الاستغفار والدعاء

(قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) (الفرقان، 77)

إذا كان دوام اللجوء إلى الله تعالى هو حال الأنبياء والأولياء والصلحاء، فما بالنا بحال أصحاب الذنوب والخطايا والأهواء؛ إنهم أشد احتياجًا للأوبة إلى كنف الله تعالى واستغفاره والتضرع إليه، ولا يُتصوَّر أن عبدًا مهما بلغ يمكنه تحمل البعد عن الجناب الكريم، وكأنه كوكب يدور حول شمسه، فإذا انفلت من جاذبيتها ضل في التيه وتخبط في الفضاء حتى يبتلعه نجم أسود، فيظل إلى يوم القيامة يتخبط في أعماق الفناء

لا يستغني امرؤ عن الدعاء والاستغفار مهما كان نبيًا أو وليًا صالحا، فلا ينجو بشر من زلل، ولا يسلم آدميٌ من خلل، والذي يمكنه محو آثار كل زلل وإصلاح كل خلل إنما هو الدعاء والاستغفار، الذي يُقرِّب العبد من ربه مجددًا، لأنه في حقيقته هو الالتجاء والندم

كما أن كلمة «الصلاة» في اللغة العربية تعني «الدعاء»، ولعل الحكمة من ذلك أن الصلاة هي أشمل وأكمل أشكال الدعاء والالتجاء إلى الله سبحانه

كما أن الدعاء يبدأ بالاستغفار وطلب العفو من الله عزَّ وجل، والتبرؤ إليه سبحانه من كل الذنوب والخطايا، فعلى قدر عزم العبد على ترك الذنب، وعلى قدر شعور العبد بالندم على الذنب، يكون زوال أثر ذلك الذنب من صفحة القلب، ويكون مقدار صفائه وجلائه من جديد، فيصير حينها كالمرآة الصافية التي تنعكس عليها الحقيقة بكل وضوح وجلاء، وحينها يصير مؤهلًا لاستقبال الفيوضات والتجليات النورانية

والحديث الشريف التالي ينبِّه الناس ويرشدهم إلى ضرورة تصفية القلوب، ويبيِّن أن القلوب التي أظلمت بالذنوب لا يُنيرها شيء كالاستغفار

«إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت في قلبه نكتةٌ سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سُقل قلبه، وإن عاد زيدَ فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)» (الترمذي، التفسير، 83)

والخطوة الأولى في التقرب إلى الله تعالى هو الاستغفار، لأنه إعلان عن عجز العبد، وتبرئه من حَوله وطَوله، وخروجه عن قوته وإرادته، وإعلانه اللجوء إلى الله تعالى، والاستسلام التام له سبحانه، وهو وسيلة استجلاب رحمات الله تعالى، والنجاة من ابتلاءاته وامتحاناته، وهو المجنُّ الذي يصد سهام القضاء، والدرع الذي يقي من نصال البلاء؛ لذا كان الاستغفار مقدمًا على الشكر، وكان الاستغفار هو البداية الصوفية للدروس المعنوية مهما تعددت الوسائل التربوية والطرق الصوفية

وليس أبلغ من آيات الله وقرآنه العظيم في بيان أهمية الدعاء؛ يقول الله عزَّ وجل

(قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) (الفرقان، 77)

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة، 186)

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف، 55)

كما تبين الأحاديث النبوية الشريفة أيضًا أهمية الدعاء وعظيم أثره، فيقول المصطفى صلى الله عليه وسلم

«ليس شيءٌ أكرم على الله تعالى من الدعاء» (الترمذي، الدعوات، 1)

«منْ سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء» (الترمذي، الدعوات، 9)

«منْ فُتح له منكم باب الدعاء فُتحت له أبواب الرحمة» (الترمذي، الدعوات، 101)

«ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه» (الترمذي، الدعوات، 65)

وللدعاء آدابه وشروطه التي نتعلمها من الأحاديث النبوية السابقة؛ لعل أبرزها حضور القلب، والشعور بجلال الموقف وهيبة المدعو وقدرته، كما أن التوسل بالضعفاء والفقراء والصلحاء من أسباب الإجابة، فلعلهم هم الأولى برحمات الله تعالى وتنزلات قدرته، فذلك النبي صلى الله عليه وسلم يطلب من الله العون والنصر متوسلاً بفقراء المهاجرين، يقول صلى الله عليه وسلم

«ابغوني الضعفاء، فإنما تُرزقون وتُنصرون بضعفائكم»

وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم أثناء ذهابهم إلى الجهاد يطلبون دعاء أصحاب الصُّفَّة بالنصر إضافةً إلى أدعيتهم

ويقول الإمام الرباني -قدس الله سره- في هذا الشأن

«إن الفتح والنصر على قسمين: ظاهر وباطن، أما ظاهر النصر وصورته فهو ما ارتبط بالأسباب وكان متعلقًا بالعدة والعتاد، معتدًا بكتائب العسكر والسلاح، وأما الباطن أو حقيقة الفتح والنصر، فهو ما كان معتدًا بكتائب الدعاء، متسلحًا بعتاد الضعف بين يدي الله تعالى، وسلاح الانكسار لجلاله، حينها يكون أقوى العدتين؛ بل تصير كتائب الدعاء هي الروح والقلب لكتائب العسكر، فلا تمنح النصرة من الله إلا لقلوب تستحق التأييد الإلهي»

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم

«ما دعوة أسرع إجابة من دعوة غائب لغائب» (الترمذي، البر، 50)

أي إن من أهم أسباب الإجابة للدعاء، ورفعه إلى السماء، وتحققه في القضاء، هو أن يدعو الإنسان لأخيه بظهر الغيب؛ لأن الغياب بعيد عن التملق والتصنع، وهو دليل على الإخلاص والصدق، وليس أضمن لقبول الدعاء عند الله من هذين الشرطين: الإخلاص، والصدق، إضافة إلى قبول الداعي عند الله عزَّ وجل

وثمة مسألة في أسباب قبول الدعاء قد تلتبس على المرء، فيتساءل بعضهم هل يلزم أن تجتمع كل الأسباب والشرائط لتتم الإجابة، بحيث إذا فُقد شرط امتنعت الإجابة؟

لا ريب في أنَّ تحقق كل الشروط، واجتماع كل الأسباب هو أبلغ وآكد في الإجابة، لكن فقدان شرطٍ لا يعني فقدان الإجابة، فإذا دعا العبدُ المذنبُ لأخيه بظهر الغيب مخلصًا تقبل الله دعوته، لأن ذنبه على نفسه، وحري بالله الكريم ألا يتركه ويتحاشاه لفقد معظم الأسباب، فربُّ الأسباب سبحانه يتقبل حتى من عباده العصاة أقل الأسباب؛ ولعل أن يكون في ذلك خطوة يقترب بها العبد من باب مولاه

وسأل الصحابة الكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم

أي الدعاء أسمع؟ قال

«جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات» (الترمذي، الدعوات، 78)

فإذا سبق الاستغفارُ الدعاءَ وصاحبه الندم، وقارن العزم على ترك الذنب حرارة الدعاء، وخرج ذلك كلُّه من أتون قلبٍ متَّقدٍ بالتفكر في معاني الدعاء وألفاظ الرجاء، كان ذلك أحرى بالقبول وأجدر بالوصول

وثمة بريدٌ أسرع ورسول أبلغ في إيصال الدعاء، إنه العمل الصالح، وهي حقيقة قررتها آيات القرآن الكريم؛ إذ يقول الحق تبارك وتعالى

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر، 10)

فإذا جمعت الخوف إلى الدعاء، ثم قرنت مع الخوف الرجاء، وأتبعت ذلك بالاستغفار، وصَدَر ذلك كله عن قلب منكسر وطرف باكٍ، كان ذلك الدعاء أبلغ وأسمع

ويقول مولانا جلال الدين -قدس الله سره- في موضوع التخلص من أمراض القلب وقَبول الدعاء

«تُب إلى الله، وادْعُ بفؤاد منكسر وعين ندية، فالزهور تتفتح في الأماكن المشمسة الرطبة!»

وأول منْ بدأ التوبة هو سيدنا آدم عليه السلام أول الأنبياء وأمُّنا حواء حين ابتهلا إلى الله تعالى

(قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف، 23)

وغدا هذا الدعاء مثالًا تدعو به ذريتهما من بعدهما إلى قيام الساعة

ويدعو الله تعالى عباده إلى التوبة كي ينبِّههم من غفلة القلوب ويشفيهم من الأمراض المعنوية، فيقول عز منْ قائل

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (التحريم، 8)

فإذا كانت الآية الكريمة تطلب التوبة النصوح من الذين آمنوا، فمعنى ذلك أن العباد مهما علت درجاتهم وبلغت منازلهم مُعرَّضون لخطر المعصية، فالقلوب أشدُّ تقلبًا من القِدر حين تغلي، والعبد ليس في عصمة عن شراك المعصية، وحبائل الشيطان

ولهذا كله يُعلِّم ربنا تبارك وتعالى العبادَ الدعاء التالي

(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران، 8)

وقد جعل نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم هذا التعليم الإلهي وِرداً له، فكان دائماً ما يردِّد

«يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك» (الترمذي، القدر، 7)

ويقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً

«من لزم الاستغفار، جعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب»

ويقول: «أنزل الله عليَّ أمانَين لأمتي (وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» (الترمذي، التفسير، 8/3082)

والدعاء والاستغفار من أهم الوسائل في تطهير القلوب، وتشير الآية الكريمة الآتية إلى أهمية الدعاء في تطهيرها من الأدران المعنوية

(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر، 10)

ذلك التطهير المطلوب من أدران القلوب، يبدأ أولاً بالتخلص من السلبيات والآفات وكافة المثبطات التي تعيق عن بلوغ الهدف، ثم إعداد القلب وتجهيزه وتدريبه ليبدأ عمله الضروري، ويسير في طريقه الفطري ليبلغ هدفه الأساسي

وقدوتنا في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو الله تعالى، ويلجأ إليه سبحانه في التخلص من هذه السلبيات والآفات، يقول صلى الله عليه وسلم

«اللَّهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستجاب لها» (مسلم، الذكر، 73)

«اللَّهم اغسل عنِّي خطاياي بماء الثلج والبرد، ونقِّ قلبي من الخطايا كما نقَّيت الثوب الأبيض من الدنس» (البخاري، الدعوات، 39)

ولا يتحقق الوصول إلى درجة القلب السليم إلا بألطاف من الله عزَّ وجل، وهذا ما أقر به أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام، نتبين ذلك من دعائه القرآني القائل

(وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ. يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء، 87-89)

وكان النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم يلتجئ إلى ربه ويبتهل إليه كما كان يفعل سيدنا إبراهيم عليه السلام، فكان من دعائه

«وأسألك لسانًا صادقًا، وقلبًا سليمًا» (الترمذي، الدعوات، 23)

ومن الأمور المهمة في الدعاء أيضًا الإلحاح؛ والتكرار والثبات في الدعاء من سُنن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يُظهر مدى الفاقة والتذلل لله عزَّ وجل، أما الثبات فيعني التمسك بالأمل في الإجابة، واليقين بأن الله تعالى يرى لعباده ما هو أصلح لشأنهم، فإذا ما استوثقت من شروط الإجابة، فتيقن من القبول، ولا تظهر الفتور، ولا تستبطئ الاستجابة، فربما أخَّر الله تعالى دعوتك إلى حينٍ معلوم، أو بدَّلها لقدر محتوم، أو عوضك عنها يوم القيامة بأجر عظيم