مكانة نبي الرحمة بين الأنبياء

ذكرنا فيما سبق أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بدأت بتجلٍّ إلهي قبل خلق آدم وذريَّته. فقد كان "النورُ المحمدي" أولَّ مخلوق

فنورُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر قبل سيدنا آدم عليه السلام، وكان صلى الله عليه وسلم خاتمَ الأنبياء بجسده؛ أي إنه يمثِّل الصفحة الأولى والأخيرة من كتاب النبوة؛ وبعبارة أخرى بدأت رسالة النبوة بالنور المحمدي، وانتهت بالجسد المحمدي، وبهذا يكون النبي محمد صلى الله عليه وسلم النبي الخاتم زمنًا، والأول خَلقًا. ويمكننا هنا أن نقول أن

آدم عليه السلام الذي سجد له الملائكة كلهم أجمعون

وإدريس عليه السلام الذي حمل أسرار السماوات

ونوح عليه السلام الذي طهَّر الأرض من الكفر بعد الطوفان

وهود عليه السلام نبي قوم عاد الذين أُهلِكوا بريح صرر عاتية

وصالح عليه السلام نبي قوم ثمود الذين زُلزِلُوا زلزالًا شديدًا لطغيانهم فأصبحوا نادمين

وإبراهيم عليه السلام الذي صارت له نيران نمرود -حينما أُلقِيَ فيها- جنة بتوكله وتسليمه

وإسماعيل عليه السلام الذي غدا رمز الإخلاص والصدق والتوكل والتسليم، والذي سيظل المؤمنون يذكرون قصَّته أثناء الحج حتى قيام الساعة

وإسحاق عليه السلام الذي جاء من نسله أنبياء بني إسرائيل

ولوط عليه السلام النبي المبعوث لقوم سدوم وعمورة الذين خسفَ الله سبحانه وتعالى بهم الأرض لطغيانهم وسوء أخلاقهم، فلم يبقَ لهم ذكر في التاريخ

وذو القرنين عليه السلام الذي حمل لواء التوحيد من المشرق إلى المغرب

ويعقوب عليه السلام الصابر الذي اكتوى بنار المحبة والشوق

ويوسف عليه السلام الذي عاش في الرِّقِّ مدة، ثم ذاق في السجن طعمَ الوحدة والغربة والعناء والمشقة ومجاهدة النفس، ثم صار سلطان مصر، وهو سلطان القلوب بجماله الذي فاق جمال البدر في الليلة الظلماء

وشعيب عليه السلام الذي سُمِّي «خطيبَ الأنبياء» لخطاباته التي كانت تأجِّج في الأفئدة الوجد والمحبة

والخضر عليه السلام الذي علَّم سيدنا موسى الأسرار الإلهية

وموسى عليه السلام الذي قضى على سلطان فرعون، وشق البحر الأحمر بعصاه

وهارون عليه السلام أخو موسى عليه السلام الذي كان عونه وسنده كل زمان ومكان

وداود عليه السلام الذي سخَّر الله له الجبال والطير

وسليمان عليه السلام الذي أبقى مُلكَه العظيم خارج قلبه

وعُزير عليه السلام الذي أماته الله مئة عام ثم أحياه، فكان برهانًا جليًّا على البعث يوم القيامة

وأيوب عليه السلام الذي صار بتفكره وتأمله رمز الصبر

ويونس عليه السلام الذي تجاوز الظلمات بتدبره في حقيقة الاستغفار والدعاء والذكر في حال وجد عظيم

وإلياس عليه السلام الذي أثنى عليه الله تعالى حين قال: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ}

وإليسع عليه السلام رسولًا من عند رب العالمين

وذا الكفل عليه السلام النبي الصالح الذي تنزَّلت عليه رحمات الله تعالى

ولقمان عليه السلام المشهور بنصائحه الحكيمة، وأحكم الحكماء ظاهرًا وباطنًا

وزكريا عليه السلام النبي المظلوم الذي لم يفارق التوكلَ والتسليم، ولم يقل "آه" حتى حين نُشِرَ بالمنشار

ويحيى عليه السلام الذي ختم حياته بالشهادة مثل أبيه

وعيسى عليه السلام النبي المرفوع، المزكيِّ نفسَه، والشافي المرضى، والمحيي الموتى بالتجائه وتضرعه إلى ربه جلَّ وعلا

وما يقرب من مئة وعشرين ألف نبي وتجليات القدرة الإلهية كلها التي ظهرت منهم، كلها كأنها سُحُب نيسان المباركة أُشبِعَت إلى أقصى درجة، ثم أفرغت حملها قسرًا على تراب أفئدة البشر. وسلسلة الأنبياء التي هي وسيلةُ هداية مباركة، كانت كل واحدة من حلقاتها بشارة لظهور النبي المبعوث رحمة للعالمين محمد المصطفى الأمين عليه وعلى سائر الأنبياء الصلاة والتسليم

ويروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال

خلق الله تعالى له «أي لآدم» حواءَ زوجته من ضلع من أضلاعه اليسرى، وهو نائم، وسُمِّيَت حواء لأنها خلقت من حي، فلما استيقظ ورآها سكن إليها، فقالت الملائكة: مَهٍ يا آدم

قال: ولمَ وقد خلقها الله لي؟

فقالوا: حتى تؤدي مهرها

قال: وما مهرها؟

قالوا: تصلي على محمد صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات

فصار للنكاح شأنٌ وقيمة بالصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وامتلأ بتجليات الرحمة والبركة والفيوضات

*

ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال

«لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لِمَا غفرت لي، فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه؟ قال: يا رب، لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحبَّ الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، ادْعُني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك»

*

إن حياة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم مليئة بالتجليات العظمى التي لم ينلها قبله نبي من الأنبياء، وله صلى الله عليه وسلم مكانةٌ وشرفٌ عظيمٌ لم يبلغه نبيٌ قبله؛ فمهمة الأنبياء كلهم عدا نبينا الكريم محدودة في زمان ومكان، لذلك لم يبلغنا سلوكهم ومعاملاتهم وأحوالهم بتفصيل دقيق. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أُمِر بإرشاد الناس كافة، فهو حجَّةٌ عليهم أجمعين من بعثته حتى قيام الساعة، لذلك نعلم اليوم أحداث حياته كلها بأدق تفاصيلها وفروعها بروايات صحيحة، وكذلك سيبقى حتى النفخ في الصور؛ وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون صلى الله عليه وسلم «الأسوةَ الحسنة» للناس أجمعين في «آخر الزمان»

لقد جاء سيدنا موسى عليه السلام بمجموعة من الأحكام الشرعية، وعُرِف سيدنا داود عليه السلام بدعائه ومناجاته الله سبحانه وتعالى، وأُرسِل سيدنا عيسى عليه السلام ليعلِّم الناس مكارم الأخلاق والزهد في الحياة، أما سيدنا محمد نبي الإسلام فقد جاء بما جاء به الأنبياء كلهم؛ إذ شرَّع الأحكام، وعلَّم تزكية النفس والدعاء لله بقلب صافٍ، وأمرَ بأحسن الأخلاق، وصار قدوة للناس بعيشه، وأوصى بعدم بالاغترار بزينة الحياة الدنيا الفانية. وصفوة الكلام أنه اجتمعت فيه مهام الأنبياء كلهم وصلاحياتهم، وفيه التقت أصالة النسب والأدب، وسعادة الجمال والكمال

ولم يُقسِم الله تعالى في كتابه العزيز بأي نبي من أنبيائه إلا بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال في سورة الحجر في الآية الثانية والسبعين: {لَعَمْرُكَ}

ويقول الشاعر الصوفي الشيخ غالب في بيان هذه الحقيقة

أنت سلطان الرُسُل، والشاه الممجدُ يا سيدي

وأنت بلسمٌ للعاجزين يا سيدي

وأنت الحامي لأمتك يوم الحشر يا سيدي

وأنت المؤيَّد بالقسم الإلهي: "لعمرك" يا سيدي

وأنت أحمد ومحمود ومحمد يا سيدي

وأنت السلطان المؤيَّد من الحق يا سيدي

ومما يميِّز نبيَّنا الأكرم صلى الله عليه وسلم عن غيره من الأنبياء أن الله سبحانه وتعالى قد خاطب الأنبياء في القرآن الكريم بأسمائهم فقال

«يا آدم، يَا نوح، يَا إبراهيم، يا موسى، يا داوود، يا عيسى، يا زكريا، يا يحيى»

لكنه لم يخاطب نبيَّنا صلى الله عليه وسلم باسمه، بل بصفة من صفاته، فقال

«يا أيها النبي، يا أيها الرسول، يا أيها المزمل، يا أيها المدثر».ويقول الله سبحانه وتعالى في هذا الشأن

{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}

يقول ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية الكريمة

«كانوا يقولون: "يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عن ذلك إعظامًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: "يا نبي الله، يا رسول الله»

فهذا يعني أن خطاب ربنا لنبيه بصفته لا باسمه تعليمٌ للأدب والاحترام الواجب أمامه صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه وتعالى بذلك يرسم قاعدة عامة في هذا الأمر

وقد خصَّ الله سبحانه وتعالى نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بصفة الحبيب

ودليل آخر على علو شأنه وتميُّزه بين الأنبياء أنه أَمَّ الأنبياء كلهم في المسجد الأقصى في حادثة الإسراء والمعراج

والمعراج لم يكن إلا له صلى الله عليه وسلم، والسِّرُّ في قول الله تعالى لموسى: {...لَنْ تَرَانِي...} تجلَّى في حادثة المعراج على صورة: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}

وقد أكرمَ الله سبحانه وتعالى أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم في حادثة المعراج بنعمة عظيمة، ألا وهي عبادة الصلاة التي هي أعظم ما يقرِّب العبد من ربه

وينبِّه الشاعر كمال أديب كوركشو أوغلو المؤمنين الغافلين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تجمع كل الفضائل والمحاسن فيقول

«واأسفاه على الغافل البعيد عن ثناء رسول الله، فذلك يكفيه خسرانًا في الدارَين»

فلا يمكن إدراك حقيقة القرآن والسنة إلا بالتأسي بأخلاق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وتقليده في أحواله وحركاته وسكناته

اللهم اجعلنا أمةً صادقةً تتحد بمحبته صلى الله عليه وسلم، فهو منبع الرحمة والرأفة الذي لا ينضب

والصلاة والسلام دائمًا وأبدًا على المبعوث رحمة للعالمين! فإننا المحتاجون إلى توسله وشفاعته يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون


من خِصَال نبي الرحمة

إذا قلَّبنا صفحات التاريخ صفحةً صفحةً، فإننا لن نجد إنسانًا قد عُرِفَت أحواله وحركاته وسكناته بأدق تفاصيلها إلا سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقد سُجِّلت أفعاله وأقواله وأحاسيسه كلها وقامت في معرض التاريخ الإنساني لوحاتٍ للرفعة والشرف

فحياته صلى الله عليه وسلم أسوة للأجيال كلها حتى تقوم الساعة، ويقول الله سبحانه وتعالى في نبيه الكريم

{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}

وهو ليس معلّما للقرآن لفظا فحسب، بل صلى الله عليه وسلم كان قرآنا يمشي على الأرض

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم

«بُعِثتُ لأتمِّمَ حسن الأخلاق»

فعبد الله بن سلام الذي كان من أحبار اليهود ما إن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحاطت به نورانية وجهه صلى الله عليه وسلم وسماحته، فقال شاهدًا بإيمانه به:  إن وجهه ليس بوجه كذَّاب

ويحدِّثنا فيقول

«لمّا قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، انجفل الناس قِبَلَهُ، وقيل: قد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد قدم رسول الله، قد قدم رسول الله ثلاثًا، فجئت في الناس لأنظر، فلما تبينت وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به، أن قال

"يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"


موضوع التصوف

لقد تنوعت الطرائق التي تتناول كنه التصوف، وتعددت الوسائل التي تحاول الوصول إلى حقيقته، فازدادت زوايا النظر للتصوف عمقًا واتساعًا، لاسيما وأن التصوف مهتم بكل ما يمس الروح والنفس، وهما من أسرار الله تعالى في خلقه، فالتصوف -بذلك- عميقة أغواره كالبحر، عميم نفعه وانتشاره كالمطر؛ يهطل من أعلى مزن في طبقات الجو، فيعم مساحات شاسعة من الأرض جبالاً وسهولاً ووديانًا، وينفذ إلى أعماقها بعد أن يسقي مَن على سطحها زرعًا وضرعًا وإنسانًا. كذلك التصوف وموضوعاته التي تشبه في تنوعها قطرات المطر في تواترها؛ لا حصر لها ولا عدد

وجوانب التصوف تشمل كلَّ خطوة يخطوها الإنسان في السعي إلى ربه، وكلَّ درجة يرتقيها في المعراج إلى مولاه، وكلَّ خلجة تعانيها نفسه في الصراع مع معوقات طريقه، وكلَّ صعقة تصيب حواسه في سبيل الخلاص من جواذب الدنيا، وكلَّ عالَم تعاينه روحُه في مدارج الوصول، وكلَّ شعور يحس به في ارتقائه معارج القبول، وكل المخلوقات التي ارتبط بها نفسًا وروحًا في هذا الكون؛ حتى كان ارتباطه الأوحد برب العوالم كلها الأحد الصمد، وتحقيق العبودية له وحده تعالى، وتمام معرفته سبحانه

وإذا كان الخوض في هذا السبيل ضربًا من المستحيل فلا أقلَّ من أن نرشف من البحر المحيط رشفة، أو أن تمس أقدامنا مياه شواطئه، أو تلامس أفكارنا سواحل مواطئه، وليغترف كل منا غرفة بيده

وعلى سبيل البدء، فإن موضوع التصوف يتضمن مراحلَ وأحوالًا وأهوالًا يجتازها السالك في الوصول إلى ربه، سعيًا نحو هوية المسلم الكامل؛ وتحقيقًا لمعنى العبودية المطلقة، عبر تزكية النفس وتطهير القلب

وبمعنى آخر: فإن التصوف يرمي للوصول بالإنسان إلى السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة، ليحياها بجسده وروحه، ويحقق معناها بسلوكه وشعوره، وينغمس فيها ظاهرًا وباطنًا، فتنعكس على صورته وسيرته، كما تتجلى في روحه وسريرته، ويكون ذلك -كما أسلفنا- عبر تزكية النفس وتطهير القلب، ليتذوق الإنسان لذة الشعور بالإحسان، ويحقق التكامل بين الشعور والسلوك، وذلك بالتخلُّق والتحقُّق

التخلُّق بالأخلاق التي أرادها الله لعباده سلوكًا وشعورًا وحياة، والتحقُّق واليقين بعين البصر والبصيرة مما عند الله

ولقد قيل

(إن للعارفين قلوبًا ترى ما لا يراه المبصرون)

وعليه، فإن أحد أبرز موضوعات التصوف هو أصول الوصول، وطرائق القبول، وإدراك الأسرار، ومعرفة الخفايا وما وراء الأستار، وكل ما هو مكنوز في خزائن أسماء الله تعالى وصفاته، متجليًا في كونه ومخلوقاته

وفي ذلك الإطار، يتناول التصوفُ أحوال السالكين التي يجتازونها، وهي أحوال خاصة ومقامات روحانية عليا؛ تُعدُّ من وسائل المعرفة والإيمان والتربية والوصول، مثل الكشف والإلهام والمشاهدة المعنوية والوجد والعشق

وهي أحوال لها ضوابطها ومقاماتها وتأثيرها في النفس والروح والقلب والوجدان، والظاهر والباطن

والخلاصة هي أن موضوع التصوف هو معرفة الله تعالى عبر مشاهدة تجلياته في أسمائه وصفاته ومخلوقاته؛ مشاهدتها بعين اليقين، وعين البصر والبصيرة

ويكتمل ذلك عبر الوصول إليه في مسالك العالم المعنوي، والتدرج في معرفة كنه الكائنات والمخلوقات، وقبلهم كنه الإنسان والقرآن، ثم الوصول إلى القمة في العالم المعنوي، وفي معرفة الله تعالى


مولد سيد الكونَين محمد صلى الله عليه وسلم

الصلاة والسلام على سيد الكونَين محمد المصطفى

الصلاة والسلام على رسول الثقلَين محمد المصطفى

الصلاة والسلام على إمام الحرمَين محمد المصطفى

الصلاة والسلام على جدِّ الحسنَين محمد المصطفى

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه وبارك وسلِّم

*

لقد عمَّت رحمة الله تعالى الكونَ كله وشملت أرجاءَه، وكان أكملُ أثرٍ من آثار هذه الرحمة الربَّانية ذلك المخلوق الإنسان؛ الإنسانُ الذي أعلَى ربُّ العالمين مقامَه بين مخلوقاته، ووضعَ فيه صفات تؤهله لذلك المقام السامي والشرف الرفيع

فمن هذه الصفات العقل والإدراك والفهم، غير أن هذه الصفات أو الألطاف الإلهية لا تؤهل وحدها الإنسان ليفهم الحقائق السامية واليقينيات الكونية فهمًا تامًّا كما أراد الخالق سبحانه وتعالى. لذلك أنعمَ الله سبحانه وتعالى على الناس- إلى جانب نعمه الأخرى- بنعمة كبرى؛ ألا وهي نعمة  «إرسال الأنبياءِ والرسل» فكانوا خير عون وسند للناس في طريق «الوصول إلى مرضاة الله». وأتمَّ عونه لهم بـ  «النور المحمدي»  المخلوق أولًا، والمُرسَل إلى البشر آخرًا، المتجلي في هذه الدنيا بنبيِّ آخر الزمان، وخاتم الأنبياء والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أجمعين

لقد شرَّف خيرُ الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هذه الدنيا قبل طلوع شمس يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول الموافق للعشرين من نيسان عام 571 للميلاد

إن نوره صلى الله عليه وسلم -بلا ريب- أول مخلوق، والمخلوقات كلها تشرفت وأُكرمت بذلك النور المحمدي

وقد تنزَّلت رحمات الله جلَّ في علاه على هذا الكون يوم وُلِد نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم. فلم يكن  يوما كسائر الأيام؛ إذ الأحوال تبدَّلت، والنفوس طابت، والمشاعر ترقَّت، والأفئدة بالفيوضات والبركات امتلأت. و الأرض تغيرت ؛ فقد تكسَّرت الأصنام، وغاضت بحيرة ساوة، وتصدع  إيوان كسرى، وخمدت نار فارس

فكانت تلك التجليات في الزمان والمكان أولى بركات ظهور خاتم الأنبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم

وتذكر لنا المراجع أن من مرضعات رسول الله صلى الله عليه وسلم ثويبة الأسلمية التي كانت جارية عمه أبي لهب ألدِّ أعدائه

فلمَّا بَشَّرت ثويبةُ أبا لهب بولادة ابن أخيه أعتقها فرحا بمولد ابن أخيه، فكان سروره هذا كافيًا لتخفيف العذاب عنه كل يوم اثنين

إذ لما مات أبو لهب رآه بعضُ أهله بِشرِّ خيبة. فقال له: «ماذا لقيت؟» فقال أبو لهب: «لم ألقَ بعدكم خيرًا، غير أني سُقيتُ في هذه بِعَتَاقتي ثويبة» وأشار إلى النُّقْرَة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع

وذكر السهيلي وغيره: إن الرائي له هو أخوه العباس. وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة بدر، وفيه أن أبا لهب قال للعباس: إنه ليُخفَّف عليَّ في مثل يوم الاثنين

وقال ابن الجزري

«فإذا كان هذا أبو لهب الكافر، الذي نزل القرآن بذمِّه جُوزِي في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم به، فما حال المسلم الموحد من أمته عليهالصلاة والسلام الذي يُسَرُّ بمولده، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم، لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم

ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه السّلام، ويعملون الولائم، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم

ومما جرب من خواصه أنه أمان في ذلك العام، وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام

فعلى المؤمنين المحبِّين لنبيهم الكريم في شهر ولادته صلى الله عليه وسلم أن يحيوا قلوبهم بحضور الصُحَب والمجالس المعنوية، وأن يفتحوا موائدهم لأمة الإسلام حبًّا لنبيهم الكريم كي يستفيدوا من روحانية هذا الشهر المبارك، وأن يُدخِلوا السرور في القلوب الحزينة المُغتمَّة، وذلك بفعل الخيرات، وإعطاء الصدقات، والإحسان للفقراء والضعفاء واليتامى والمساكين، وتلاوة القرآن عليهم واستماعه منهم

تُوفي عبد الله أبو النبي قبل ولادته صلى الله عليه وسلم بشهرين بعد أن مرِضَ في المدينة وهو راجع من رحلته التجارية إلى الشام

وبقي هذا الرضيع المبارك مع مرضعته حليمة السعدية في البادية حتى بلغ الرابعة من عمره، فقد كان من عادة العرب آنذاك إرسال أولادهم إلى البادية، إذ كانت معروفة بطيب هوائها و وصفاء جوها وعذوبة مائها وسلامة لغتها

ولمَّا بلغَ نور الوجود صلى الله عليه وسلم السادسةَ من عمره، أخذته أمه آمنة مع حاضنته أم أيمن إلى يثرب «المدينة المنورة» لزيارة قبر أبيه عبد الله. فمرضت السيدة آمنة في سفرها، وتوفيَّت في الأبواء بين مكة والمدينة ودُفِنت هنالك فصار النبي صلى الله عليه وسلم يتيم الأمِّ والأب

يقول الشاعر معبِّرًا عن هذي الحال

يا راقدًا بالأبواء طابَ ثراك

فأجمل وردة تفتحت في بستانك

 ثم رجع  مع حاضنته أم أيمن إلى مكة، ليعيش  في رعاية جده. ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الثامنة من عمره تُوفيَّ جدُّه عبد المطلب. فتولى أمرَه عمُّه أبو طالب، وحمَاه من كل مكروه حتى كبر وتزوج وأُوحِيَ إليه. غير أنَّ أبا طالب ما لبث أن توفي لما بدأ نبينا عليه الصلاة والسلام بمهمة الرسالة، وكان آنذاك في أشد الأوقات حاجةً للحماية من المشركين. فلم يبقَ له عون ولانصير سوى الله تعالى الذي كان سنده وحاميه ومؤدِّبه

وإن أمعنَّا النظر في حياته صلى الله عليه وسلم، سنجد أن الحكمة من وراء حاجته إلى نصرة البشر في أصعب أوقاته أن يكون أسوةً للناس في الأحوال والظروف كلها

لقد كانت طفولة النبي اليتيمة وشبابه الذي اتصف فيه بالنزاهة وحسن الأخلاق يبشِّران بمستقبل نبي عظيم يُقيم أمة عظيمة


نفحات الرّحمة

الحمد لله سبحانه وتعالى الذي أكرمنا نحن- عباده الضعفاء العاجزين- بطمأنينة الإيمان وسعادته وسكينته

والصلاة والسلام على أشرف مخلوقاته الذي به ختمَ أنبياءه وأخرجَ المؤمنين من ظلام الجهل والكفر والخسران، ليشرِّفهم بنور العلم والإيمان والعرفان

أما بعد، فإننا لم نشرع لعرض مقتطفات من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم العطِرة في حدود سطور هذا الكتاب إلا لنقدِّم للأفئدة التي تعاني من الضيق والتعب والعجز وقلة الحيلة، إشراقاتٍ من روحانيته عليه الصلاة والسلام في هذه الأيام التي صار أكثر الناس فيها ينقادون للأمور المادية ويحيون تحت نير الرغبات النفسانية. ولعلنا بذلك نحظى بنصيبٍ من فضائل هذا النبي الكريم الذي «يصليِّ ويسلِّم» عليه رب العالمين مع ملائكته أجمعين، والذي كان ينقاد إليه الشجر ويُسلِّم عليه الحجر

ومن أسرار «المحبة» التي هي علة وجود الكون أن يكون حال المُحِبِّ كحال المحبوب. وما ينتج عن المحبة يكون على حسب شأن المحبوب مهما كانت طاقة المُحبُّ وقدرته

إن البشرَ كلهم محتاجون لشفاعة حبيب الله عليه الصلاة والسلام. وإنه لمِنَ المحال أن يُدرِك الإنسان قَدْرَه عليه الصلاة والسلام إدراكًا كاملًا بهذه الكلمات التي يفهمها عقله. فعندما يكون الحديث عنه عليه الصلاة والسلام تجفُّ الأقلام وينفد المِداد وتتبعثر الحروف. وعندما تقف الألسنة- كل الألسنة- عاجزةً عجزًا مطلقًا عن تصوير سيرته الحسنة، فإن الكلمات وإن انعكست من أفئدتنا على ألسنتنا فإنها ليست إلا غيضًا من فيض. ومع ذلك كله، فإن كل شيء أو سلوك يذكِّر به، يبقى تجليًا وإلهامًا وبارقةً لا يماثل غيره. وما تجليات قدرة الله تعالى في هذا الكون البديع إلا لمعة وومضة من نوره عليه الصلاة والسلام

ولقد سعينا في هذا الكتاب الذي نضعه بين أيديكم إلى عرض لمحات من حياة سيدنا ومرشدنا وهادينا إلى النجاة محمد عليه الصلاة والسلام، وبعضٍ من معجزات القرآن الكريم التي ستنير القلوب حتى اليوم الموعود، وتُثبِت أنه الكتاب الحق من عند بارئ الخلق. والقرآن الكريم الذي ينير القلوب المؤمنة بالحكمة والحقائق ويحث على التفكر والتدبر إنما هو معجزة إلهية تُجبِر العلوم كلها بما تحويها من اكتشافات على تأييدها وتصديقها حتى قيام الساعة. وقد ذكرنا في هذا الكتاب بعضًا من الحِكم التي أشارت إليها الآيات الكريمة على ضوء الاكتشافات الأخيرة في عصرنا

وهنا لا بد من أن نتوجه بالشكر للأستاذ د. مراد كايا وطلابنا الذين كانوا عونًا وسندًا لنا في تأليف هذا الكتاب، وندعو الله سبحانه وتعالى أن تكون جهودهم الخالصة صدقة جارية في ميزان أعمالهم

قرَّاءنا الأعزَّاء

إن معجزاء الأنبياء السابقين والأصول التي جاؤوا بها لأممهم لم يبقَ منها إلا القليل في أيامنا هذه. أما معجزة القرآن فمعجزةٌ ستدوم حتى قيام الساعة لُطفًا استثنائيًّا لأمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الميمونة

ويُذكِّرنا هذا الكرم الإلهي بأهمية عبوديتنا لله تعالى وبعِظَم النعمة التي ننعم بها

وإننا ندعو الله تعالى- باحترامنا للقرآن الكريم وتقديسه- أن يجعل هذه الأمانة العظيمة ربيع قلوبنا التي هي منبع أحاسيسنا، وبلسمًا لأرواحنا، ووسيلةً للنجاة في الدنيا والآخرة

والبذرة- مهما كان نوعها- لا تنمو ولا تكبر إلا إن وُضِعَت في التربة الصالحة. وإن لم يكن أثرُ «نسائم الرحمة» التي هبَّت من قلوبنا بقدر إدراكنا لحقائق النبوة أثرًا قويًّا، فذلك لهفوةٍ أو عيب فينا. غير أننا ندعو الله سبحانه وتعالى أن يجعل صفحات هذا الكتاب، الذي كتبناه ليكون وسيلةً لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، براعمَ هداية لقلوبنا ومنبعًا للفيوضات والروحانيات، وإن لم يخلُ من عيوب وأخطاء

وما أعظم سعادة المؤمنين! فأفئدتهم المليئة بالمحبة معلقةٌ بالله ورسوله، وتلكم المحبة عندهم أسمى من كل محبة دنيوية

فلنعزِّز من رابطتنا به عليه الصلاة والسلام ونرسخها بالصلاة والسلام عليه! فإننا محتاجون إلى توسله وشفاعته في يوم عصيب قمطرير

اللهم أكرمنا بروحانيات نبينا صلى الله عليه وسلم الهادي إلى الصراط المستقيم واجعلها كنسائم تحيي أفئدتنا! واجعل محبتك ومحبة نبيِّك في قلوبنا إلى أبد الآبدين! ولا تحرمنا من شفاعة رسولك العظمى يا أرحم الراحمين

آمين