مولد سيد الكونَين محمد صلى الله عليه وسلم

الصلاة والسلام على سيد الكونَين محمد المصطفى

الصلاة والسلام على رسول الثقلَين محمد المصطفى

الصلاة والسلام على إمام الحرمَين محمد المصطفى

الصلاة والسلام على جدِّ الحسنَين محمد المصطفى

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه وبارك وسلِّم

*

لقد عمَّت رحمة الله تعالى الكونَ كله وشملت أرجاءَه، وكان أكملُ أثرٍ من آثار هذه الرحمة الربَّانية ذلك المخلوق الإنسان؛ الإنسانُ الذي أعلَى ربُّ العالمين مقامَه بين مخلوقاته، ووضعَ فيه صفات تؤهله لذلك المقام السامي والشرف الرفيع

فمن هذه الصفات العقل والإدراك والفهم، غير أن هذه الصفات أو الألطاف الإلهية لا تؤهل وحدها الإنسان ليفهم الحقائق السامية واليقينيات الكونية فهمًا تامًّا كما أراد الخالق سبحانه وتعالى. لذلك أنعمَ الله سبحانه وتعالى على الناس- إلى جانب نعمه الأخرى- بنعمة كبرى؛ ألا وهي نعمة  «إرسال الأنبياءِ والرسل» فكانوا خير عون وسند للناس في طريق «الوصول إلى مرضاة الله». وأتمَّ عونه لهم بـ  «النور المحمدي»  المخلوق أولًا، والمُرسَل إلى البشر آخرًا، المتجلي في هذه الدنيا بنبيِّ آخر الزمان، وخاتم الأنبياء والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أجمعين

لقد شرَّف خيرُ الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هذه الدنيا قبل طلوع شمس يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول الموافق للعشرين من نيسان عام 571 للميلاد

إن نوره صلى الله عليه وسلم -بلا ريب- أول مخلوق، والمخلوقات كلها تشرفت وأُكرمت بذلك النور المحمدي

وقد تنزَّلت رحمات الله جلَّ في علاه على هذا الكون يوم وُلِد نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم. فلم يكن  يوما كسائر الأيام؛ إذ الأحوال تبدَّلت، والنفوس طابت، والمشاعر ترقَّت، والأفئدة بالفيوضات والبركات امتلأت. و الأرض تغيرت ؛ فقد تكسَّرت الأصنام، وغاضت بحيرة ساوة، وتصدع  إيوان كسرى، وخمدت نار فارس

فكانت تلك التجليات في الزمان والمكان أولى بركات ظهور خاتم الأنبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم

وتذكر لنا المراجع أن من مرضعات رسول الله صلى الله عليه وسلم ثويبة الأسلمية التي كانت جارية عمه أبي لهب ألدِّ أعدائه

فلمَّا بَشَّرت ثويبةُ أبا لهب بولادة ابن أخيه أعتقها فرحا بمولد ابن أخيه، فكان سروره هذا كافيًا لتخفيف العذاب عنه كل يوم اثنين

إذ لما مات أبو لهب رآه بعضُ أهله بِشرِّ خيبة. فقال له: «ماذا لقيت؟» فقال أبو لهب: «لم ألقَ بعدكم خيرًا، غير أني سُقيتُ في هذه بِعَتَاقتي ثويبة» وأشار إلى النُّقْرَة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع

وذكر السهيلي وغيره: إن الرائي له هو أخوه العباس. وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة بدر، وفيه أن أبا لهب قال للعباس: إنه ليُخفَّف عليَّ في مثل يوم الاثنين

وقال ابن الجزري

«فإذا كان هذا أبو لهب الكافر، الذي نزل القرآن بذمِّه جُوزِي في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم به، فما حال المسلم الموحد من أمته عليهالصلاة والسلام الذي يُسَرُّ بمولده، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم، لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم

ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه السّلام، ويعملون الولائم، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم

ومما جرب من خواصه أنه أمان في ذلك العام، وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام

فعلى المؤمنين المحبِّين لنبيهم الكريم في شهر ولادته صلى الله عليه وسلم أن يحيوا قلوبهم بحضور الصُحَب والمجالس المعنوية، وأن يفتحوا موائدهم لأمة الإسلام حبًّا لنبيهم الكريم كي يستفيدوا من روحانية هذا الشهر المبارك، وأن يُدخِلوا السرور في القلوب الحزينة المُغتمَّة، وذلك بفعل الخيرات، وإعطاء الصدقات، والإحسان للفقراء والضعفاء واليتامى والمساكين، وتلاوة القرآن عليهم واستماعه منهم

تُوفي عبد الله أبو النبي قبل ولادته صلى الله عليه وسلم بشهرين بعد أن مرِضَ في المدينة وهو راجع من رحلته التجارية إلى الشام

وبقي هذا الرضيع المبارك مع مرضعته حليمة السعدية في البادية حتى بلغ الرابعة من عمره، فقد كان من عادة العرب آنذاك إرسال أولادهم إلى البادية، إذ كانت معروفة بطيب هوائها و وصفاء جوها وعذوبة مائها وسلامة لغتها

ولمَّا بلغَ نور الوجود صلى الله عليه وسلم السادسةَ من عمره، أخذته أمه آمنة مع حاضنته أم أيمن إلى يثرب «المدينة المنورة» لزيارة قبر أبيه عبد الله. فمرضت السيدة آمنة في سفرها، وتوفيَّت في الأبواء بين مكة والمدينة ودُفِنت هنالك فصار النبي صلى الله عليه وسلم يتيم الأمِّ والأب

يقول الشاعر معبِّرًا عن هذي الحال

يا راقدًا بالأبواء طابَ ثراك

فأجمل وردة تفتحت في بستانك

 ثم رجع  مع حاضنته أم أيمن إلى مكة، ليعيش  في رعاية جده. ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الثامنة من عمره تُوفيَّ جدُّه عبد المطلب. فتولى أمرَه عمُّه أبو طالب، وحمَاه من كل مكروه حتى كبر وتزوج وأُوحِيَ إليه. غير أنَّ أبا طالب ما لبث أن توفي لما بدأ نبينا عليه الصلاة والسلام بمهمة الرسالة، وكان آنذاك في أشد الأوقات حاجةً للحماية من المشركين. فلم يبقَ له عون ولانصير سوى الله تعالى الذي كان سنده وحاميه ومؤدِّبه

وإن أمعنَّا النظر في حياته صلى الله عليه وسلم، سنجد أن الحكمة من وراء حاجته إلى نصرة البشر في أصعب أوقاته أن يكون أسوةً للناس في الأحوال والظروف كلها

لقد كانت طفولة النبي اليتيمة وشبابه الذي اتصف فيه بالنزاهة وحسن الأخلاق يبشِّران بمستقبل نبي عظيم يُقيم أمة عظيمة