مكانة نبي الرحمة بين الأنبياء

ذكرنا فيما سبق أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بدأت بتجلٍّ إلهي قبل خلق آدم وذريَّته. فقد كان "النورُ المحمدي" أولَّ مخلوق

فنورُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر قبل سيدنا آدم عليه السلام، وكان صلى الله عليه وسلم خاتمَ الأنبياء بجسده؛ أي إنه يمثِّل الصفحة الأولى والأخيرة من كتاب النبوة؛ وبعبارة أخرى بدأت رسالة النبوة بالنور المحمدي، وانتهت بالجسد المحمدي، وبهذا يكون النبي محمد صلى الله عليه وسلم النبي الخاتم زمنًا، والأول خَلقًا. ويمكننا هنا أن نقول أن

آدم عليه السلام الذي سجد له الملائكة كلهم أجمعون

وإدريس عليه السلام الذي حمل أسرار السماوات

ونوح عليه السلام الذي طهَّر الأرض من الكفر بعد الطوفان

وهود عليه السلام نبي قوم عاد الذين أُهلِكوا بريح صرر عاتية

وصالح عليه السلام نبي قوم ثمود الذين زُلزِلُوا زلزالًا شديدًا لطغيانهم فأصبحوا نادمين

وإبراهيم عليه السلام الذي صارت له نيران نمرود -حينما أُلقِيَ فيها- جنة بتوكله وتسليمه

وإسماعيل عليه السلام الذي غدا رمز الإخلاص والصدق والتوكل والتسليم، والذي سيظل المؤمنون يذكرون قصَّته أثناء الحج حتى قيام الساعة

وإسحاق عليه السلام الذي جاء من نسله أنبياء بني إسرائيل

ولوط عليه السلام النبي المبعوث لقوم سدوم وعمورة الذين خسفَ الله سبحانه وتعالى بهم الأرض لطغيانهم وسوء أخلاقهم، فلم يبقَ لهم ذكر في التاريخ

وذو القرنين عليه السلام الذي حمل لواء التوحيد من المشرق إلى المغرب

ويعقوب عليه السلام الصابر الذي اكتوى بنار المحبة والشوق

ويوسف عليه السلام الذي عاش في الرِّقِّ مدة، ثم ذاق في السجن طعمَ الوحدة والغربة والعناء والمشقة ومجاهدة النفس، ثم صار سلطان مصر، وهو سلطان القلوب بجماله الذي فاق جمال البدر في الليلة الظلماء

وشعيب عليه السلام الذي سُمِّي «خطيبَ الأنبياء» لخطاباته التي كانت تأجِّج في الأفئدة الوجد والمحبة

والخضر عليه السلام الذي علَّم سيدنا موسى الأسرار الإلهية

وموسى عليه السلام الذي قضى على سلطان فرعون، وشق البحر الأحمر بعصاه

وهارون عليه السلام أخو موسى عليه السلام الذي كان عونه وسنده كل زمان ومكان

وداود عليه السلام الذي سخَّر الله له الجبال والطير

وسليمان عليه السلام الذي أبقى مُلكَه العظيم خارج قلبه

وعُزير عليه السلام الذي أماته الله مئة عام ثم أحياه، فكان برهانًا جليًّا على البعث يوم القيامة

وأيوب عليه السلام الذي صار بتفكره وتأمله رمز الصبر

ويونس عليه السلام الذي تجاوز الظلمات بتدبره في حقيقة الاستغفار والدعاء والذكر في حال وجد عظيم

وإلياس عليه السلام الذي أثنى عليه الله تعالى حين قال: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ}

وإليسع عليه السلام رسولًا من عند رب العالمين

وذا الكفل عليه السلام النبي الصالح الذي تنزَّلت عليه رحمات الله تعالى

ولقمان عليه السلام المشهور بنصائحه الحكيمة، وأحكم الحكماء ظاهرًا وباطنًا

وزكريا عليه السلام النبي المظلوم الذي لم يفارق التوكلَ والتسليم، ولم يقل "آه" حتى حين نُشِرَ بالمنشار

ويحيى عليه السلام الذي ختم حياته بالشهادة مثل أبيه

وعيسى عليه السلام النبي المرفوع، المزكيِّ نفسَه، والشافي المرضى، والمحيي الموتى بالتجائه وتضرعه إلى ربه جلَّ وعلا

وما يقرب من مئة وعشرين ألف نبي وتجليات القدرة الإلهية كلها التي ظهرت منهم، كلها كأنها سُحُب نيسان المباركة أُشبِعَت إلى أقصى درجة، ثم أفرغت حملها قسرًا على تراب أفئدة البشر. وسلسلة الأنبياء التي هي وسيلةُ هداية مباركة، كانت كل واحدة من حلقاتها بشارة لظهور النبي المبعوث رحمة للعالمين محمد المصطفى الأمين عليه وعلى سائر الأنبياء الصلاة والتسليم

ويروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال

خلق الله تعالى له «أي لآدم» حواءَ زوجته من ضلع من أضلاعه اليسرى، وهو نائم، وسُمِّيَت حواء لأنها خلقت من حي، فلما استيقظ ورآها سكن إليها، فقالت الملائكة: مَهٍ يا آدم

قال: ولمَ وقد خلقها الله لي؟

فقالوا: حتى تؤدي مهرها

قال: وما مهرها؟

قالوا: تصلي على محمد صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات

فصار للنكاح شأنٌ وقيمة بالصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وامتلأ بتجليات الرحمة والبركة والفيوضات

*

ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال

«لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لِمَا غفرت لي، فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه؟ قال: يا رب، لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحبَّ الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، ادْعُني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك»

*

إن حياة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم مليئة بالتجليات العظمى التي لم ينلها قبله نبي من الأنبياء، وله صلى الله عليه وسلم مكانةٌ وشرفٌ عظيمٌ لم يبلغه نبيٌ قبله؛ فمهمة الأنبياء كلهم عدا نبينا الكريم محدودة في زمان ومكان، لذلك لم يبلغنا سلوكهم ومعاملاتهم وأحوالهم بتفصيل دقيق. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أُمِر بإرشاد الناس كافة، فهو حجَّةٌ عليهم أجمعين من بعثته حتى قيام الساعة، لذلك نعلم اليوم أحداث حياته كلها بأدق تفاصيلها وفروعها بروايات صحيحة، وكذلك سيبقى حتى النفخ في الصور؛ وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون صلى الله عليه وسلم «الأسوةَ الحسنة» للناس أجمعين في «آخر الزمان»

لقد جاء سيدنا موسى عليه السلام بمجموعة من الأحكام الشرعية، وعُرِف سيدنا داود عليه السلام بدعائه ومناجاته الله سبحانه وتعالى، وأُرسِل سيدنا عيسى عليه السلام ليعلِّم الناس مكارم الأخلاق والزهد في الحياة، أما سيدنا محمد نبي الإسلام فقد جاء بما جاء به الأنبياء كلهم؛ إذ شرَّع الأحكام، وعلَّم تزكية النفس والدعاء لله بقلب صافٍ، وأمرَ بأحسن الأخلاق، وصار قدوة للناس بعيشه، وأوصى بعدم بالاغترار بزينة الحياة الدنيا الفانية. وصفوة الكلام أنه اجتمعت فيه مهام الأنبياء كلهم وصلاحياتهم، وفيه التقت أصالة النسب والأدب، وسعادة الجمال والكمال

ولم يُقسِم الله تعالى في كتابه العزيز بأي نبي من أنبيائه إلا بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال في سورة الحجر في الآية الثانية والسبعين: {لَعَمْرُكَ}

ويقول الشاعر الصوفي الشيخ غالب في بيان هذه الحقيقة

أنت سلطان الرُسُل، والشاه الممجدُ يا سيدي

وأنت بلسمٌ للعاجزين يا سيدي

وأنت الحامي لأمتك يوم الحشر يا سيدي

وأنت المؤيَّد بالقسم الإلهي: "لعمرك" يا سيدي

وأنت أحمد ومحمود ومحمد يا سيدي

وأنت السلطان المؤيَّد من الحق يا سيدي

ومما يميِّز نبيَّنا الأكرم صلى الله عليه وسلم عن غيره من الأنبياء أن الله سبحانه وتعالى قد خاطب الأنبياء في القرآن الكريم بأسمائهم فقال

«يا آدم، يَا نوح، يَا إبراهيم، يا موسى، يا داوود، يا عيسى، يا زكريا، يا يحيى»

لكنه لم يخاطب نبيَّنا صلى الله عليه وسلم باسمه، بل بصفة من صفاته، فقال

«يا أيها النبي، يا أيها الرسول، يا أيها المزمل، يا أيها المدثر».ويقول الله سبحانه وتعالى في هذا الشأن

{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}

يقول ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية الكريمة

«كانوا يقولون: "يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عن ذلك إعظامًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: "يا نبي الله، يا رسول الله»

فهذا يعني أن خطاب ربنا لنبيه بصفته لا باسمه تعليمٌ للأدب والاحترام الواجب أمامه صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه وتعالى بذلك يرسم قاعدة عامة في هذا الأمر

وقد خصَّ الله سبحانه وتعالى نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بصفة الحبيب

ودليل آخر على علو شأنه وتميُّزه بين الأنبياء أنه أَمَّ الأنبياء كلهم في المسجد الأقصى في حادثة الإسراء والمعراج

والمعراج لم يكن إلا له صلى الله عليه وسلم، والسِّرُّ في قول الله تعالى لموسى: {...لَنْ تَرَانِي...} تجلَّى في حادثة المعراج على صورة: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}

وقد أكرمَ الله سبحانه وتعالى أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم في حادثة المعراج بنعمة عظيمة، ألا وهي عبادة الصلاة التي هي أعظم ما يقرِّب العبد من ربه

وينبِّه الشاعر كمال أديب كوركشو أوغلو المؤمنين الغافلين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تجمع كل الفضائل والمحاسن فيقول

«واأسفاه على الغافل البعيد عن ثناء رسول الله، فذلك يكفيه خسرانًا في الدارَين»

فلا يمكن إدراك حقيقة القرآن والسنة إلا بالتأسي بأخلاق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وتقليده في أحواله وحركاته وسكناته

اللهم اجعلنا أمةً صادقةً تتحد بمحبته صلى الله عليه وسلم، فهو منبع الرحمة والرأفة الذي لا ينضب

والصلاة والسلام دائمًا وأبدًا على المبعوث رحمة للعالمين! فإننا المحتاجون إلى توسله وشفاعته يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون