أشدُّ فِراق وأعظم وصال

لقد غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين غزوة وأرسل واحدا وتسعين سريَّة. وتجذَّرت شجرة الإسلام بفتح مكة، واكتمل الدين المبين بنزول قوله سبحانه وتعالى

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}

فآنَ أوان أشد فراق وأعظم وصال

وزار حبيب الله صلى الله عليه وسلم مقبرةَ البقيع، واستغفر لأهلها قبل يوم من مرضه، فكأنه بذلك ودَّع الأموات. وبعد أن رجع من البقيع خطب في الصحابة ووصَّاهم وصاياه الأخيرة، ثم قال

«إن الله خيَّرَ عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله»

ففطن سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ذو القلب الرقيق أنه صلى الله عليه وسلم يودِّعهم، فحزن أشد الحزن، وبدأت الدموع تنهمر من عينيه، وقال

«بأبي أنت وأمي، بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا»

فلم يفطن أحد من القوم إلا هو رضي الله عنه، كيف لا وهو رضي الله عنه مَن ذكره سبحانه وتعالى في قوله

{ثَانِيَ اثْنَيْنِ}

فلما رأى الصحابة صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يبكي، قال بعضهم لبعض

«ما يُبكي هذا الشيخ إن يكن الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله!»

لقد أحسَّ قلبُ سيدنا أبي بكر رضي الله عنه الرقيقُ الوداعَ والفراق، فشرعَ يبكي كالشاكي من البُعد والافتراق

وقد حزنت السيدة فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء الجنة بوفاة أبيها الكريم نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام حزنًا شديدًا، حتى إنها أخذت قبضة من تراب قبره الشريف، وشمَّته، ووضعته على عينها ثم أنشأت تقول

مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدَ...أَلا يَشُمُّ مَـدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا

صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبُ لَوْ أَنَّهَا... صُبَّتْ عَلَى الأَيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا

لقد ترك رسول الله عليه الصلاة والسلام أمانتَين عظيمتَين لن نضل ما إن تمسكنا بهما: القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ فهما دليل السعادة في الدنيا والآخرة، وإرث من نور الوجود يدوم إلى اليوم الموعود

وانتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى «الرفيق الأعلى» بعد ثلاثة عشر يوما من رجوعه إلى المدينة عانى فيها من مرض شديد، وكانت وفاته يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11 للهجرة الموافق للثامن من حزيران سنة 632 م

ولما انتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى دار القرار، لم يرَ الصحابة أي تغيُّر في وجهه المبارك حتى إنهم شكُّوا في موته. فخرجت من بينهم أسماء بنت عميس رضي الله عنها فوضعت يدها بين كتفي النبي عليه الصلاة والسلام، وقالت

«قد توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام، قد رفع الخاتم من بين كتفيه»

ذلك الخاتم الذي كان كثير من الصحابة الكرام يودون لو أنهم استطاعوا تقبيله

لقد اكتمل الدين، وأقر الصحابة أنه عليه الصلاة والسلام قد بلَّغ ما كُلِّف به، وشَهِد الله تعالى على ذلك، ثم دُعِيَ نور الوجود إلى دار الخلود

وسيرتقب عليه الصلاة والسلام أمتَه في المحشر والصراط وعند الحوض، فنسأل الله العلي القدير أن يشفع لنا حينها

*

لقد وُلد رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول فأشرقت الدنيا بولادته

وكلَّفه الله سبحانه وتعالى بالنبوة يوم الاثنين

عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عن صوم يوم الاثنين؟ قال

«ذاك يوم ولدت فيه، ويومٌ بعثت- أو أنزل عليَّ- فيه»

وفي صباح الاثنين دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ،  فأقام في ذلك اليوم أساس دولة الإسلام الناشئة التي ستبقى حتى قيام الساعة

ويوم الاثنين توفي عليه الصلاة والسلام وانتقل إلى جوار ربِّه

عن ابن عباس v قال

وُلِدَ النبي عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين، واستُنبِىءَ يوم الاثنين، وتُوفِّيَ يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين، وفتح بدرًا يوم الاثنين، ونزلت سورة المائدة يوم الاثنين {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...}

لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون ولادته عليه الصلاة والسلام ونبوَّته وهجرته وارتحاله يوم الاثنين، فكان ذلك دليلًا على قدسية هذا اليوم وأهميته. واختلطت المسَرَّة والسعادة بالكآبة والحزن تجليًا من تجليات رب العزة الجمالية والجلالية، وامتزجت في القلوب نشوة الوصال بألم الفراق

ويعبِّر حضرة الشيخ عزيز محمود هدائي عن غدر الدنيا التي صارت محرومة من رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى دار الجنان بقوله

مَن ذا الذي يأمل منكِ الوفاء؟

ألستِ الدنيا الكاذبة؟

ألست من أخذتِ محمدًا المصطفى؟