التصوف - 1

لا بد للوصول إلى مرتبة "الإنسان الكامل" التي يهدف إليها الإسلام من فهم الحياة الدينية وتطبيقها وعيشها بشكل تتكامل فيه المادة والمعنى، والظاهر والباطن، وينسجم فيه العقل والقلب، ويتلاقى فيه الشكل والروح

إن التصوف الحقيقي هو بذل الجهد لفهم الإسلام من حيث الباطن إضافة إلى ظاهره، وتطبيقه على أرض الواقع. وهذا يتطلب  إدراك الإسلام وفهمه ضمن كلية "الشريعة، والطريقة، والحقيقة، والمعرفة". ونعبر عن ذلك بمثال نموذجي

ففي الشريعة الأكل بعد الشبع إسراف

وفي الطريقة الأكل حتى الشبع إسراف

وفي الحقيقة الأكل بمقدار الكفاية بغفلة عن الله إسراف

 وفي المعرفة بالإضافة إلى كل ما تقدم، فإن الأكل دون التفكر بالقدرة الإلهية وتجليات أسمائه في النعم إسراف. إذ إن كل كائن مخلوق بمثابة دليل على عظمة وقدرة الخالق اللامتناهية

كان حضرة الشاه نقشبند الذي يعد أحد كبار الأولياء يقوم بنفسه في كثير من الأحيان بأعمال طهي الطعام وإعداد المائدة. وكان على الدوام يوصي تلامذته بالتيقظ قلبياً أثناء إعداد الطعام وتناوله ، وعدم الوقوع في الغفلة ولو للحظة واحدة. وكان عندما يتناول الطعام مع مريديه ويرى أحدهم يتناول لقمة بغفلة ينبهه في الحال بأسلوب لين ولطيف، فلم يكن قلبه ليرضى بتناول الطعام بغفلة عن الله ولو كانت لقمة واحدة

إن تناول الطعام ليس عبادة من حيث الظاهر. إلا أن كل لقمة يتم تناولها مع ذكر الله تصبح وسيلة للفيض والخشوع في العبادات. وأما اللقيمات التي يتم تناولها بغفلة عن الله تعالى فتكسب القلب القسوة، والغفلة، والتثاقل

إن هذه  الحساسيات الإسلامية التي بيناها من خلال مثال "الطعام" هي بمثابة عينة، حيث يمكن من خلال تطبيقها على كافة التصرفات والسلوكيات البشرية التي يمكن أن تخطر على البال ابتداء من حياة العبادة، إلى الحياة العائلية، وعلاقات الجوار، والأنشطة والأعمال التجارية والاقتصادية وغيرها الوصول إلى "العمق التصوفي" بالمعنى الحقيقي

ما هو التصوف؟

التصوف؛  هو فن معرفة الحق سبحانه وتعالى  قلبياً

التصوف؛ هو الاسم الآخر لحمل الإيمان إلى أفق سامٍ مثل "الإحسان". أي أن يعيش الإنسان وهو مدرك أنه تحت مراقبة الكاميرات الإلهية بشكل دائم، وبعبارة أخرى أن نعيش وكأننا نرى الله، فإن لم نكن نراه فهو يرانا

التصوف؛ نظام تطهري. وطريق الوصول إلى "التقوى" بتجنب كل ما شأنه إبعاد المرء عن الله تعالى. وتربية معنوية تكبح جماح الأهواء والشهوات النفسية، وتكشف الطاقات والاستعدادات الروحية

التصوف؛ مدرسة معنوية يتم فيها تزكية النفس، وتصفية القلب على مربين حقيقيين من العلماء الأجلاء الذين صاروا ورثة النبي عليه الصلاة والسلام

التصوف؛ صراع دائم مع النفس لا هوادة ولا صلح فيه

التصوف؛ هو معرفة البقاء في حالة تصالح دائم مع الله من خلال إبداء الرضا بالتقدير الإلهي في كل الأحوال والتقلبات. المحافظة على توازن القلب أمام كافة تقلبات وأحوال الحياة بمدها وجزرها، وحلوها ومرها. عدم الفرح والبطر عند الغنى، والتذمر والشكوى عند الفقر. حالة نضوج ورشد يعلم فيها الإنسان أن كل ما يقع عليه من مصائب وشدائد امتحان إلهي، ويتمكن من جعلها وسيلة للتزكية. مهارة التحول إلى "عبد صالح" مثابر على الشكر والحمد ناسي الشكوى والتذمر

التصوف؛ هو مسؤولية تقع على عاتق المؤمنين الذين استطاعوا البلوغ بأنفسهم إلى مرتبة الكمال المادي والمعنوي، تقتضي توجههم إلى المخلوقات بقلب فياض بالإيثار، وتلبية احتياجاتها. هو الوصول إلى حالة الطبيعة الأصلية التي تقتضي الشفقة بالمخلوقات في سبيل الخالق، والرحمة بها، ومحبتها، وخدمتها

التصوف؛ هو التمسك بالكتاب والسنة، وإدراك وفهم التعاليم الإلهية والنبوي بتعمق قلبي، وتحويلها إلى ساحة التطبيق في الحياة

والحاصل؛ إن التصوف: هو معرفة رسول الله  بالعشق عن قرب، وبذل الجهد للالتزام بدينه بشكل منسجم ومتوافق مع جوهره وروحه من خلال الاغتراف من معين طبائعه، وشخصيته، وأخلاقه السامية

وإن كل منهج آخر مخالف لهذه المبادئ والأسس، ولا يأخذ القرآن والسنة  معياراً له فهو – وإن نسب إلى التصوف - باطل

ما ليس تصوفاً

عندما يتم إهمال الجانب الباطني والروحي للدين، الجانب التصوفي الذي يُعد عمق المعرفة والتقوى فإنه يبقى منظومة من القواعد والمبادئ الجافة. وإلى جانب ذلك فإن نظر بعض الأوساط التي تلجأ وخاصة في يومنا هذا إلى استعراضات معينة بدعوى وصولها إلى النشوة التصوفية ، نظرها إلى الدين على أنه عبارة عن أحكام باطنية، ومن ثم الاستخفاف بالشريعة التي يمكن أن نسميها بأحكام الدين الظاهرية دليل واضح على بعدها عن حقيقة التصوف. فإن مثل هؤلاء الذين يحملون المفهوم المتمثل بقولهم يكفي قليل من العمل طالما أن القلب نظيف!، والذي يفتح الباب واسعاً أمام الرعونات النفسانية، إن مثل هؤلاء لا علاقة لهم بالتصوف الحقيقي الذي يُعد خادم الشريعة لا من قريب ولا من بعيد

فمثلاً يقوم اليوم بعض الناس ممن ابتعدوا عن روح المثنوي الشريف بتحويل السماع الذي يُعد ذكراً بالأساس إلى نوع من مهرجان فلكلوري شعبي، وإلى مجلس موسيقى مهملين بذلك جانب التقوى للمولوية

وكذلك نشاهد لدى بعض الطرق أنشطة تجارية تمارسها في البدء بنية حسنة وتبدو أنها صحيحة وعلى الحق. ولكن ما يلبث أن يبتعد الغالبية عن حساسية التقوى وتتحول الطريقة إلى كيان منكب على المصالح والمنافع المادية. وهذا الأمر ما هو إلا شكل بارز من أشكال جعل الدين أداة لخدمة الدينا. وهو تحويل للطريقة التي هي باب العدمية والفناء إلى عجلة المنفعة التي تتحرك بهاجس الوجود والكثرة والوفرة

ويلاحظ في بعض الطرق الأخرى أنها أهملت جانب الحلال والحرام ففتحت الباب واسعاً أمام اختلاط الرجال والنساء مبررين ذلك بعبارات فارغة مثل "قلبي نظيف!"، وتساهلت في الحجاب، وابتعدت عن الكثير من المعايير والمبادئ الشرعية الأخرى. وكأنه عندما يكون القلب نظيفاً لا تبقى حاجة لرعاية حدود الحلال والحرام، فتميل إلى رأي باطل يطلق العنان لرعونات النفس وأهوائها

وبذلك يتم تجاهل المسألة الآتية :وهي أنه بالرغم من  أن النبي عليه الصلاة والسلام الذي يُعد أعظم مرشد لنا في كل أمر كان صاحب أنظف وأطهر قلب، فإنه كان يُعد أفضل قدوة ومثل للأمة في العبادات، والمعاملات، والأخلاق، وبالأخص في رعاية الحلال والحرام الذي يُعتبر أكبر مشكلة في عصرنا هذا

بينما التصوف الحقيقي الذي يُعد جوهر أهل السنة والجماعة فهو سعي لتكامل الظاهر والباطل من خلال مبادئ وأسس حياة النبي عليه الصلاة والسلام. فكما  أن رسول الله عليه الصلاة والسلام بالرغم من بلوغه ذروة الرشد والكمال والنضوج المعنوي قد أدى واجبات العبودية الظاهرية بحرص وعناية شديدة حتى النفس الأخير، فإن كل مؤمن كذلك مكلف باتخاذه قدوة، والقيام بواجباته الشرعية على أكمل وجه مهما كان موقعه، أو مكانته، أو منصبه، ومن أي طريقة كان أو مذهب

وإن هذه الحادثة المروية عن الشيخ عبد القادر الجيلاني  توضح هذا الأمر بشكل جميل، حيث يقول

كنت مرة في العبادة فرأيت عرشاً عظيماً وعليه نور، فقال لي: يا عبد القادر؛ أنا ربك! وقد حللت لك ما حرمت على غيرك

إلا أنني ما إن انتهى الصوت حتى علمت أنه الشيطان اللعين، فقلت له:- أنت الله الذي لا إله إلا هو ؟، اخسأ يا عدو الله. فإن النور الذي أريتني إياه ظلمات أبدية. فتمزق ذلك النور وصار ظلمة، وقال: يا عبد القادر نجوت مني بفقهك في دينك وعلمك وبمنازلاتك في أحوالك. لقد فتنت بهذه القصة سبعين رجلاً. ثم ابتعد. فرفعت يدي إلى السماء وشكرت الله تعالى على لطفه بي. فقال له واحد من جماعته: - كيف علمت أنه الشيطان؟ فقال : - بقوله لي "حللت لك ما حرمت على غيرك " وقد علمت أن شريعة محمد عليه الصلاة والسلام لا تنسخ ولا تبدل

وفي الحقيقة لو أن العبد يُعفى من حدود الحلال والحرام لحسن أحواله وأعماله الصالحة لأعفي قبل كل الناس سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام الذي بلغ الذروة في الصلاح والعبودية للحق سبحانه وتعالى. وطالما أنه لم يُعط مثل هذه الميزة، فلا تحق لأحد غيره أبداً

وبناء على ذلك؛ فمهما صدرت عبارات صوفية من فم من لم ينظم حياته وفق معايير ومبادئ القرآن والسنة فلا يمكن أن يكون ذاك الإنسان من أهل التصوف بالمعنى الحقيقي

فمثلاً لا يُنتظر من المؤمن الذي يتهرب من تنظيم مسألة الميراث وفق الأوامر الإلهية لكونها لا تناسب مصالحه ومنافعه الدنيوية أن يقطع أدنى مسافة على طريق السير والسلوك. وكذلك لا يمكن الحديث عن الحياة الصوفية بالنسبة لإنسان لا يراعي المعايير والأسس الإسلامية في حياته الأسرية. فلا يمكن أن يحصل انكشاف معنوي للأم أو الأب الذي ينكب على التفكير بمستقبل أولاده الفاني، فيحرمهم من تعلم القرآن، ويعرض مستقبلهم الأبدي للخطر والتهلكة. وإن الظن بأن مثل هذا الأب أو الأم من أهل التصوف ما هو إلا دليل على الغفلة

ومن أعظم الظلم الذي يرتكبه العبد بحق نفسه، وأكبر تحطيم لمعنوياته وروحانياته هو التعدي على حقوق العباد في الحياة التجارية، وانتهاك محاذير الله تعالى ابتغاء تحقيق منفعة دنيوية، والتهاون في أمور دينه بتبريره بعبارات مثل: "سأفعل ذلك هذه المرة، ولن أعود إليه ثانية". وفي هذا الخصوص ينبغي أن نتذكر دائماً المعايير التي وضعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله

لا تنظروا إلى صلاة أحد، ولا إلى صيامه، ولكن انظروا إلى:  من إذا حدَّث صدق، وإذا اؤتُمن أدى، وإذا أشْفى ورِع راعى الحلال والحرام - (البيهقي، السنن الكبرى، 6، 188؛ الشعب، 4، 230، 326)

والحاصل؛ إن لم يكن الإنسان ملتزماً ومراعياً لمعايير الشريعة في عباداته، ومعاملاته، وأخلاقه، ونظام حياته، فإنه من العبث انتظار الترقي التصوفي منه

وينبغي أن نعلم بأن الشريعة التي يمكن أن نسميها بأحكام الإسلام الظاهرية بمثابة الهيكل العظمي الذي يمكن الجسد من الوقوف والانتصاب. فلا يمكن للجسد الذي لا هيكل عظمي فيه والمفتقر إلى العمود الفقري الوقوف على القدمين. إلا أن الحياة الدينية التي تكون عبارة عن الهيكل العظمي فحسب – كما يريد البعض إظهار الدين به عن قصد هي الأخرى تؤدي إلى ظهور مفهوم إسلامي موحش، ومخيف، ومتطرف، ومنفر وخال من الروح

وبناء على ذلك؛ فإن التصوف الحقيقي هو عبارة عن إدراك وفهم الإسلام ضمن إطار فيض وروحانية رسول الله عليه الصلاة والسلام ، والصحابة الكرام، والسلف الصالح، والمؤمنين من أهل التقوى، وبذل الجهد للعيش في الحياة مثلهم واتباع آثارهم بعشق وشوق كبير

الاستقامة أعظم كرامة

إن التصوف قبل كل شيء سعي إلى تنظيم الحياة وفق القرآن والسنة. يقول الحق سبحانه وتعالى في القرآن الكريم

(وَأَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (آل عمران: 132)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد: 33)

وقال النبي عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع

 أَلَا إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ , وَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ , فَلَا تَقَتِّلُنَّ بَعْدِي (ابن ماجة، الفتن، 5 / 3944)

وقال عليه الصلاة والسلام

 تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا : كِتَابَ الله، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ (الموطأ، القدر، 3)

والتصوف بدوره عبارة عن التمسك بهاتين الأمانتين المقدستين، ورعايتهما بما يليق بهما. إنه منهج تعليمي وتربوي يعلم الإنسان كيفية القيام بالأعمال القلبية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم والسنة النبوية مثل (الإخلاص، والتقوى، والخشوع، والتوبة، والرضا)؛ وكيفية القضاء على الأمراض النفسانية مثل (الرياء، والعجب، والكبر، والحسد، والبغضاء). وليس طريقة تعليمية وتدريبية للوصول إلى الكشف والكمال من خلال القيام بجملة من التمرينات مثل الرياضة والمجاهدة

وبطبيعة الحال فإن الوصول إلى الكشف والكرامات ليس مقياساً للارتقاء المعنوي والروحي. إذ يُعد أبو بكر الصديق رضي الله عنه أفضل وخير الناس بعد الأنبياء والرسل في الرياضة ومجاهدة النفس، ومع ذلك ليست هناك روايات ومعلومات كثيرة حول كراماته المادية والظاهرية. فأعظم كرامة له هي إخلاصه وتصديقه الذي لا مثيل له لرسول الله، وطاعته وتسليمه الفريد له

ولهذا فإن أهل الله وأولياؤه لم يولوا أهمية للكرامات المادية المحسوسة، حتى أنهم كانوا يحرصون حرصاً شديداً على التكتم على مثل هذه الكرامات وعدم إفشائها إن حدثت، خشية تسرب الغرور وحب الشهرة إلى قلوبهم. وكانت كل جهودهم ومساعيهم تنصب على الاستقامة من خلال الالتزام التام بكتاب الله وسنة رسول الله والسير على نهجمها، إذ  هي الكرامة الحقيقية

وقد قال الجنيد البغدادي: إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء فاعرضوا حاله على الكتاب والسنة فإن لم توافقهما فهو استدراج (وليس بكرامة)

التصوف؛ حفظ من الغفلة بالذكر

يريدنا الله تعالى أن نذكره بكثرة وبكل الوسائل، فيقول

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا الله ذِكْرًا كَثِيرًا) (الأحزاب: 41)

ويريد لنا أن نكون على صلة قلبية به بشكل دائم، فيقول

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (آل عمران: 191)

إذاً؛ إن واجب ذكر الله المترتب على عاتقنا نحن كمؤمنين ليس عبارة عن إقام الصلاة فحسب. وإنما ينبغي أن يستمر إحساس المعية مع الله في الصلاة بعد انتهاء الصلاة أيضاً. إذ إن الله سبحانه وتعالى الذي لا ينسى عباده ولو طرفة عين، يريد من عباده أن يذكروه بشكل دائم أيضاً. فالغفلة عن ذكر الله تعالى ولو للحظة واحدة سبب لتهلكة عظيمة، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول في التجائه وتضرعه

اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين" (الجامع الصغير، 1، 58)

إذ إن القلب يُبتلى بالغفلة بقدر نسيانه الله تعالى. ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام

إنه ليُغانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله، في اليوم مائة مرة". (مسلم، الذكر، 41؛ أبو داود، الوتر، 26)

وهذا يدل على أنه ليست الذنوب والمعاصي وحدها تستوجب الاستغفار، وإنما تستوجبه اللحظات التي تمر والإنسان غافل فيها عن الله أيضاً. وذلك لأنه عندما تدق المعايير في القلب الذي بلغ آفاق ومراتب معرفة الله وتصبح أكثر حساسية، يتم اعتبار حتى النفس الذي يتنفسه الإنسان بغفلة عن الله تعالى ذنباً ومعصية. حيث قال رسول الله عليه الصلاة والسلام

 ما جلس قوم مجلساً فلم يذكروا الله، إلا كان عليهم ترة (ذنب)، وما من رجل مشى طريقاً فلم يذكر الله، إلا كان عليه ترة، وما من رجل أوى إلى فراشه فلم يذكر الله، إلا كان عليه ترة (أحمد، 2 ، 432)

وإن الحالة المذكورة في الآية 191 من سورة آل عمران (يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) فيها إشارة إلى هذا الذي ذكرناه. وبطبيعة الحال فإن الإنسان يكون في الغالب بإحدى هذه الحالات. إذاً؛ فربما سبحانه وتعالى يريد منا أن نكون بحالة ذكر دائم. إلا أنه في معرض بيانه لشرط قبول هذا الذكر الدائم يقول في الآية ذاتها

(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (آل عمران: 191)

أي أنه يريد منا ذكراً نتعمق فيه بالتفكير والتأمل بتجليات القدرة والعظمة الإلهية، مدركين عجزنا وضعفنا المطلق، وبقلب خاشع وجل من الحيرة والدهشة والخشية. حيث يقول ربنا عز وجل في آية أخرى

(إِنَّمَا الْمؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) (الأنفال:  2)

إذاً؛ إن الذكر الذي يكون عبارة عن تكرار اللفظ باللسان، ولا يتجاوز الفم ليصل إلى القلب، ومن ثم لا يكون وسيلة لحدوث حالة من الوجل والخشية القلبية ليس ذكراً حقيقياً، ولا يرتقي إلى مستوى الذكر المقبول. فالمقصود من الذكر هو تنبه القلب للمذكور، وتحقيق المعية والحضور القلبي مع الله تعالى

ولهذا فإن الترقي في التصوف ليس مرتبطاً بالتقدم بالدروس المعنوية والأوراد خلال فترات زمنية معينة فقط، وإنما مرتبط أيضاً بالتقدم والسمو في الأخلاق والأحاسيس القلبية، وبزيادة تجليات الأسماء الإلهية في ذلك القلب

يجب على الإنسان الذي يتقدم ويرتقي في الدروس المعنوية أن يزيد أيضاً من لين جانبه، ورقة قلبه، ورحمته، وخدمته، وجهده، وتضحيته؛ وأن يكون أكثر تسامحاً وعفواً، وتفاهماً، وتحملاً، وتقبلاً؛ وأن يقوي صبره ورضاه. يجب أن يكون ذا روح رقيقة ومتحلية بالإيثار بحيث يحب لأخيه ما يحبه لنفسه. فلا يتحقق الارتقاء المعنوي إلا بهذا الذي ذكرناه

وإن حياة التصوف هي أن يحيا الإنسان بحالة معية دائمة مع الله تعالى ضمن هالة من فيض وروحانية الذكر. وإن اكتساب المؤمن لهذا الإحساس والإدراك يضمن له في الوقت ذاته كشف أسرار الامتحانات الإلهية التي يتعرض لها. فمثلاً يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى

المحرمات نار. ولا يمد يده إليها إلا ميت القلب. فلو أن قلب من مد يده إليها كان حياً، لأحس بألم تلك النار

إذاً؛ فلأن المؤمن الذي قلبه حي بذكر الله محفوظ من الغفلة، فإنه

 لا يمد يده إلى المحرمات، وحتى إلى الشبهات

 ويحفظ روحه من كل الشرور والأحوال والمواطن التي من شأنها الحط من قيمته المعنوية والروحية

 لا يسعى خلف المغامرات التي لا طائل منها؛ ولا يخوض في الأمور العبثية، والباطلة، والفاسدة؛ ولا ينخدع بأشكال الحب التي تقودها الأهواء المتقلبة

 لا يفني عمره بالسعي خلف رعونات النفس؛ ولا يلطخ سجله بالسخافات والرذائل من الأعمال

 وإنما يزين عمره بالأعمال الصالحة والحسنات

 ويتخذ القرآن والسنة مرشداً وهادياً

 يؤدي عباداته بخشوع تام، ويزيد من المساعي والخدمات التي تكون في سبيل الله، ويتجه لمجالس الصالحين

 وأخيراً يحيا عمره كشاهد لربه على الأرض فيخلف وراءه صدى طيباً في السماء، وذكريات تفيض بالفضائل والصالحات

وبالمقابل؛ فإن القلب الخمول والجلف الذي أصابته الغفلة لبعده عن الذكر معرض للسقوط في مستنقع مختلف أشكال الذنوب والمعاصي. لأن الغفلة مصدر للذنوب، فهي خير أرضية تنبت فيها المعاصي والخطايا. فعندما تتشكل تلك الأرضية يبدأ اقتراف الذنوب بسهولة دون الشعور بثقل وعبء المعنويات وتأثيرها

ومن هنا فإن القضاء على الغفلة بالذكر يُعد درع التقوى الأسلم والأفضل أمام الذنوب والمعاصي، أي أنه وسيلة حفظ ووقاية معنوية. لأنه ليس هناك إنسان يستطيع خداع أخيه وهو يتلفظ ب البسملة: يسمي بالله. فالقلب الذاكر لله لا يمكن أن يخدش قلباً ولو بشوكة

ولهذا فإن التصوف هو أن يحيا الإنسان بالفيض الروحي للذكر، وأن يكون بمقام الإحسان، أي أن يعيش وكأنه يرى الله فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، أي أن يشعر في كل لحظة من لحظات حياته أنه تحت كاميرات المراقبة الإلهية

أسأل المولى سبحانه وتعالى أن يرزقنا جميعاً إيماناً بمقام الإحسان. وأن ينير قلوبنا بنور ذكر الله، ومعرفة الله، ومحبة الله. آمين