كل صغيرة وكبيرة، وتجديد التوبة في كل حين، ثم السعي بتدرج للتخلص من آفات قلبك وعيوب نفسك ومذمات أخلاقك، فتتعرف على أكثر طباعك سوءًا، وتبدأ صادقًا في التخلص منها والتحلي بضدها رويدًا رويدًا، وسيساعدك في ذلك أن تنظر إلى إخوانك المؤمنين لتراهم بمرآة نفسك، وتعلم أنهم أيضًا يرونك بالمرآة نفسها، فالمؤمن مرآة أخيه، فإذا أحببت أن يروك كما تراهم، أو إذا خجلت ونفرت، فستعلم كم هي مسيئة تلك العيوب إليك، وكم هي مشوهة لصورتك، وكم هي بغيضة إليك وإليهم، فتهجرها مليًا، وبعون الله الله تتنزه عنها و تتبرأ منها

والذكر الدائم لله عزَّ وجل هو أحد معارج الوصول لهذه النفس الملهمة، مع اليقظة التامة في مواجهة المعاصي، والسعي قدمًا لأن تملأ قلبك بنور الله عزَّ وجل ومحبته

 النفس الـمُلهَمة

وهي المرتبة الثالثة من مراتب النفس، والمرحلة التي تصل إليها بعد النفس اللوامة، وذلك حين تغلب عليك التوبة من الذنوب، ويصبح ديدنك الاستغفار من المعاصي، وتجاهد للصدود عنها والحذر منها، وينصرف قلبك عن سبيلها منشغلاً بجهاد نفسك تحت مظلة الإرشاد المعنوي، وفي أُنسِ الصحبة الصالحة مدعومًا بكنف وحماية الرابطة

وفي هذه المرحلة يكون العبد قد وصل من الإخلاص إلى درجة تجعله متوجهًا إلى الله تعالى، واضعًا رضاه سبحانه نصب عينيه، منشغلاً عن مراءاة الناس، متعلقًا قلبه بربه، متغافلًا عما سواه تعالى، وبفضل لطف الله وفيوضاته يصبح قلبه فرقانًا بين الخير والشر، ومجنَّة ضد الهوى، وماءً يطفئ نار الشهوة، ونسيمًا يلطف حرارة الرغبات، ويصفو القلب لتتجلى فيه حقائق الإيمان

وقد جاءت كلمة «مُلهَمة» التي تصف مرتبة النفس هذه من القرآن الكريم حين قال الله تعالى

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس، 7-8)

أي إن النفس الـمُلهَمة هي النفس التي تتلقى الإلهام، والعبد الذي يعيش بهذه النفس ينكشف له قليل من المعرفة والكشوفات والحقائق من لدنه تعالى، وذلك ببركة مراعاته الأوامر والنواهي الإلهية على أفضل وجه، فيتوجه حينئذ العبد بالعشق إلى عالم الأرواح، ويصل إلى النضج الذي يُمكِّنه من نيل بعض النسمات والإلهامات الربانية، بيد أن فهمها وتمييزها -أرحمانية هي أم لا- يتطلب الخضوع المطلق لمرشدٍ معنوي

وينبغي الحذر الشديد هنا أيضًا، فالنفس التي أصابتها الهزيمة، والروح الحيوانية التي طُردت من سلطانها، لن تستسلم بسهولة، ولن تترك الروح السلطانية تستمتع بالانتصار، وتتذوق حلاوة الكمال؛ بل تناوش وتحاور وتراوغ، ولا تنفك تدبِّر حيلها ودسائسها الخفية، حتى لا يهنأ العبد بكمال التسليم والتوكل على الله تعالى، وحتى لا يتحقق له الكمال الظاهري والفعلي في الباطن

وبالتالي؛ لا تزال الطبائع السيئة تجد لأقدامها موطنًا في النفس، ولا تزال الأخلاق الخبيثة تجد لآفاتها أثرًا في القلب، مع أنها لا تكون متجذرة، فتجد أثرًا للوساوس وضيق القلب والأوهام والشهوات، وشيئًا من القلق وعدم ثبات للطمأنينة، ولا تجد سعادة التسليم الكامل لله تعالى

ولا يزال طول الأمل يداعب الإنسان، ولا تزال هموم العيش والمعيشة تشغله، والقلق على المستقبل والخوف على الرزق يشاغله، ولم تركن النفس تمامًا إلى فضيلة التوكل، ولم تستوعب تمامًا معاني اسم الله الرزاق

إذًا، فالتسليم لله تعالى، والتوكل عليه سبحانه لما يتحقق بتمامه في القلب، والرضا بقضائه عزَّ وجل لما يترسخ في المشاعر؛ بل يكون فقط تقليدًا ظاهريًا

إذ إن نجاح العبد في هذه المرحلة هو نجاح صغير، متمثل في هزيمة الروح الحيوانية، وترك رغبات النفس وتأديبها بعض الشيء، ولمَّا تأتِ بعدُ مراحل غرس الطبائع الجميلة والأخلاق الحميدة واستنباتها

وهنا تكون نجاحات الرياضة والمجاهدة في «ترك» ما تُسر به النفس، لكن هذا الترك لابد أن يتبعه فعل، وهو «ذكر الله»، وذكر الله تعالى يجب أن تُراعى آدابه وتُسلك دروبه بالإرشاد المعنوي والهداية الربانية من لدن أولياء الله

فلن يستقر الذكر في القلب ويصفو، والقلب لا زال مأخوذًا بهموم الدنيا وشواغلها. إنما يصفو الذكر حين يكون الذكر للتلذذ، والتسبيح مفعمًا بالعشق الإلهي، والتكبير ممتلئًا بالوجد، وليس ذكرًا يهدف منه إلى التداوي فقط، والتخلص من العيوب

وإذا كان الذكر للحب وبالحب، فحينها يطَّلع العبد عبر الإلهام الربَّاني على أسرار الكون، ويتعجب من مظاهر القدرة الإلهية أمامه ويندهش منها، ويصل قلبه إلى الاطمئنان، ويبدأ بإدراك قول الله تعالى في الآية الكريمة

(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل، 125)

وحين ينال العبد من ربه ذاك النوال، ويمسه من لطفه سبحانه ذاك الجمال تنضح كلماته بالحكمة، وتتألق كلماته بالموعظة

وكلما توغلت أكثر في هذا الدرب، وكلما نوَّرت بالذكر جنبات القلب، وكلما صرت مهيئًا لفيوضات الرب؛ تصاغرت في نفسك الروح الحيوانية، وازدادت سيطرة الروح السلطانية، وتصاغرت لديك الميول السفلية، وصرت أكثر تواضعًا وقناعة وكرمًا، وقويت عندك روح المسامحة وسعة الصبر وقوة التحمل

بيد أن إحدى آفات هذه المرتبة هو ظن المرء أنه «صار شخصًا أفضل»، وهذا ما قد يجرُّه إلى الكِبر والعُجب إذا ما أصابته الغفلة، لهذا يجب على المؤمن في مرتبة النفس الـمُلهَمة أن يعلم دائمًا أنه تحت المراقبة الإلهية، ويرتكز في أحواله وسلوكه على مشاعر التواضع وإدراك فنائه، وينبغي له أن يتفكر في الموت وعدم الغفلة عن التفكير في الآخرة

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف

«أكثروا ذكر الموت فإنه يمحِّص الذنوب، ويزهد في الدنيا، فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه، وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم» (السيوطي، الجامع الصغير، جـ1، 47)

وينبغي على السالك الذي وصلت نفسه إلى هذه المرتبة أن يحيا بمقتضى نصيحة سيدنا عمر رضي الله عنه حين قال

حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن لكم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر، وإنما يخِفُّ الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا

النفس المطمئنَّة

هي النفس التي اطمأن فيها الإيمان ورسخ اليقين، فسكنت بتقواها وقويت بأخلاقها، وتطهرت من أمراضها، وسمت بالذكر روحها، بالامتناع عن نواهي الشرع، والامتثال لأوامر الحق

في هذه المرحلة والمرتبة تمت عملية التخلية بإخلاء النفس والقلب والروح من كل الآفات والأمراض والأغراض، وإغلاق منافذ الوساوس ومواضع الدسائس، ليصبح المجال بعد ذلك طاهرًا مهيئاً لعملية التحلية، فتترسخ محاسن الأخلاق، ويكون المرء جديرًا بأن يتخلق بأخلاق سيد الخلق، وأسوة البشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصير حليته الصبر، ووسامه التوكل، وقلادته الرضا، وتاجه التسليم لله سبحانه

والنفس المطمئنة هي نفس أهل التقوى واليقين، وهي مرتبة أهل الله العارفين، الذين انشغلت بذكر الله قلوبُهم، واطلعت على بواطن أحكام الشرع عقولهم

يقول الإمام الرباني قدس الله سره

«إن العبودية والعبادات هي محض تقليد، لكن حين يصل المرء إلى مرتبة النفس المطمئنة يغدو التقليد تحقيقًا»

ويقول شيخنا سامي أفندي

«إن دخول الإسلام بالمعنى الحقيقي منوطٌ بالتخلص من النفس الأمَّارة، واتباع أوامر الله تعالى، وبناءً على ذلك، تُطلق كلمة (الإسلام المجازي) على الإسلام الذي يُصدِّقه القلب فقط قبل الوصول إلى النفس المطمئنة، وتُطلق كلمة (الإيمان الحقيقي) على الإيمان بعد أن تصل النفس إلى مقام النفس المطمئنة

أما الترقي في العبودية إلى مستوى التحقق، فهو الوصول إلى «مرتبة الحقيقة» الموجودة في تسلسل الشريعة، والطريقة، والحقيقة، والمعرفة

وكلما ارتقى العبد في طريق السلوك والمجاهدات ازدادت الأعباء الملقاة على كاهله، ولم تنفعه المبررات التي يتعلل بها عند الكبوات، فإذا وصل إلى سن الرشد في الطريقة بعد أن يُكمل السير والسلوك، وتنتهي مرحلة الطفولة المعصومة التي لا يُؤاخذ فيها على عيوبه، ولا يُلام على هفواته؛ حينها يصير مسؤولاً مؤاخذًا على أصول الشريعة وآداب الطريقة، وهنا تقف مسؤوليته عند حدود درجته، ولا يُحاسب على آداب الحقيقة إلا بعد أن يخطو خطوته الأخيرة في مرحلة «النفس المطمئنة» عبر الحقيقة»، ويكون قد وصل إلى سن الرشد فيها، ليُحاسب بمقتضى آدابها

وتختلف موازين الأخطاء باختلاف الدرجات، وكما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فإن بعض المباحات في «الشريعة» تُعد ذنوبًا في «الطريقة»، وبعض الهفوات في الطريقة تعد كبائر في «الحقيقة» لدى العارفين

وإذا ضربنا لذلك مثلاً نقول

الإسراف في الطعام لدى الشريعة هو الأكل بعد الشبع

أما الإسراف في الطعام لدى الطريقة فهو الأكل حتى الشبع

والإسراف في الطعام لدى أهل المعرفة فهو -إضافة لما سبق- ألا يرى العبد التجليات الإلهية في النِعَم

وعلى ذلك يمكنك قياس مدى دقة الموازين، وتضخم المسؤوليات مع الرقي في الدرجات

وحين تبلغ النفس المطمئنة عين الحقيقة، وتستروح برد اليقين وراحة السكينة بنوال عناية الله تعالى وتوفيقه بعد أن تخلصت من هموم الدنيا، ومآسي القلب، وجواذب الروح، تنطلق مرفرفة في سماء الوجد لتنال حظها من منحة «الإلهام» والكشف

ففي هذه المرتبة تنزاح ستائر الغفلة عن بصيرة القلب، وتنحسر أغطية الشك عن بصيرة العقل، فيرى كلاهما بعين اليقين حقائق الحكمة، بعد تمام التسليم لله تعالى والاستسلام لقضائه وقدره والاطمئنان لرضائه، ونرى العبد يقبل من التكاليف الدينية والأوامر الإلهية ما ثقل وما غمض بلا أدنى ريبة، ويقوم بها دون أدنى تقصير، وعلى أفضل وجه ولو اضطرته الظروف أن يواجه العالم كله بتكاليف إيمانه وحقائق يقينه، كمثل نوح عليه السلام عندما كان يصنع السفينة في قلب الصحراء منفذًا أمر ربه في يقين لا يدانيه ريب رغم سخرية الناظر، واستحالة الأمر الإلهي في عيون الناس، لكن أهل اليقين ينظرون من نافذة الحقيقة إلى العالمين المادي والمعنوي، فيرون ما لا يراه المبصرون

وأمثال هؤلاء لا يضرهم كيد الكائدين، ولا أذى المسرفين، ولا سخرية المجادلين، فإذا رسخ في القلب اليقين، لن تزحزحه مكائد العالمين

وهاهم سحرة فرعون يأتون في صلف المتكبرين، عونًا للسلطان على أهل الإيمان، يطلبون نوال الدنيا وعطايا أهلها، لكنهم يرون الحقائق جلية، والآيات بينة

وكأن هول المعجزة يسارع في العبور بهم من مرحلة إلى مرحلة في السير والسلوك، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، فيترسخ في قلوبهم اليقين، فيؤمنون ولا يأبهون بما دون ذلك من فوات نعيم الدنيا، وإقبال عقابها الأليم، ويكون الرد الحاسم البليغ على تهديدات فرعون

(قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ. وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) (الأعراف، 125-126)

فاستحقوا بذلك الثناء والنداء الإلهي

(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (الفجر، 27)

هذا الثناء الرباني لم تنله الأنفس الأدنى درجة؛ لا النفس الأمارة، ولا النفس اللوامة، إنما نالته النفس التي اطمأن بالإيمان قلبها، وسكنت باليقين روحها

ثم تواصل هذه النفس جهادها، وتضع مِقْوَدها ولجامها في يمين طاعة الله، وتستسلم لقضائه سبحانه، لتنعم بالوصال مع الله، وتحظى بالدنو من جنابه تعالى، فترتقي في الدرجات، وتداني الكمالات، وتصعد إلى مراتب النفس الراضية، والنفس المرضية، والنفس الكاملة

النفس الراضية

هي النفس التي وصلت إلى حالة الفناء في إرادة الله تعالى، فتلاشت إرادتها أمام إرادته، وفنيت مشيئتها أمام مشيئته، وتوجهت إليه سبحانه بكل كيانها، فلم يبقَ لها توجه ولا رغبة لأحد سواه جل في علاه، فخضعت لحُكمه، وقنعت بحكمته، ورحبت بقدره، وفرحت بقضائه

ويقول الحق تعالى مخاطبًا هذه النفس

(ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) (الفجر، 28)

وكلمة «راضية» في الآية تشير إلى مسمى هذه النفس ومقامها

ذلك الرضا يعني أن تصبر النفسُ على كل ما يختبرها اللهُ تعالى به من امتحانات، وأن تخوض ما قسمه لها من ابتلاءات، وأن ترضى بمراد الله لها من مصائب وملمَّات مهما كثرت وتنوعت، يقول سبحانه

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة، 155)

تُعدِّد الآيةُ أصنافًا وجوانب ومراحلَ من البلايا والرزايا، ثم هي تبشر الصابرين، ولكن الدخول في زمرة الصابرين يتطلب الانتساب إلى زمرة الذين ارتقوا بالنفس، فترضى بما اُبتليتَ مهما بلغ البلاء، ولا تشكو من الرزايا مهما كان القضاء، ولا تتذمر مهما عاندتك الدنيا وتقلبت بك الأنواءُ؛ بل تُبدي التسليمَ والرضا التام، وكأنك تبصر ما وراء القضاء من حِكمة، وما وراء الحكمة من إرادة إلهية

وخير مثال نذكره عن الصبر والرضا هو سيدنا جعفر الصادق رضي الله عنه، فقد مات بين يديه ولدٌ صغيرٌ له من غصة اعترته، فبكى، لكنه تذكر النعمة في هذا الوقت، وقال: «لئن أخذتَ لقد أبقيتَ، ولئن ابتليتَ لقد عافيتَ» ثم حمله إلى النساء فصرخن حين رأينه، فأقسم عليهن ألا يصرخن، ثم أخرجه إلى الدفن وهو يقول: «سبحان منْ يقبض أولادنا ولا نزداد له إلا حباً»، ويقول بعد أن واراه التراب

إنا قوم نسأل الله تعالى ما نحب فيمنْ نحب فيعطينا، فإذا أنزل ما نكره فيمنْ نحبُّ رضينا

ما أشد الابتلاء هنا! وما أعظم الصبر! ثم ما أرقى الرضا! وما أتم التسليم! إنه ابتلاء يناسب سمو المقام وعلو المرحلة، وهي حقيقة وناموس كوني، فكلما ارتقى المرء في الدرجات زادت وقست عليه الابتلاءات، وهو ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث التالي

عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، أي النَّاس أشدُّ بلاءً؟

قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينُه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتُلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة» (الترمذي، الزهد، 57)

وما يساعد العبد على هذا الصبر، وذلك الرضا؛ هو أن يتجاوز عقبة النفس، فيرضى من ربه كلَّ شيء، لأنه في الأصل يرضى بربه، ويقبل بالتالي كل ما أتى من جانبه سبحانه؛ لأنه يدرك أن المحنة تأتي في أعقابها بمنحة، والاثنان متلازمان، فالمكافآت الكبرى تأتي بعد مجاهدة كبرى، وللطريق المعنوي غرائب وتقلباتٌ وأحوال

في هذه المرحلة -النفس الراضية- يستوي في عين العبد الخير والشر، ويستوي في قلبه الغم والسرور، ولأنه يوقن أن كل شيء هو بقدَر الله تعالى، فإن السعادة والأسى عنده سيان، فكلاهما عطية الرحمن

وتلك أبيات الشاعر الصوفي تعبّر عن هذه الحالة

كل شيء من الله جميل أكان وردًا أو شوكًا

أو تاجًــا أو كفنًـا أو قهـرًا أو لطفًــا

إنها ليست كلمات تُقال، ولا مبالغات شعراء يقولون ما لا يفعلون، إنها حقائقُ أحوالِ نفسٍ جاهدت، ونتيجةُ سلوكِ من سار في الطريق وواجه مصاعبه، واعتاد على متاعبه حتى وصل إلى ذلك المقام بعدما أدى مطالبه؛ لذا فالواجب على المرء ألا ينطق بمثل هذه الكلمات هباءً ولا تقليدًا، فقد يأخذ الله تعالى قدرك من لسانك فيعرضك لاختبار المقام وابتلاء المرحلة للتحقق من حقيقة ما تقول، وعندما تجد الاختبار شديد الصعوبة بعكس نطق الكلماتِ شديدة السهولة يكون الإخفاق كذلك أقرب إلى الواقع من النطق والمنطق

أما منْ وصل إلى مقام النفس الراضية حقًا، فإنه يبدأ في الاطلاع على الأسرار الإلهية، ولأنه يدرك معنى الوحدانية بعمق، فإنه يرى الكمالات في العالم الروحاني، وينال شرف تجليات أسماء الله تعالى وصفاته، ويصير هو مصدرًا للنور، وينبوعًا للخير، ونبراسًا للحق، وفيضًا من الأخلاق الحُسنى والشمائل الفُضلى

والنفس الراضية تتبع أوامر الله تعالى بكل سكينة، وتنتهي عن نواهيه بكل طمأنينة، وتؤدي العبادات بكل إخلاص وتفانٍ، لذا فهي تتكاسل أحيانًا في أداء تلك العبادات، لماذا؟

لأن القصد من وراء العبادات التي تُتعب الإنسان الارتقاء في المراتب، أو نيل الكرامات والكشوفات، أو ما شابهها من مقاصد جليلة، ولكن إذا ما كانت غاية الإنسان من السعي هي الحصول على مثل هذه الكرامات، فإنه يغلق الطريق أمامه بنفسه، وتذهب جهوده كلها هباءً، وفي هذه الحالة تظهر المتاعب والمشقات التي تُنسي الإنسان الذكر والفكر، ولذلك لا ينبغي الأمل إلا من أجل رضا الله تعالى من بداية السير والسلوك إلى نهايته

فإذا أردت القرب من الله تعالى، فعليك أن تدرك قربه تعالى منك، وأن تعي معنى أنه سبحانه أقرب إليك من حبل الوريد

كذلك؛ إذا أردت رضا الله تعالى فعليك أن ترضى عن الله تعالى، برضاك عن قدره وقضاه، والسعي في طريقه إلى منتهاه، والصبر على لأواء الطريق وابتلاءاته، لأن في ذلك الخلاص والنجاة

ويقول الإمام الرباني عن هذه المرتبة

«الأحوال والمواجيد والعلوم والمعارف التي تحصل للصوفية في أثناء الطريق (السير والسلوك) ليست من المقاصد، بل هي أوهام وخيالات تربى بها أطفال الطريقة، فينبغي أن يجاوز جميع ذلك، وأن يصل إلى مقام الرضا، الذي هو نهاية مقامات السلوك والجذبة، فإن المقصود من طيِّ منازل الطريقة والحقيقة ليس إلا تحصيل الإخلاص المستلزم لحصول مقام الرضا

النفس المرضية

إذا كانت النفس الراضية هي التي رضيت عن الله تعالى، فإن النفس المرضية هي التي رضي الله عنها بعد أن أتمت هي رضاها عن الله تعالى، وقدمت من الأعمال الصالحات ما تنال به رضاه

هذه المرتبة والمرحلة -النفس المرضية- هي التي أتمت العمليتين الأهم في التربية: التخلية، والتحلية، فتخلت عن كل الأخلاق السيئة والطباع الذميمة والآفات المشينة، ثم تحلت بالأخلاق الحسنة والطباع الحميدة، والفضائل والمكرمات

وفيها يجد العبدُ لذة الرأفة والرحمة والعفو، وحلاوة المحبة والكرم، وجمال الخُلق الكريم

وفيها أيضًا تكون محاسبة العبد لنفسه أشد عسرًا، ومراقبته لها أعظم حيطة، وترصُّده لمكائد الشيطان أشد حذرًا، ويقظته لحيل إبليس أكثر وعيًا؛ حتى إنه يحاسب نفسه مع كل طرفة عين، ويراقبها مع كل شهيق، ويحذرها مع كل زفير

وفيها يكون الاستسلام التام لله تعالى، والتسليم الكامل لمشيئته سبحانه؛ حتى يستوي عنده حنو اللطف وقهر الجبروت، طالما كلاهما من عنده سبحانه، فيكون الرضا عن الحالين هو رضاك عن الله، وذلك هو بشرى المؤمن برضا الله تعالى عنه كذلك في عالم الخلود، كما أشارت الآية الكريمة إلى النفس المرضية في قوله تعالى

(ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) (الفجر، 28)

ويؤكد ذلك أيضًا آية أخرى مبينة لحال أهل الرضا

(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (البينة، 8)

ذلك الرضا هو مرتبة «حق اليقين» التي يطَّلع العبدُ فيها على الخفي من الأسرار، وتنكشف عن بصيرته الحقائق المحجوبة عن غير أهلها، فقد أيَّد الله تعالى بقدرته ما لديهم من حواس وبصائر، وصاروا عبادًا ربانيين، وكأن الله تعالى هو أعينهم التي بها يبصرون، وآذانهم التي بها يسمعون، وألسنتهم التي بها يتكلمون، وأيديهم التي بها يبطشون؛ لأن الله عنهم راضٍ، وهم عنه سبحانه راضون

لذا؛ فإن الله تعالى يكرمهم في مقامهم هذا وأحوالهم تلك، فتتذوق أنفسُهم تجليات الكمال التي يشاهدها العبد في مرتبة النفس الراضية، وتجد ألطاف الأخلاق وجمال الخصال، مثل حلاوة الصبر، وراحة التوكل، ورضا التسليم، وسعادة الرضا

وهذه الخصال هي التي عاشها الأنبياء واقعًا وأحوالاً، وها هو سيدنا يعقوب عليه السلام يفقد أحب أبنائه، ثم يفقد الآخر، فتبيض عيناه، ويشتد بلاؤه، ثم يصف حاله ومآله، فيحكي عنه القرآن الكريم

(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف، 18)

وها هو سيدنا أيوب عليه السلام مضرب المثل في الابتلاء، لكنه أيضًا كان مضرب المثل في الصبر، وحين طلبت منه زوجته قائلة

لو دعوت الله ليفرج عنك حالك»، أجابها: «لقد وهبني الله تعالى ثمانين عاماً عشتها معافى صحيحًا، وإني لأستحي من الله عزَّ وجل أن لا أطيق الحياة في بلائي المدة التي لبثتها في رخائي

وحين رُمي إبراهيم عليه السلام في النار استقبله جبريل عليه السلام بين المنجنيق والنار، فقال: السلام عليك يا إبراهيم، أنا جبريل، ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، حاجتي إلى الله ربي

وثمة نفس أخرى -غير تلك الأنفس التي عرضناها- في مراتب التزكية التي يمر بها العبد السالك في طريقه، وهي مرتبة النفس الكاملة، أو النفس الصافية، وهي المفوَّضة لأهل الكمال

النفس الكاملة / النفس الصافية

وهي النفس التي بلغت بها التزكية والتربية مرتبة الكمال، وتمام الصفاء، وسموَّ النضج، ويستحصل العبد في هذه المرتبة على كل أسرار المعرفة بلطف الله وعطائه، وإحسانه الإلهي، وليس فقط بالعمل، فتلك المرتبة من أسرار القدر

فصاحب هذه النفس قد وصل إلى «مقام الإرشاد»، وصار متحملاً مسؤولية الإرشاد، ومكلفًا بمتابعة رسالة الأنبياء في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، عبر التأثير فيهم بحاله وسلوكه، ومعالجتهم بنفاذ بصيرته في إدراك داء الشخص ودوائه؛ وهؤلاء المرشدون لا يفقدون الأمل في إصلاح الناس مهما بلغوا من الفسوق، فالطريق إلى الله لا يغلق في وجه أحد