تعريف التصوف

من العسير أن تعبر كلماتنا المحدودة عن حقيقة التصوف ومكنوناته، إذ لا يستطيع الإنسان أن يدرك التصوف ويشعر به إلا حين يحيا به، ولذلك تنوعت تعاريف التصوف واختلفت عند أولياء الله تعالى، فكل منهم كان ينطلق في تعريفه من رؤية مختلفة عن الآخرين

 وإنما يتعمق فهم أولياء الله والسائرين في هذا الطريق للتصوف كل بحسب استعداده وقدراته وتلقيه للتجليات والأنوار، ولذلك نرى هؤلاء الأولياء يستوعبون التصوف بطرق مختلفة، ويخضع ذلك للتجليات الإلهية التي يعيشونها، ومع ذلك فإن كل تعريف قدمه هؤلاء الأولياء صحيح، ذلك لأنه جاء حسب التجربة الذاتية التي مر بها كل منهم، أما نحن فنحاول أن نصل إلى تعريف عام للتصوف من خلال النظر في هذه التعاريف

 فإذا نظرنا إلى هذه التعريفات المختلفة، نستطيع القول أن التصوف -باعتبار الجوانب المشتركة في هذه التعريفات- إنما هو علم يعمل على إصلاح عالم المؤمنين الداخلي، ليقوِّمه ويصل به إلى الكمال البشري، كما يجعل من هؤلاء الأولياء مثالًا للأخلاق الحميدة التي تقربهم إلى الله تعالى، وتوصلهم إلى معرفته ومحبته

و فيما يلي بعض من تعريفات التصوف التي قدمها لنا أولياء الله كلٌ حسب التجليات الروحانية التي نالها، وهي

        التصوف هو الأدب وحسن الخلق

حسن الخلق هو ذلك الإحسان الذي يحمل الإنسانَ على الاستقامة في الفكر والسلوك عبر تحرير الإيمان من التقليد، حيث يترسخ في القلب شعور المرء دومًا بأنه تحت مراقبة الله تعالى، حتى يهيمن هذا الشعور على ظاهره وباطنه ويستقر في وجدانه

يقول أبو الحسين النوري

 «ليس التصوف بالشكل أو بالعلم، التصوف هو الخلق الحسن لا أكثر ولا أقل، فلو كان التصوف شكلاً لناله المرء بالمجاهدة، ولو كان التصوف علماً لناله المرء بالتعلم، و لهذا فلا الشكل ولا العلم وحدهما يوصلان إلى المقصد، إنما التصوف  التحلي بالأخلاق التي أمر بها الله

وهذا التعريف يشير إلى أن التصوف يقوم على أسس وطيدة من الأخلاق

 إن معنى الخلق الحسن هو التخلُّق بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، وفى هذا مدح الله تعالى في القرآن الكريم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في الآية الكريمة: (وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم) (القلم، 4)

 وحين سُئِلت السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم، قالت

 «كان خلقه القرآن» (مسلم، المسافرون، 139)

 معنى ذلك أن العبد إذا تخلق بأخلاق القرآن واستقام على أحكامه، فإنه يصبح قرآناً حياً، ولا يصل العبد إلى ذروة الخلق الحسن إلا حين يتلو القرآن الكريم بتفكر وتدبر ويتَّبع أحكامه، فيحل حلاله ويحرم حرامه

 لقد أَمر اللهُ تعالى سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم بهداية البشرية وإنارة دربها، وكان ذلك منذ أن أرسله الله تعالى وحتى قيام الساعة في الأزمنة والأمكنة جميعها. ومن هذا المنطلق انتقلت إلينا كل تفصيلات ودقائق حياته صلى الله عليه وسلم، حتى الأمور الخاصة والتصرفات الشخصية عبر روايات صحيحة، وسيستمر هذا الانتقال حتى قيام الساعة بفضل  الله تعالى ولطفه، وبدراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يتبين لنا أنه كان يمثل كمال الإنسانية وذروة مكارم الأخلاق.  ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم مهمته بالحديث النبوي

«إنما بُعثت لأتمم حُسْنَ الأخلاق» (الموطأ، حُسن الخلق، 8)، وأنه صلى الله عليه وسلم كان «الأسوة الحسنة» للإنسانية جمعاء، أي القدوة في الأخلاق

ويأتي القرآن الكريم على ذكر أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم في الآية الكريمة

(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (الأحزاب، 21)

وسُيظهِر الله تعالى حسن الخلق دومًا وإلى قيام الساعة بداية من رسولنا عليه الصلاة والسلام ومن بعده عبر ورثة الأنبياء

وفي الحديث النبوي الشريف

«أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً»

وبهذا يشير عليه الصلاة والسلام إلى أن حسن الخلق إنما هو ثمرة الإيمان وعلامة الكمال، وأن أولياء الله الذين يتخلقون بالأخلاق المحمدية هم الهداة والمرشدون الروحانيون، ويلفت انتباهنا إلى هذه الحقيقة أيضاً أبو محمد الجريري حين قال

«التصوف هو تمثل الأخلاق الحسنة والبعد عن الأخلاق الرديئة»

فتزيين القلوب بالأخلاق الحميدة وتنزيهها عن الأخلاق الرديئة للوصول إلى النجاة والسعادة الأبدية عملية ضرورية، ولكن تحفها المشقات و المصاعب، وفي ذلك يقول أبو هاشم الصوفي وهو من المتصوفة الأوائل

«إن إزالة الكِبر المترسِّخ في القلب لهوَ أصعب من الحفر في الجبال بإبرة»

 أما أبو بكر الكتاني فيقول

 «التصوف أخلاق، ومن كان أفضل منك في الخُلُق، كان أطهر منك في المعنى»

 والتاريخ الإنساني يزخر بأخلاق الأنبياء المثالية، أخلاق لا يضاهيها أي خلق، ومن أجمل الأمثلة عن هذه الأخلاق العالية -التي لا شك فيها- سيدنا يوسف عليه السلام، فبعد أن ظلمه إخوته ظلماً بيِّنًا كان رده عليهم

 (قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف،  92)

وهذا مثال يظهر درجة العفو الكبيرة التي وصل إليها عليه السلام

 إن هدف التصوف هو أن يكون القلب مثل قلب سيدنا إبراهيم عليه السلام سالماً من الدنيا ومطيعاً لأمر الله تعالى، ومثل قلب سيدنا إسماعيل عليه السلام في تسليمه للحق ورضاه بقدر الله تعالى، ومثل قلب سيدنا أيوب عليه السلام في صبره، ويجب أن يكون حزن المؤمن مثل حزن سيدنا داوود عليه السلام، وفقره مثل فقرِ سيدنا عيسى عليه السلام واستغنائه عن الآخرين

 والمتصوف هو الذي يسعى ليكون قلبُه مثل قلب سيدنا موسى في مناجاته حين كان قلبه فياضاً بالحماسة والاشتياق، وهو الذي يسعى ويجتهد أن يكون مخلصاً كإخلاص حبيبنا وسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام

ويقول أبو حفص الحداد

«التصوف هو الأدب»

فتعريفه للتصوف هو أنه خلاصة الأخلاق الحسنة

 وعن الأدب يقول مولانا جلال الدين الرومي

 «اعلم يا سيدي أن الأدب هو تلك الروح الكامنة داخل الإنسان، والأدب عند رجال الله هو نور عيونهم وأفئدتهم، فإذا ما كنت تريد سحق رأس الشيطان، فافتح عينيك لترى أن الأدب يقهر الشيطان، وإذا لم يكن عند الإنسان أدب، فهو ليس بإنسان أبدًا، لأن الفرق بين الإنسان والحيوان إنما هو الأدب

 وثمة بيت شعري معناه

 سأل عقلي قلبي: «ما الإيمان؟»، فهمس قلبي لعقلي: الإيمان هو الأدب

 ونظم شاعر آخر بيتاً جميلاً في «الأدب» قال فيه

الأدب تاج من نور الباري               فالبسه تأمن من كل بَلاءِ

ولهذا نجد أن اللوحة التي تحمل عبارة «أدب يا هو»  في التكايا والزوايا وأماكن الخلوات القديمة واحدة من أهم اللوحات الخطية التي تحث على التيقظ والانتباه

  التصوف هو تزكية النفس وتطهير القلب

 أتى الإنسان إلى هذا العالم لكي يُمتحن في عبوديته، ولذلك اُبتلي بالنفس وشهواتها وأهوائها التي تلازمه حتى الموت، وحتى إن وصل الإنسان إلى أعلى درجات الولاية، فإن الثلاثي (الدنيا والنفس والشيطان) يقف له دائماً بالمرصاد من خلال الحيل والوساوس والخداع، ولذلك كانت العبودية تبدأ بالتخلص من هذه المهلكات، ثم النجاة من مغريات هذا العالم الفاني، والتحلي بالتقوى، والتوجه إلى الحق تعالى في نهاية المطاف

 ولهذا كان من الضروري تزكية النفس وتطهير القلب للتخلص من قابلية المعصية المركوزة في فطرة الإنسان، وزرع بذور التقوى، لذلك فكل إنسان مكلَّف بحسب استعداده وقدرته بمعرفة الحق تعالى، والارتقاء بهذه المعرفة إلى مرحلة العرفان، عبر العمل الصالح، وتسبيح المولى وشكره، وهذا هو معنى «العبودية» باختصار، أما الوصول إلى حقيقة العبودية فمرتبط بتزكية النفس وتطهير القلب، أي بتجاوز عقبة النفس وتحليتها بالأحاسيس الراقية، ولا يمكن نيل شرف درجة «الوصول إلى الله» و«اللقاء مع الله»  إلا على هذه الصورة

 وجوهر القلب هو «موضع نظر الله تعالى» في هذا العالم، أي إن جوهر القلب ينال شرفاً رفيعاً بتجلي نظرات الله تعالى، وكما أنه لا يجلس على عرش القصر إلا السلطان، فلا ينبغي أن يكون في القلب الخاضع لمملكة الجسد غير الله تعالى، ولا بد من تطهير القلب بإزالة الأفكار النفسانية والميول الخبيثة والتعلق بما سوى الله تعالى، وإلا أُغلق الطريق أمام القلب للوصول إلى الألطاف الإلهية، وهذا لا يعني أن القلب لابد أن يخلو عن محبة الآخرين، فحين يستطيع المرء تزكية نفسه وتطهير قلبه ليصير قلبًا سليمًا، فإنه يتحرر من محبة غير الله تعالى، في حين لا يستطيع الآخرون أن يزيلوا تماماً من قلوبهم محبة المال والأولاد وما إلى ذلك مع اختلاف درجات هذه المحبة، فمثل هذه الأنواع من المحبة في الحقيقة مشروعة ما لم تتجاوز حداً معيناً

 ويكفي النظر إلى موقع القلب في الحياة المادية والمعنوية لإدراك أهمية تطهيره، وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم أهمية القلب في حياة الإنسان حين قال

 «ألا وإنَّ في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (البخاري، الإيمان، 39)

 ويذكر مولانا جلال الدين الرومي، قدس الله سرَّه، أنه من العبث السعي لملءِ كيسٍ ما لم يُغلق الثقب في أسفله، وهكذا هي الأعمال، فالجليُّ أنه مع تطهير القلب تصبح هذه الأعمال وسيلة لسعادة المرء، فالأعمال بالنيات، والنية هي إحدى أعمال القلب، ويعد إصلاح النية وإخلاصها شرطاً في هذا السياق

 إلا أن حالة تزكية القلب هذه إنما ينالها المرء على يد أربابها بالتربية القلبية، فغاية أولياء الله تعالى من تربية القلب هي استشعاره بأنه دائماً مع الله أي بلوغ مرتبة (الإحسان)، وبذلك يصبح هذا القلب «قلباً حياً»، ولكي يصل القلب إلى هذا النضج، لابد من تطهيره مما سوى الله تعالى

 وحين يصل القلب إلى هذا الصفاء ويتخلص من أكداره، تتكشف له الحقائق الجليلة والعميقة، وتتجلى عليه الأسماء والأسرار الإلهية، ويعرف المرء الله بقلبه ويرتقي بعلمه إلى حال العرفان

 ولا يمكن النجاة يوم الحساب إلا بالمثول أمام الله تعالى بقلب سليم، مطهَّر من كل الأمراض المعنوية، ومليء بالمحبة الإلهية، وهذا ما ذكره الله تعالى في كتابه حين قال

(يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُون إِلَّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيم) (الشعراء، 88-89)

 ومن جانب آخر، يذكر القرآن الكريم أن الذين لا يطهِّرون أنفسهم، وتقسوا قلوبهم لبعدها عن ذكر الله تعالى، فإن مصيرهم الهلاك في نهاية المطاف

 (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُوْرَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس، 7-10)

 (...فَوَيْلٌ لِلقَاسِيةٍ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ الله أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الزمر، 22)

 ولَكَم هو معبر كلام أبي سعيد الخراز في ضوء هذه الآيات الكريمة

 «الإنسان الكامل هو من طهر الله قلبه وملأه نورًا وعرفانًا»

  التصوف حرب معنوية لا هوادة فيها

 يعود هذا التعريف الى الشيخ جُنيد البغدادي، ويعني به أن المتصوف لا ينفك عن مجاهدة نفسه طوال العمر، والجهاد ضد النفس هو الامتناع عن الرغبات غير المشروعة

 والحروب عادة تبدأ وتنتهي في زمان ومكان محددين، إلا أن مجاهدة النفس تستدعي مجاهدتها طوال العمر دون انقطاع، حيث يقول الله عزَّ وجل في الآية الكريمة

 (وَاعْبُد رَبَّكَ حَتَّى يَأْتيَكَ اليَقِينُ) (الحجر، 99)

 ويأمر الحق تبارك وتعالى عبده أمام غفلة النفس وحيلها باليقظة الدائمة والذكر المستمر، فقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم

(وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعَاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِن الغَافِلِينَ) (الأعراف، 205)

وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن تزكية النفس أصعب من مجاهدة الكفار حين قال لمن معه عقب عودته من غزوة تبوك المعروفة باسم غزوة العسرة: «قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه

 ويعطي الباحث المعاصر روجيه غارودي أهمية خاصة لتوازن الجهاد الأصغر والأكبر في الإسلام؛ إذ يقول: «التصوف شكل من أشكال التربية المعنوية الإسلامية، وهو ما يسمى بالجهاد الداخلي؛ أي الوقوف في وجه كل نوع من أنواع الرغبات التي تُبعِد الإنسان عن الغاية من خلقه، وتوقِعه فريسة للنفس، ويُعرف هذا بالجهاد الأكبر في الاصطلاح الإسلامي، أما الجهاد الأصغر فهو الجهاد ضد كل أنواع السلطة والجاه والعلم الخاطئ الذي يبعد المسلمين عن طريق الله تعالى، ويبقي المرء في حالة انسجام واتحاد مع الطريق المؤدي إلى الله تعالى، والاتزان بين هذين النوعين من الجهاد هو الذي يكفل السعادة والسلامة للفرد والمجتمع

  التصوف هو الإخلاص

 التصوف هو الإخلاص لله تعالى، و«الإخلاص» في الاصطلاح الديني هو العمل ابتغاء مرضاة الله وحده دون أن تكون هناك أي غاية سواه، وتطهير القلب من جميع الآمال ما عدا رضا الله تعالى هو فضيلة كبرى أُمر بها المسلمون

 إن كل ما أمر الله عزَّ وجل به العبد لنيل رضاه يمسي عديم النفع لا يجني منه صاحبه سوى التعب والمعاناة، إذا أشرك مع الله تعالى غيره، أو شابه الرياء، وبهذا يظهر أن «الإخلاص» هو أهم الشروط وأساسها لقبول الأعمال أمام الله تعالى

 والإخلاص هو حماية القلب من جميع أنواع الشهوات والأهواء الدنيوية في سبيل الاقتراب من الله تعالى. وبالإخلاص يحظى العبد بأكبر نعمة، ألا وهي رضاه تعالى

 إن ما يريده الله تعالى من عباده هو أن يعملوا بإخلاص سعياً لرضائه تعالى، والآيتان التاليتان توضحان هذا الأمر

 (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ) (الزمر، 2)

 (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ) (الزمر، 11)

 وقد ذكر الله عزَّ وجل الموقف الذي طُرد فيه إبليس من الحضرة الإلهية حين قال

 (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (الحجر، 39-40)

 فالتصوف هو ربط الأمور كلها بالله تعالى، وتلقي كل شيء منه، والتخلص من الإعجاب بالنفس. وعلى الإنسان مهما كان حاله ومقامه أن يتواضع ويعرف قدره وألا ينسى وجود من هو أعلى مقامًا منه، إذ يقول الله عزَّ وجل -بعد أن انتصر المسلمون في معركة بدر- مخاطباً سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم:

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)  (الأنفال، 17)

 لذلك يجب على الإنسان دائماً أن يحس بعجزه وعبوديته، وأن يعلم أن كل أنواع النعمة والنصر والتوفيق إنما هي من ألطاف الله عزَّ وجل، فإن لم يعلم الإنسان ذلك كانت أجور أعماله منقوصة أو صارت هباءاً منثوراً.

 ويروي أبو هريرة رضي الله عنه الحديث الذي يبين عاقبة المرء حين يؤدي أعماله خالية من الإخلاص، ويخالطها الإعجاب بالنفس والهوى، حيث قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ

«إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟

قال: قاتلت فيك حتى استشهدت

قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار؛

ورجل تعلم العلم، وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟

قال: تعلمت العلم، وعلمته وقرأت فيك القرآن

قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار؛

ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟

قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك

قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار» (مسلم، الإمارة، 152)

 ويقول جلال الدين الرومي مخاطباً ذلك الذى يعبد الله تعالى دون إخلاص

 «أيها الغافل! كم أرجو أن توجه وجهك بإخلاص للحق تعالى حين تنزل ساجداً له، وكم أرجو أن تعرف معنى (سبحان ربي الأعلى)، فالسجدة ليست سجدة البدن فحسب بل هي سجدة القلب أيضاً»

 إن العبادات إذا أقيمت دون إخلاص لابد أن تشوبها الأهواء المبطَّنة والأدران المعنوية، والسر في صفاء العبادات وترقيتها إنما هو الإخلاص، فالعمل دون إخلاص لا يجني منه العبد شيئاً، فمثلاً الصلاة التي هي في المرتبة الثانية بعد الإيمان إن لم يُراعى فيها الإخلاص تعرِّض العبد إلى هذا الوعيد المخيف من الله في الآية الكريمة التالية

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ) (الماعون،  4-6)

 ويقول جنيد البغدادي، قدس الله سرَّه

 «الإخلاص هو تصفية العمل من الكَدرِ الروحي»

 ويقول أحد الأولياء

 «ادعاء الإخلاص نوع خفي من أنواع عدم الإخلاص»، حيث إن أكبر خطر على الإخلاص أن يرى المؤمن نفسه تقياً

 عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن: يا رسول الله أوصني، قال: «أخلص دينك يكفك العمل القليل»

 ويقول في حديث آخر

«إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (مسلم، البر، 34)

  التصوف هو الاستقامة

 التصوف هو أن يحيا المرء باستقامة، والاستقامة هي التمسك بالكتاب والسنة، وفهم الأوامر الإلهية والنبوية فهماً نابعاً من القلب، والحياة بشغف في ظلالها، فالتصوف هو وصول القلب إلى أعلى حالات السعادة بالعيش في روحانيات الكتاب والسنة

يقول الحق تعالى في الآية الكريمة مخاطباً النبي وأمته من بعده

(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا) (هود، 112)

وكان الدافع إلى «شيبتني هود...»  في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم هو ما ورد في هذا الخطاب الإلهي الذي شرحه المفسرون  على النحو الآتي

 «يا أيها النبي! ليكن سلوكك كما تفرض عليك أخلاق القرآن وأحكامه، وكن مثالاً حياً للاستقامة كي لا يكون موضع للشبهة والتردد في شخصك، واصرف النظر عما يقوله المشركون والمنافقون، وَدَعهم إلى الله. واستقم كما أُمرت في مهماتك العامة والخاصة، ولا تبتعد عن الصراط المستقيم. وثابر على تبليغ ما يوحى إليك وتنفيذِه وتطبيقه مهما كان ثقيلاً، فالله مُعينك

 وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)

 «ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آيةٌ كانت أشدَّ ولا أشقَّ عليه من هذه الآية»

 وقد كان هذا الخطاب موجهاً مباشرةً إليه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن مصدر الشيب في هذه الآية خوفاً على نفسه من التمسك بالاستقامة، فالآية الكريمة

 (يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (يس، 1-4)

نزلت فيه وتأييداً له عليه الصلاة والسلام، لكن السبب الحقيقي الذي شيبه وأثر فيه من الأعماق، هو القلق على المؤمنين من مشقة تطبيق هذا الأمر الإلهي

 فلا يمكن لأي طريق بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصل الإنسان إلى الله سوى طريق الهداية الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ربط الله تعالى محبته ومغفرته بإطاعة المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما توضحه الآيات الكريمة

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران، 31-32)

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (النور، 54)

 ويؤيِّد ذو النون المصري قدس الله سرَّه هذه الحقيقة بقوله

 «إن من يطبق سنة حبيب الله تعالى في أخلاقه وأفعاله وحركاته، يؤكِّد حبه للحق تعالى»

 أما أبو يزيد البسطامي، قدس الله سرَّه، فيقول

 «لو نظرتم إلى رجل أُعطي من الكرامات حتى تربَّع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود، وأداء الشريعة [وإلا فإن حاله ليست كرامة بل استدراج] »

وقد ذكر القرآن الكريم أولئك الذين يستطيعون أن يسلكوا طريق أهل الاستقامة (الصراط المستقيم) بالصورة الصحيحة

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء، 69)

 والظاهر في الآية الكريمة أن الصراط المستقيم طريق خاص بأشخاص مُحددين، وأساس الاستقامة هو الإيمان والتقوى، ومحلهما القلب، لذا فالاستقامة هي انسجام وتناغم حركة البدن مع توجهات القلب، أي أن تكون الأعمال الظاهرة مرآة وصدى لما في القلب من إيمان وتقوى، فبالإيمان والإخلاص ترعى الاستقامة وتدوم

عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه»

وعن سفيان بن عبد الله الثَّقفيِّ، قال: قلت

«يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك» وفي حديث أبي أسامة «غيرك» قال

«قل: آمنت بالله، ثم استقم». (مسلم، الإيمان، 62)

 وليس ثمة أمر إلهي أصعب من المحافظة على الاستقامة على الصورة التي يريدها الله تعالى، فالمحافظة عليها مقام عالٍ. والاستقامة هي المحافظة على العبادات باعتدال دون الوقوع في الإفراط والتفريط مع الثبات على طريق الله، وتنفيذ أوامره بالشكل الأمثل كما وردت، كلٌ حسب طاقته، لهذا السبب كانت الاستقامة شعارَ أولياء الله وأعظمَ كراماتهم، والاستقامة الحقيقية هي السير في طريق النور الذي خطَّه فخر الكائنات صلى الله عليه وسلم

 وقد شرح مولانا جلال الدين الرومي هذه الحقيقة خير شرح حين قال

 «طالما هذه الروح في جسدي سأبقى مذعناً للقرآن، وأسير على خطى سيدي محمد المختار، وإذا ما نقل أي شخصٍ عني غير هذا الكلام فإنني منه براء»

 «إن أي امرئٍ يذهب إلى مائدة غير مائدة النبي صلى الله عليه وسلم، فسيأكل الشيطان معه من الوعاء نفسه، إذ إن من يختار مائدة غير مائدة العرفان تلك، فستمزِّق العظام حنجرته»

 التصوف هو الرضا والتسليم لله عزَّ وجل

 التسليم هو الخضوع المطلق لله تعالى والطاعة والاستسلام له سبحانه ولأوامره دون اعتراض، ومن هذا الجذر اللغوي نفسه اشتقت كلمة «الإسلام»، والتصوف يزرع في الأفئدة الشعورَ بالرضا والتسليم للحق تعالى كي يتمكن العبد من العيش على أساس الاستقامة والاقتراب من ربه أكثر فأكثر مع كل نفَس يتنفسه

 إن الرضا والتسليم للحق تعالى هما اللذان يخففان من تأثير الآلام والمصائب والمحن التي تُغرِق هذا العالم الفاني، حتى إن المصائب ببركة الرضا والتسليم لله تصير كأن لم تكن، وتتحول الابتلاءات إلى مسرَّات حين يتلقاها العبد على أنها منحة من رب العالمين له. والتسليم هو خضوع العبد لأوامر الله تعالى بكل سعادة، وقبوله -بعد الأخذ بالأسباب - لكل تجليات القدر بالرضا العميق، وخير مثال على التسليم هو امتثال سيدنا إبراهيم عليه السلام لأمر ربه وتقديم فلذة كبده قرباناً، وتسليم إسماعيل عليه السلام نفسه للتقدير الإلهي بكل رضا، وقد ضرب الله تعالى مثلاً هذين النبيين للناس أجمعين في التسليم

 (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (الصافات، 103)

 وبتسليمهما هذا نالا ثناء الله تعالى عليهما، وصارت الأضحية حكما شرعيا مستقلاً في العبادات، وستبقى عبادة الحج نموذجًا ونبراسًا هاديًا للأجيال القادمة إلى قيام الساعة على تسليم العبد لله تعالى وخضوعه بين يديه

 فينبغي للعبد إذا استسلم للحق تعالى في الأوامر والنواهي، ورضي بما يقدِّره الله له، أن يصبر على المشقات والابتلاءات، فالابتلاءات هي مفتاح الكمال

 ويقول الشقيق البلخي

 «لو علم العبد ما يتلو المحن من منح لما أراد النجاة منها»

ولذلك لما عرف أولياء الله هذه الحكمة نظروا إلى الغمِّ والسرور بالعين نفسها، وتجاوزوا السعادة المفرطة والحزن العميق اللذين يوقِعان المرء في مصيدة النفس، وارتقوا إلى مقام الرضا والتسليم

 ومن أوجه التسليمِ العشقُ والمحبةُ الإلهية، فالمحبُّ يَسعَد بكل ما يأتي من الحبيب، ويسعى جاهداً إلى إظهار حميميته وإثباتها

 وربما هذا هو السبب الذي دفع بأبي علي الروزباري لتعريف التصوف على أنه

 « لزوم المرء باب الحبيب مستسلمًا له ولو طرده آلاف المرات»

 إن العبد الذي يملأ العشقُ قلبَه يُقبِل راضيًا عن كل ما يأتيه من ربه على قدر محبته له، فبتسليم إبراهيم عليه السلام لله تعالى وتجليات عشقه له تحولت النار الدنيوية إلى روضة غنَّاء، أما يعقوب عليه السلام فقد نجح في التخفيف من ألم الفراق من خلال رضاه وتسليمه للتقدير الإلهي، وبقوله

(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (يوسف، 18)

ولهذا جعل أهل التصوف طريق الاستسلام لله تعالى -وهو طريق الأنبياء- محور طريقتهم، وتقول رابعة العدوية، قدس الله سرَّها، في هذا الشأن

«إن المحب للحبيب مطيع»

أي إن التسليم هو الطاعة التي تنبعث من الحب، وتنبع من القلب

ولقد وصل الصحابة الكرام إلى مرحلة الكمال البشري بحبِّهم وارتباطهم وطاعتهم لنبينا صلى الله عليه وسلم، حتى غدوا نماذج حية للأمة كلها يعلمونها كيف يمتزج الحب لله بالخضوع والتسليم المطلق له سبحانه من دون أي اعتراض

 تعاريف أخرى للتصوف

إن الإسلام يهدف لتربية إنسان كامل، وهذا الهدف يتطلب أن يعيش المرءُ الإسلامَ ظاهرًا وباطنًا، بحيث يتحد الجسد مع الروح وينسجم العقل مع القلب

والتصوف: هو السبيل للعيش على هذه الحال، فالهدف الفريد للتصوف تحويل الإنسان إلى إنسان مسلم صالح يرضى الله تعالى عنه، وهذا ما يوجب على المرء المسلم أن يسعى ليحيا حياته بإدراك الإسلام ضمن تكامل «الشريعة والطريقة والحقيقة والمعرفة

فالتصوف: هو وجهة الدين الداخلية وجوهره وعمقه الروحي، وهو من هذا الجانب مثل اللاكتوز الموجود في الحليب، فحين نهمل روح الدين وجوهره لا تبقى إلا مجموعة من الأحكام الفقهية الجافة. وفي المقابل ثمة أشخاص لم يفهموا حقيقة التصوف حين ردوا كل أمر إلى الأحكام الباطنية، ولم يلتزموا بالأحكام الظاهرية، خاصة في هذه الأيام مع وجود من يدَّعون وصولهم إلى النشوة الصوفية، ناهيك عن أولئك الذين يأخذون عبارة «لا ضير في عملك ما دام قلبك طاهراً» شعاراً لهم، ويطلقون العِنان لحياتهم النفسانية، ويسعون إلى إظهار مفهوم التصوف على هذا النحو البعيد عن مفهوم التصوف الحقيقي، والمؤسف أن هناك أشخاصًا في أيامنا هذه بعيدون عن روح «المثنوي الشريف» يهملون الجانب المتعلق بالتقوى في المولوية، ويحاولون إظهار السماع -الذي هو في الأصل ذكرٌ لله تعالى- على أنه موروث شعبي ومجلس للموسيقى

وكما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أتقانا لله تعالى وأقربنا إليه وقام بالتكاليف والمسؤوليات الشرعية حتى آخر نفَس تنفسه، فكذلك ينبغي لكل مسلم يقتدي بهذا النبي أن ينجز مهامه ومسؤولياته الشرعية مهما كان موقعه ومقامه الروحاني، فالشريعة التي نصفها أنها الأحكام الظاهرية للإسلام هي مثل الهيكل العظمي الذي يعتمد عليه الجسد، لكن المظاهر الدينية التي هي عبارة عن هيكل فقط تقدِّم الإسلام على أنه دينٌ منفِّر جاف وناقص، يفتقر إلى الروح والحيوية، وهناك بالفعل من يريد عن عمد أن يظهره على هذا النحو

والتصوف: هو فهم الإسلام بالطريقة التي فهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار عليها صحابته رضي الله عنهم، تلك الطريقة المليئة بالفيوضات والروحانيات، ثم السعي للعيش على أساس هذه الطريقة بالحب والشوق

والتصوف: هو السعي والعمل على تنظيم الحياة على أساس الكتاب والسنة

والتصوف: هو نظام لتطهير النفس من كل شوائبها، وفن الوصول بها إلى التقوى عبر الحذر من كل شيء يُبعد المرءَ عن الله تعالى، والتصوف هو شعور المرء بوجوده في عالم الامتحان الدنيوي، وهو الذي يوضح قواعد العبودية لله تعالى، وكل ذلك بالفيوضات والروحانيات التي تتغلغل في عروق المرء، فالتصوف هو سعي المرء كي يكون عبداً صالحاً لله تعالى من خلال معرفة الله ومحبته

والتصوف: هو معرفة الحق تعالى بالقلب، والارتواء من ينبوع العبودية لله تعالى، والارتقاء بالإيمان إلى أفق عالٍ كما هو حال الإحسان

والتصوف: هو رحلة مقدسة توصِل العبدَ إلى الله تعالى عبر المحبة والصحبة الحقيقية

والتصوف: هو تطهير الفؤاد مما سوى الله تعالى من خلال الذكر الدائم

والتصوف: هو فن بقاء العبد حبيباً لله تعالى من خلال الرضا بقضائه في كل زمان ومكان، وهو مهارة الإبقاء على توازن الفؤاد أمام المد والجزر والظروف المتغيرة والمفاجآت، ونسيان الشكوى والتذمر ليكون العبد عبداً صالحاً على الدوام

والتصوف: هو تعليم الزهد، وتخليص الفؤاد من الرغبات النفسانية المتقلبة في الدنيا عبر إدراك أن الحياة الأساسية هي الحياة في الآخرة

والتصوف:  هو تكريس الوقت على أكثر الأشياء قيمةً

والتصوف: هو مسؤولية يحملها أولئك الربانيون تجاه عباد الله الغافلين الشاردين التائهين، فيعاملونهم ويخدمونهم ويرشدونهم بالشفقة والرحمة والمحبة لوجه الله تعالى وابتغاء مرضاته، لذلك يمكننا القول أن «التصوف هو طريق الخدمة الإسلامية

وخلاصة ما فهمناه عن التصوف وما نريد إيصاله، أن التصوف معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قرب وذلك من خلال محبته، والتخلق بأخلاقه الرفيعة، والسعي لتمثُّل الإسلام بروحانيته على أجمل صورة، والتصوف هو «حياة التقوى» التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته مضمخة بالحب لله تعالى

أما ما بقي خارج ذلك ولم يأخذ جوهره ومعياره من القرآن والسنة فهو باطل مهما عزا نفسه للتصوف

وفي ضوء التعاريف المذكورة للتصوف يمكننا أن نخلص إلى أن

التصوف: هو السعي لإقامة الدين، والحياة به وفق روحه وأصوله، وذلك من خلال التخلي والتطهر من الأدران المادية والمعنوية، والتحلي واكتساب الأخلاق والصفات الحميدة، وبهذه الطريقة يصل المؤمن إلى فهم شامل للأحداث المادية والمعنوية، وتنفتح بصيرته على الأسرار والألغاز الكبيرة التي لا يمكن أن يصل إليها عبر العقل وحده

والتصوف: هو الصراع للتغلب على النفس التي تمثل حجر عثرة أمام ما يطلبه القلب من اللذات الروحانية اللانهائية

والتصوف: من ناحية أخرى هو علمٌ يبيِّن كيف يحبس الجسدُ الروحَ، ويمنعها عبر الميول النفسانية من استيعاب الحقائق والحكم من وراء الأحداث، وهو علم يسمح للروح باكتشاف العِبر والحِكم التي تتجاوز حدود الإدراك، ومشاهدتها من منظور العارفين

ولنَدَع نتيجة تعريفات التصوف إلى «منظومة التصوف» المشهورة التي نظمها إبراهيم أفندي شيخ تكية آق سراي أولانلار ومن خلال شرح قصيدته المشهورة

التصوف في البداية هو التجرد من الوجود المادي، وإنكار الوجود في نفس المرء، أي تسليم إرادته للحق تعالى، أما التصوف في النهاية فهو الفوز بالفضائل الإلهية، حتى يصير المتصوف سلطاناً في قلوب الناس

والتصوف كطريقة: هو أن يكون الصوفي مجهولاً بين الناس، لا يأبه له أحد، أما في الحقيقة فهو ضيف في قصر الأسرار الإلهية مطلع على خفايا الأمور ومآلات الأحداث

والتصوف:  هو الخلاص من الألبسة والأقفاص الفانية المصنوعة من الطين والماء، وبهذا يصبح المرء إنساناً طاهراً يشع منه النور الإلهي

والتصوف:  هو إيقاد شمعة الفؤاد بالنور الإلهي، لأن التصوف هو الاحتراق بالعشق الإلهي

والتصوف:  هو وجوب تجرد العبد من الإعجاب بالنفس والالتفات للناس، وأن يكون من أهل الشريعة والإيمان الحقيقي

والتصوف:  أن تكون عارفًا بسنن الله في الكون، حتى لا تكون من أهل الهم والكدر

والتصوف:  هو معرفة الأسرار والتجليات والحكم الإلهية وإدراكها، وهذا هو العلاج لأصحاب الهموم

والتصوف: هو فك طلسم الجسد باسم الله، التصوف هو خراب هذا المبنى العامر الفاني تماما

والتصوف:  هو تحويل الصوفي مقاله إلى حال، فيحيي بحاله ومقاله معًا قلوب الناس دائماً

والتصوف:  هو الاطلاع على علوم التعبير والتأويل من خلال سبر الأعماق، وبهذا تُعرف الأسرار الإلهية الموجودة في الإنسان والكائنات والقرآن والسنة، والتصوف أيضاً هو أن تكون سرًّا من أسرار الله تعالى في الفؤاد

والتصوف:  هو أن تكون واعيًا وغائبًا داخل حيرة ودهشة كبيرة أمام عظمة الله تعالى وقدرته وجماله، لأن التصوف هو الإعجاب بأسرار الحق تعالى اللانهائية

والتصوف: هو إخراج كل شيء من قصر الفؤاد وبقاء الله تعالى وحده فيه، لأن التصوف هو أن يكون قلب المؤمن عرشاً لله تعالى، أي ذاكراً لله تعالى دائماً

والتصوف: هو بلوغ الشرق والغرب مع كل نَفَس، أي التفكير بأهل الإيمان هناك، ومشاركتهم سعادتهم وحزنهم، وخدمة أصحاب الحاجة، أي إن التصوف هو النظر في حال الناس كلهم والاهتمام بهم

والتصوف:  هو رؤية الحق تعالى في كل ذرة من ذرات الكون، فالتصوف هو أن يكون الصوفي كالشمس التي تنير العالم

والتصوف: هو فهم لغات العالم كلها، يعني فهم حالة كل شخص، أي إن التصوف هو أن تكون حاكماً لعالم العقل مثل حكم سليمان

والتصوف: هو حمل القرآن الذي هو أمانة إلهية على عاتق الإنسان، وحمل المسؤولية الناتجة عنها بجدية ورغبة؛ والتصوف هو نيل الآيات التي تبشر بالمغفرة الإلهية

والتصوف:  هو الرحمة بالخلق والشفقة عليهم والدعاء للكائنات كلها بـ(اسم الله الأعظم)، فبالتصوف يكون الصوفي قرآنًا حيًّا ورحمة للعالمين

والتصوف:  هو التوجه للحق تعالى في كل حال، وأن يكون الصوفي في خدمة الخلق يهوِّن عليهم كل أمر عسير

والتصوف: هو جعل فؤادك مكاناً للعلم الإلهي، أي امتلاك العلم اللدنِّي، فالتصوف إذاً تحول حال الصوفي الذي ما هو إلا قطرة واحدة إلى بحر واسع عظيم

والتصوف:  هو إحراق الأنانية بنيران (لا إله)، والتصوف هو أن تكون إنسانًا كاملًا بنور كلمة (إلا الله)

والتصوف:  هو دعوة الناس إلى طريق الحق تعالى بآية (قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا) (الرعد، 43)، وهو السعادة والطمأنينة بمآل (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) (الفجر، 28)

والتصوف: هو الإحساس بالموت والبعث ألف مرة في كلِّ يوم، حتى تصير روحاً للعالم كله وسببًا لإحياء الأفئدة الأخرى

والتصوف: هو إفناء الإنسان لنفسه في وجود الله تعالى، وإخفاء المرء نفسه بالقرب من الله عزَّ وجل الذي تجلى في رحلة المعراج واتضح في الآية الكريمة

(فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (النجم، 9)

والتصوف: هو إعطاء الروح للحبيب والنجاة من كل أنواع الأَسْر الفانية، والتصوف من هذه الناحية هو أن تكون روح الحبيب حقًّا. أي أن تكون محبوبًا أيضًا من طرف الحبيب

يا إبراهيم، التصوف في الأصل هو أن تكون عبداً لله تعالى، لهذا فالتصوف هو أن تكون شريعة محمد صلى الله عليه وسلم دليلًا في الفؤاد


تواضع نبي الرحمة

إن المديح والثناء منبعُ الغرور، ومن عِلل طغيان المرء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لصحابته

«...قولوا عبد الله ورسوله»

مع أنه أشرف الخلق، وهو الذي أثنى عليه الله جلَّ وعلا

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصِرُّ على أن يذكُرَ صحابتُه لفظَ: «عبدُه»  كما في قولهم:«أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله»، كي لا تقع أمته في الضلال الذي وقعت فيه الأمم السابقة حينما ألَّهت البشر، ويقول

«لا ترفعوني فوق حقي، فإن الله تعالى اتخذني عبدًا قبل أن يتخذني رسولًا»

والحق أن أولئك الذين ألَّهوا بوذا وكريشنا ، ولم يترددوا في جعل سيدنا عيسى   ابنًا لله -وحاشا أن يكون له ابن-، وأولئك الذين عبدوا فرعون ونمرود، وأشقياء الناس الذين سجدوا للحيوانات أو عبدوا القوى الطبيعية مثل النار والماء والهواء، كلهم لو أدركوا حقيقة نبيِّنا محمد حقَّ الأدراك، لرأوا فيه «إلهًا» بلا ريب

لذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول عن نفسه

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}

وكان عليه الصلاة والسلام يوضِّح عجزه الدائم في حضرة المولى سبحانه وتعالى، إذ قال

«لن يُنجِّيَ أحدًا منكم عملُه»

قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟

قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة»

أي إنه ما لم يتنزَّل عليه رحمة الله تعالى ومغفرته وكرمه وفضله، فلن يدخل الجنة، ولن ينجو بأعماله الصالحة

فما أعظم هذا التنبيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنبيهٌ يحمل بين طيَّاته شعورًا بالعبودية لله والتواضع والاستقامة والصدق

وعن أبي أمامة رضي الله عنه أنه قال

«كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، يكثر الذكر، ويُقصِر الخطبة، ويطيل الصلاة، ولا يأنف، ولا يستكبر أن يذهب مع المسكين والضعيف حتى يفرغ من حاجته»

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال

«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، ولقد كان يوم خيبر ويوم قريظة على حمار خِطَامه حبل من ليف، عليه إكافُ  ليف»

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه، فيدخل الغريب فلا يعرف النبي إن لم يسأَل عنه

ولما سُئِلَت عائشة رضي الله عنها، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في البيت، قالت

«كان يكون في مهنة أهله، فإذا سمع الأذان خرج»

«كان بشرًا من البشر يَفْلِي  ثوبه، ويحلُبُ شاته، ويخدم نفسه»

«كان يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم»

*

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرَ مثال للفطرة الحسنة في الإنسان بصدق معاملاته وتواضعه، فلم يكن سلوكه سلوكًا شكليًّا متصنعًا، بل كان أساسه الخِصال والشمائل الحميدة الكامنة في قلبه الطاهر المُطهَّر الذي لا مثيل له

يقول عدي بن حاتم

«قام النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه، إذ لقيَتْه امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته، فوقف لها طويلًا تكلمه في حاجتها، فقلت في نفسي: والله ما هذا بمَلِك، ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بي بيته، تناول وسادة من أدم  محشوة ليفًا، فقذفها إلي، فقال: اجلس على هذه، قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: بل أنت، فجلست عليها، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم بالأرض، فقلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال: "إيه يا عدي بن حاتم! ألم تك ركوسيًّا ؟" قلت: بلى. قال: "أولم تكن تسير في قومك بالمرباع ؟" قلت: بلى، قال: "فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك"، قلت: أجل والله، وعرفت أنه نبي مرسل، يُعَلَّمُ ما يَجْهل »

فكلُّ هذه الوقائع والأحداث توضِّح خير توضيح شخصيةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم السامية وجِبِلَّته الطيبة

وعن عامر بن ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف بالبيت، فانقطع شسع نعله، فأخرج رجل شسعًا من نعله ، فذهب يشده في نعل النبي صلى الله عليه وسلم فانتزعها وقال: «هذه أَثَرَة، ولا أحب الأَثَرَة»

ولم يكن نبي الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يهدي الناس وينير لهم طريق السعادة السرمدية يرجو أي منافع دنيوية، بل كان يستغني عن أمور الدنيا كلها


جعفر الصادق رحمه الله - 2

يقول جعفر الصادق رحمه الله

 لا تصحب خمساً

  الكذاب: فإنك منه على غرور، وهو مثل السراب يقرِّب منك البعيد، ويبعد منك القريب

 والأحمق: فإنك لست منه على شيء، يريد أن ينفعك فيضر بك

   والبخيل: فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه

 والجبان: فإنه يسلِّمك ويفر عند الشدة

 والفاسق: فإنه يبيعك بأكلة أو أقل منها، قيل: وما أقل منها؟ قال: الطمع فيها ثم لا ينالها" (الغزالي: إحياء علوم الدين، 2، 172)

وجاء في الحديث الشريف

المرء على دين خليله فلينظر أحدكم إلى من يخالل (أبو داود: الأدب، 16/4833)

  لا شك أنه ليس لأحد الخيرة في أبيه وأمه، والمحيط الذي يولد فيه. ولكن صداقته مع الآخرين من اختياره، فهو مسؤول عن اختياره هذا. والإنسان يخضع لتأثير أصدقائه في أحواله وأخلاقه، ويؤسِّس شخصيته وطباعه على ضوء هذه التأثيرات، وأكثر الناس يُسَاقون سواء إلى الطريق الصحيح أم نحو السلوك المعوج بتأثيرٍ من أصدقائهم، لهذا فإن تأسيس الصداقة مع أناس مبتلين بضعف أخلاقي وإلقاء المودة إليهم يفسد الحياة المعنوية

ويلفت جعفر الصادق رحمه الله انتباهنا إلى هذه الحقيقة، إذ يحذِّرنا من الاقتراب من ذوي الأخلاق الفاسدة والسلوك المشين والاختلاط بهم، ويستثني من ذلك حالة واحدة وهي مخالطتهم بقصد دعوتهم إلى الإيمان وإبداء النصح والإرشاد إليهم. لأن المخالطة وحال الأنس مع أمثال هؤلاء تساعد على انتشار الخصال السيئة والأهواء النفسية بسهولة، ويكون تأثيرها على حسب ضَعْفِ إيمان الشخص، ومن أكبر مخاطر هؤلاء صفة الكذب

لهذا فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الشريف

إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صدِّيقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب، حتى يكتب عند الله كذاباً" ( البخاري: الأدب، 69)

والصدق صفة عظيمة، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في معرض حديثه عن الحساب يوم القيامة

{هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} (المائدة:  119)

فالصدق صفة ملازمة لشخصية المسلم، لا تفارقه، حتى إن المشركين كانوا يصفون نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام قبل البعثة بـ"الأمين" عوضاً عن اسمه، ويصفونه بالصادق، لأن الأمانة والصدق كانتا من طبيعة شخصيته، وصفتان ملازمتان له في سلوكه

سُئِل النبي عليه الصلاة والسلام: أيكون المؤمن جباناً؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "نعم". فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: "نعم". فقيل له: أيكون المؤمن كذاباً؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "لا". (موطأ الإمام مالك: الكلام، 19. البيهقي، الشعب، 4، 207)

فالمؤمن غير معصوم عن الخطأ والانزلاق نحو المعاصي لطبيعته البشرية، ومع ذلك فإنه مهما تعرض لمواقف صعبة، وجارت عليه الظروف في الحياة، عليه الابتعاد عن الكذب، ولا ينبغي التخلي عن الاستقامة والصدق تحت أي ظرف. لذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يخرج عن الحق وقول الصدق حتى في مزاحه، ولقد بلغ درجة عالية في قول الحق والصدق حتى إنه لمَّا سمع يوماً امرأة تنادي صغيرها قائلة: تعال إلي وانظر ما الذي سوف أعطيك إياه! سألها: "وما أردت أن تعطيه"؟ قالت: سوف أعطيه بعض التمر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام

أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كُتِبَت عليكِ كذبة" ( أبو داود: الأدب، 80/4991؛ الإمام أحمد: مسند، 3، 447)

وينبغي ألا يغيب عن بالنا بأن الرجوع بالعهد، والإخلاف بالوعد، والخداع، والاحتيال، وغيرها من الصفات الذميمة، لا تفسد أخلاق الإنسان فقط، وإنما تؤثر سلباً في إيمانه. وفي ذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام

لا إيمان لمن لا أمانة له" (الإمام أحمد: مسند، 3، 135)

وقد أشارت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها إلى تأثير معصية الكذب في الفساد المعنوي الذي ينجم عنها في حياة الناس، إذ قالت

ما كان خلق أبغض إلى النبي عليه الصلاة والسلام من الكذب، وما اطلع منه على شيء عند أحد من أصحابه فيبخل له من نفسه حتى يعلم أن أحدث توبة" ( ابن سعد: 1، 378)

من معاني كلمة "المؤمن" التي تُطلَق اسماً مشتركاً على جميع مَن يؤمنون بالله الإيحاءُ إلى الناس بالثقة والأمانة، وأن من يتسمى بهذا الاسم هم أهلٌ للصدق والائتمان

وانطلاقاً من هذا الأساس ينبغي ألا يغيب عن بالنا بأننا أمة النبي الذي سُمِّيَ بالصادق الأمين حتى قبل نزول الوحي وتكليفه بمهمة النبوة، وعلينا اتخاذه قدوة لنا في كل القيم الأخلاقية التي كان يمثلها. لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال

المرء مع من أحب" (البخاري: الأدب، 96)

وهذه المعية ليست بالظاهر فقط، وإنما اتباعٌ للمحبوب في العمل والأخلاق. لهذا علينا التذكر دائماً بأننا بوصفنا مؤمنين ممثِّلون للأخلاق النبوية الحميدة التي اتصف بها نبينا عليه الصلاة والسلام، وعلينا السير وفق منهاج هذه الأخلاق الإسلامية لإظهارها وتطبيقها على أرض الواقع. وعلى المرء ألا يكتفي بالالتزام بمبادئ الصدق والاستقامة، وإنما عليه الانتباه في اختيار الأصدقاء والأصحاب ممن يتصفون بهذه الأخلاق الحميدة

أما الصنف الثاني من الناس الذي حذَّرنا جعفر الصادق من مصاحبتهم فهو صنف "الحمقى"، لأن الأحمق يضر بصديقه دون الشعور بذلك، وهو يظن أنه ينفعه. فحال الأحمق تشبه تماماً القصة التي يرويها لنا أحد الأولياء الصالحين: في أحد الأيام خرج رجل بصحبة عيسى عليه السلام، وبينما هم سائرون أبصر الرجلُ بعض العظام على قارعة الطريق، فقال لسيدنا عيسى عليه السلام متوسلاً

 يا عيسى، علمني الاسم الأعظم الذي تعرفه حتى أبعث هذه العظام إلى الحياة

فأجابه سيدنا عيسى عليه السلام

  إن هذا العمل ليس من شأنك، إن من يحيي العظام ويبعث فيها الحياة بقراءة الاسم الأعظم ينبغي أن يكون صاحب قلب ونفس أصفى من ماء المطر، ومتعبد لله تعالى أكثر من الملائكة. والاسم الأعظم يتطلب فماً لم يذق لقمة من الحرام أو شبهة حرام، وقلباً مخلصاً صافياً من كل شبهة تبعده عن الله عزّ وجل، أي أن يكون هذا الإنسان صاحب نفس طاهرة لم تتلوث بلقمة من حرام، ومطيعاً لربه سبحانه وتعالى بعيداً عن المعاصي والآثام مثل الملائكة. لأن الدعاء لا يُقبَل ممن لا يتمتع بنفس طاهرة

 ولنضرب لذلك مثالاً، إنك تستطيع الإمساك بعصا موسى عليه السلام بيديك، ولكن أتملك قوة موسى لتقلب العصا إلى حية... والذي تسألني عنه مثل ذلك، فما تنفعك قراءة الاسم الأعظم إن لم تمتلك نفساً كنفس عيسى؟

إلا أن الرجل الغافل لم يتوقف عند هذا الحد، بل قال لعيسى عليه السلام

 يا عيسى، إن لم تكن لي تلك القدرة، فاقرأ أنت على هذه العظام

فازدادت حيرة عيسى عليه السلام أكثر من كلام هذا الأحمق، وقال

أي رب! ما حكمة هذا الإصرار والعناد؟ وما سبب جنوح هذا الأحمق إلى الجدال إلى هذا الحد؟ إنه يسعى إلى إحياء جسد الآخرين بقلبه الميت، والأجدر به أن ينشغل بإحياء قلبه الميت؛ إنها لغفلة وحماقة محيرة

إن أسوأ حماقة في هذه الحياة أمرُ كل إنسان ينظر حوله ويرى بوجه عبوس وبعيد عن التأمل الكونَ والمخلوقات حوله التي تدل بكل وضوح على قدرة الخالق، وتحمل آثار صنع الله عزّ وجل، ثم لا تحمله هذه النظرة إلى الاعتبار والحكمة. ومن أكبر الحماقات المفجعة الغفلةُ عن تجليات عظمة الخالق وقدرته الظاهرة في الكون. فعلى الرغم من التنظيم الدقيق والمتكامل الذي يحيِّر العقول ويُعجِز الخلق عن الإحاطة به، يدَّعي الغافلون عديمو البصيرة بأن هذه الحياة والمخلوقات وُجِدَت بمحض الصدفة، ويرون أنفسهم كائنات عبثية كالحيوانات متحررين من كل مسؤولية أو واجب. ويقول الله عزّ وجل بحق هؤلاء

{لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179)

إن مَثَل هؤلاء الغافلين مَثل مَن يغطي عينَيه بأصابع يده، ثم ينكر بكل بساطة - هارباً من الحقيقة- وجودَ الشمس الساطعة في كبد السماء؛ فقد أعموا بصائرهم بغية إرضاء أهواء أنفسهم، وألقوا بقلوبهم في سجون الظلمات، لذلك فإن عقول الحمقى تفر من الأسئلة الكبرى التي تلح على الإنسان حول الكون والحياة، مثل

مَن خلق هذا الكون؟ وفي مُلك من نعيش؟ ولماذا جئنا إلى هذه الدنيا؟ وإلى أين نسير بعد هذه الحياة؟". فالفرار من التفكير بمثل هذه الأسئلة الكبرى والمصيرية في حياة الإنسان هو دائماً خيارهم الوحيد، إلا أن هذا الفرار وغفلة الإنكار لن تنجيهم من مواجهة الحقائق يوماً ما

ومن الحماقة البحثُ عن الحقيقة في غير مكانها، أي محاولة الوصول إلى السعادة في موارد المهالك والتعاسة، وإجهاد النفس وتعريضها للسوء من غير طائل

ومن الحماقات التي تدعو للشفقة انخداعُ المرء بالمظاهر والمتع الدنيوية الفانية نتيجة شهوات النفس، ثم تفضيلها على الحياة الأبدية في اليوم الآخر. حال هذا الشخص هي كما قال عمر t: "كمثل من باع آخرته بدنيا غيره" أي فقدان رضا الله عزّ وجل ونعيمه الأبدي نتيجة الانخداع بالمنفعة الزائلة من العباد

ولا تورث صحبة من وقع في الحماقات والغفلة إلا الخسارة والمضرة، إذ لا فائدة تُرجَى من الأحمق، فمن الحكمة الحذر من صحبة أمثال هؤلاء

وأما الصنف الثالث من الناس الذي يوصينا جعفر الصادق رحمه الله بالحذر منه في اختيار الأصدقاء والابتعاد عن صحبته فهو صنف "البخلاء

إن أكبر الأخطار على الثروة أمران: الأول "الإسراف"، والآخر "البخل". أما الإسراف؛ فهو مظهر من مظاهر سيطرة النفس من أجل إشباع الرغبات الدنيئة، وأما البخل؛ فهو مظهر من مظاهر الخوف والجبن، إذ هو الوثوق بالمال بدل التوكل والاعتماد على الله في الرزق

وقد بين الله عزّ وجل أن عباده الصالحين الذين رضيَ عنهم بعيدون عن هاتين الصفتَين الذميمتَين في قوله

{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان: 67)

ويقول الله عزّ وجل

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ (البقرة: 268)

 فالبخيل يسعى إلى جمع الأموال وتكديسها لنقص إيمانه وتوكله على الله عزّ وجل في موضوع الرزق، فالأرزاق مقسَّمة ومقدَّرة من الله تعالى، فيعتمد دائماً على ما لديه من الأموال لتجنب الفاقة والعوز. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في سورة الهمزة حيث يقول الله عزّ وجل

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ. يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ. كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ. نَارُ اللهِ المُوقَدَةُ. الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} (الهمزة: 1-7)

 إن البخيل يرى ماله ضمانة لوجوده، لذلك فإنه لا يتوانى في التخلي عن أصدقائه في الشدة والضيق خوفاً من الإنفاق عليهم وفقدان ماله، أي إنه يقبل فقدان صديقه والتخلي عنه بكل سهولة في سبيل الحفاظ على ماله، لأن البخيل محروم من القيم السامية التي لا تُقدَّر بثمن، مثل الوفاء، والرحمة، والصداقة، والإخلاص

والبخل صفة ذميمة، فهو مرتبط بكل الخصال السيئة وفي النهاية يورد الإنسان موارد التهلكة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام

البخل شجرة من شجر النار أغصانها متدليات في الدنيا، من أخذ بغصنٍ منها قاده ذلك الغصن إلى النار (البيهقي: شعب الإيمان، 7، 435)

وأما الصنف الرابع الذي أوصانا جعفر الصادق بالحذر من مصاحبتهم فهو صنف "الجبناء"، لأن الجبان يتمتع بشخصية ضعيفة، وإذا ما تعرض لموقف صعب فإما يلوذ بالفرار ويترك صديقه لمصيره، أو يسلمه لعدوه. ومثل هذه الصفات المذمومة غير منسجمة مع الأخلاق الإسلامية، ولا مع حقوق الأخوة الدينية، حيث يقول النبي عليه الصلاة والسلام

المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه" (البخاري: المظالم، 3؛ مسلم: البر، 58)

والمسلم الذي يتمتع بإيمان سليم لا يخشى أحداً إلا الله عزّ وجل، وبذلك فإنه ينجو من العبودية للعباد

ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام القدوة والمثل الأعلى لأمته في كل شأن، كان يستعيذ بالله عزّ وجل في دعائه من الخوف والجبن، وكان عليه الصلاة والسلام يمشي في مقدمة الجيش في كل غزواته، فيُعلِّم أصحابه معنى الشجاعة والإقدام

وقد روى لنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحد مواقف النبي عليه الصلاة والسلام الكثيرة والذي يبيِّن إقدامه وشجاعته التي لا مثيل لها في ميدان المعركة، حيث يقول علي رضي الله عنه

لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله عليه الصلاة والسلام وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً" (الإمام أحمد: مسند، 1، 86)

ونورد في هذا الموضوع مثالاً عن شجاعة الصحابة النابعة من إيمانهم الراسخ، والذي هو أحد الأمثلة التي لا تحصى عن شجاعة الصحابة، إنه الصحابي عبد الله بن أم مكتوم الذي تولى رفع الراية في معركة القادسية. (القرطبي: عبس، 1 - 4)

عندما حان موعد خروج الجيش إلى القتال، أراد ذلك الصحابي الجليل بإيمانه العميق الانضمام إلى الجيش والاشتراك في القتال، إلا أنه t كان أعمى العين، ولما سمع بإعفائه من الخروج والقتال بسبب عينيه، حزن هذا الصحابي الجليل. فأجابَ الذين أخبروه بإعفائه من الاشتراك في القتال بجواب بالغ الروعة إذ قال

 إنكم ترون حالي، غير أنني أستطيع أن أنفعكم نفعاً عظيمًا لأنني أعمى، ذلك أنني إذا خرجت لم أرَ سيوف العدو، فحملت الراية وتقدمت الجيش. وعندما يراني المسلمون أتقدم إلى جيش العدو من غير خوف ولا وجل، ستزداد عزيمتهم ويكرُّوا على العدو كرَّة رجل واحد

إن الشجاعة الإيمانية للصحابي الجليل عبد الله بن أم مكتوم درسٌ رائع في البطولة والإقدام للمؤمنين المتمتعين بكامل صحتهم وقواهم، أما الجبن فإنه عكس الشجاعة، فهو ضعف يورد الإنسان موارد المذلة والمهانة، ومظاهر هذا الضعف تنعكس على كل أحوال الشخص ومعاملاته؛ فالجبان لا يمكن أن يكون كريماً، لأنه يخاف على ماله من النقصان والوقوع في الفقر إذا ما أقدم على الإنفاق وتقديم الصدقات، لهذا لا خير في صحبة الجبناء لتأثيرهم السلبي في معنويات الإنسان

أما الصنف الخامس والأخير الذي يوصينا جعفر الصادق رحمه الله بالحذر من مصاحبتهم فهو صنف "الفاسقين"، لأن الفاسق أسير نفسه، فهو شخص جذبته المعاصي، واستحكمت بحياته أهواءُ النفس وشهواتها، لذلك فإنه لا يتردد في بيع صاحبه والتخلي عنه مقابل أي منفعة أو شهوة نفسية صغيرة

ويوصي القرآن الكريم بالالتزام بالحذر الشديد تجاه الفاسقين في الآية الآتية

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (الحجرات: 6)

 أي إنه لا يُؤمَن من الفتنة والفساد من الأمور التي يخبر بها الفاسق مما يبدو في الظاهر صحيحاً لرعونته ورغباته النفسية، لأن الفاسق لا أخلاق له، معتاد على الكذب، والافتراء، وتحقير الآخرين. ولهذه الأسباب لا يؤمَن النزول إلى البئر بحبل الفاسق، ولا يُؤخذ كلامه بالاعتبار، ولا يُوثَق بشهادته

ومن جهة أخرى، فإن صداقة أهل الكفر مثل الفاسقين لها تأثير سلبي في الإنسان، وتورث القلب القسوة والظلم. وفي الحادثة التي نقلها لنا الإمام الرباني في أحد مكتوباته عبر كبيرة، إذ يقول

لقد زرت يوماً مريضاً، وكان على وشك الموت، وعندما حاولت إصلاح حاله والدعاء له وجدت قلبه غارقاً في ظلمات شديدة، فمهما حاولت وتوسلت لرفع هذه الظلمة عن قلبه لم تزل، وبعد المحاولات والتوسل تبين لي أن هذه الظلمات سرت إلى قلبه من أهل الكفر، وأن أساس هذه المحنة مصاحبة أهل الكفر. وبعد ذلك أدركت أن دفع هذه الظلمات بالتوسل ليس في محله، لأنه لم يبق لإزالة هذه الظلمات إلا عذاب جهنم، وهذا جزاء من يصاحب أهل الكفر ويواليهم

ومعلوم أيضاً، أنه لا يُخلد في نار جهنم مَن كان في قلبه ذرة إيمان، وهذا الإنسان أيضاً سوف ينجو ببركة مقدار الإيمان في قلبه

وبعد ذلك خطر في بالي السؤال الآتي: هل يُصلَّى على مثل هؤلاء الجنازة أم لا؟ فرأيت أن أداء صلاة الجنازة على أمثالهم أمر في محله، لأن هؤلاء الناس من المسلمين. فعلى الرغم من وجود الإيمان فيهم فإنهم يقومون باتباع أهل الكفر في عاداتهم ويقومون بتقديس أيامهم وما إلى ذلك، ومع كل ذلك يجب أداء صلاة الجنازة عليهم، فليس من الصواب أن نجعلهم ضمن زمرة الكفار ولعل تمني نجاة هؤلاء من الخلود في العذاب الأبدي أمرٌ يؤمَل في نهاية المطاف". (الإمام الرباني: المكتوبات، 1، 266)

 نسأل الله تعالى أن يُلحِقَنا جميعاً بزمرة عباده الصالحين الذين أحبهم ورضي عنهم بفضله ولطفه وكرمه. آمين


جعفر الصادق رحمه الله - 3

يقول جعفر الصادق رحمه الله

من عاش في ظاهر الرسول فهو سُنِّي، ومن عاش في باطن الرسول فهو صوفي". (أبو نعيم: الحلية، 1، 20)

إن لبني آدم منذ أن خلقه الله عزّ وجل جانبَين

 جانب ترابي، أي إنه جسد مخلوق من تراب

 وجانب روحي، أي الجانب القلبي والمعنوي

لذلك فإن  أوامر الله عزّ وجل ونواهيه تنظِّم ظاهر الإنسان وباطنه. وعلى الإنسان تحقيق التوازن والانسجام الدائم بين كلٍّ من الجسد والروح، والعقل والقلب، وبين الأمور المادية والمعنوية، كي يعيش حياة عبودية مقبولة. لأنه لا يمكن إقامة الصلاة، ولا صيام رمضان، ولا القيام بأعمال الخير واكتساب الحسنات بدون جسد، إلا أن الجسد ليس وجود الإنسان الأساسي، وإنما الجسد لباس لتجلي الروح فيه، ويصل الجسد إلى النهاية بخروج آخر نَفَس منه

ولو أمعنا التفكير قليلاً، لأدركنا أن هذه الدنيا كبناء كبير له بابان، وأن أعداداً لا حصر لهم من البشر امتداداً من سيدنا آدم عليه السلام وإلى يومنا هذا قد دخلوا من أحد البابين وخرجوا من الآخر، وكما خُلِقَ الإنسان من تراب فإنه يعود مرة أخرى إليه، وسوف تستمر دورة حياة الإنسان على هذا النحو إلى يوم القيامة. وتحتوي هذه الأرض التي نسير عليها أصلَ كل البشر الذين سيأتون إليها، وتمتلئ أيضًا بأبدان مليارات من البشر الذين عاشوا فوقها وقضوا نحبهم فعادوا إلى ترابها، وكأن بعضهم متراكم فوق بعض، وسوف ندخل نحن أيضًا باطنه لا محالة، ونحتل مكاناً لنا هناك، وسوف تبدأ من بعدها حياةٌ أبديةٌ

وما ينفعنا في رحلتنا الأبدية إنما هو جمالُ القلب وما يدل عليه في الواقع من الأعمال الصالحة، لا القوة البدنية أو جمال الجسد، وفي ذلك يقول مولانا جلال الدين الرومي

لا تنظر إلى الجسد الذي يتمتع بالصحة والقوة، لأن الجسد نهايته الدفن في التراب؛ وإنما اسعَ لملئ قلبك بالروحانيات، لأن القلب هو الذي سيرتقي ويعلو شأنه اعملْ على إشباع الروح بالغذاء المعنوي، وقدِّم فكراً ناضجاً، وفهماً صافياً، لتنتقل الروح إلى اليوم الآخر قوية مطمئنة

إن غاية وجودنا في دار الامتحان الفانية هذه الرجوعُ إلى ربنا عزّ وجل بقلب سليم من رغبات النفس وشهواتها، لذلك أرسل الله عزّ وجل إلى بني آدم الرسلَ والأنبياء، وأنزل عليهم الكتب السماوية

وقد تجلى لطف الله عزّ وجل بالبشر في شخصية نبيِّنا محمد المبعوث أسوةً حسنةً ورحمةً للعالمين

وحياة نبينِّنا الكريم عليه الصلاة والسلام التي كانت تفسيراً حياً للقرآن الكريم مثالٌ لحياة "الإنسان الكامل" الذي أمرنا ربُّنا أن نقتدي به

وقد ذكرَ جعفر الصادق رحمه الله أن علينا الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام الذي جعله الله عزّ وجل قدوةً لنا ليس فقط في سلوكه الظاهري، وإنما ينبغي لنا السير على خطاه بقدر المستطاع والتشبه به من الناحية الأخلاقية. وإن الاكتفاء بالاتباع الظاهري للنبي عليه الصلاة والسلام أمر ناقص في سعينا للوصول إلى رضا الله تعالى، كالطائر الذي يهمُّ بالتحليق بجناح واحد

فمن الأولى معرفة النبي عليه الصلاة والسلام من حيث الجوهر، كما نعرفه من حيث الظاهر؛ أي معرفته بأحواله السامية وأخلاقه الحميدة من

 تقديمه وتفضيله الآخرة على الدنيا

زهده وورعه

 إخلاصه وتقواه

إحسانه ومراقبته لله عزّ وجل

الخشية والشعور بالعجز والضعف أمام تجليات قدرة الخالق عزّ وجل وعظمته، والتفكر في هذه التجليات

  الرقة والأدب في معاملة الناس

 رحمته بكل المخلوقات

 كرمه الذي لا يبلغه أحد، وإيثاره الآخرين على نفسه

إن جوهر التربية الصوفية بذلُ الجهد للاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام في كل أحواله، أي اتباعه في الظاهر والباطن؛ فالتصوف سعي للتحلي بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، والاستنان بسُنَّته، وبذلك يتم إدراك الدين بصورة كاملة على أنه شريعة، وطريقة، وحقيقة، ومعرفة؛ ثم بذل الجهد للعيش وفق هذه المفاهيم. ويمكن لنا أن نفقه دقائق هذه الأمور بالمثال التالي

إن الأكل بعد الشبع إسرافٌ في الشريعة

 والأكل حتى الشبع إسراف في الطريقة

 والأكل إلى حد الكفاية في غفلة عن الله تعالى إسراف في الحقيقة

 وأما في المعرفة- فإضافة إلى ما سبق- يعدُّ الأكل من غير إدراك التجليات الإلهية في النعم إسرافاً، لأن كل الكائنات التي خلقها الله عزّ وجل دليل قاطع على قدرة الخالق وعظمته

فالتصوف سعي للاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام في أخلاقه وأحوال قلبه وتفكره وتدبره

 لقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يربط الحجارة إلى بطنه من شدة الجوع، ولا تُوقَد النار في بيته لأيام، ولم يكن يجد ما يُؤكَل في بيته، ومع ذلك لم يكن يدَّخر لنفسه شيئاً من أموال الدنيا التي تقع بين يديه سوى ما يوفي به دينه، وكان يؤثر غيره على نفسه رغم حاجته، وينفق ما بين يديه على المحتاجين. وكان النبي عليه الصلاة والسلام بذلك يجد لذةً لا تجاريها لذات الدنيا الأخرى. ولم يكن يفكر بتلبية حاجته وحاجة أهل بيته ما دام أن هناك أحد من أصحابه له حاجة إليه. وكان يقول " أمتي أولاً " في كل الأحوال، فلا يهدأ له بال ولا يطيب له خاطر حتى يطمئن على سلامة أمته وأصحابه

والحادثة التالية خير مثال لما ذكرنا

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرَّ أبو بكر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرَّ ولم يفعل، ثم مرَّ بي عمر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرَّ ولم يفعل، ثم مرَّ بي أبو القاسم عليه الصلاة والسلام، فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: "يا أبا هِرٍّ" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "اِلحق" ومضى فتبعته، فدخل، فاستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبناً في قدح، فقال: "من أين هذا اللبن؟" قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: "أبا هِرٍّ" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "اِلحق إلى أهل الصفة فادعهم لي". قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها. فإذا جاء أمرني، فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام بدٌّ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت

قال: "يا أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "خذ فأعطهم" قال: فأخذت القَدَح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليَّ القَدَح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليَّ القَدَح فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليَّ القَدَح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القَدَح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال: "أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "بقيت أنا وأنت" قلت: صدقت يا رسول الله، قال: "اقعُدْ فاشرب" فقعدتُ فشربتُ، فقال: "اشرب" فشربت، فما زال يقول: "اشرب" حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكاً، قال: "فأرني" فأعطيته القَدَح، فحمد الله وسمى وشرب الفَضْلَة. (البخاري: الرقاق، 17)

فنفهم من هذه الحادثة أن أحباب النبي عليه الصلاة والسلام الذين يقتدون بنبيهم الكريم لا يقبلون الدفء إذا كان المؤمنون على وجه الأرض يرتجفون من شدة البرد، ولا يبيتون لياليهم وجيرانهم يتضوَّرون جوعاً، ويهتمون إذا أصاب إخوانهم في الإيمان همٌّ، ويعينون المظلومين وعابري السبيل واليتامى، ويرون في ذلك واجباً ودَيْناً في ذمتهم، وتمتلئ قلوبهم بالرحمة والإشفاق على المخلوقات كلها

فأين نحن من هذا كله؟ وكم قلوبنا رقيقة؟ وما تأثير السلوك النبوي في وجداننا؟ هل يمكننا ببصيرتنا التعرف إلى آلاف المحتاجين من إخواننا المؤمنين بسيماهم، والذين يمنعهم عن سؤال الناس حياؤُهم الشديد على الرغم مما يعانونه من ضيق ذات اليد وشدة الحاجة، فيجلسون في بيوتهم بعفتهم وكرامتهم؟ هل وصلنا إلى مستوى يحملنا على إيثار إخواننا المسلمين على أنفسنا، فبدل القول " نفسي أولاً " نقول " أخي المسلم أولاً "؟

لقد قدم الله عزّ وجل رسولَه لنا على النحو التالي

(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:  128)

فالله عزّ وجل يعبر عن محبة النبي عليه الصلاة والسلام لأمته وعطفه عليهم بصفتين خاصتين به عزّ وجل وهما "الرؤوف" و "الرحيم". وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام يحب أمته ويشفق عليها أكثر من الأم على ولدها، ومظاهر هذه المحبة قد تجلت بمرات لا حصر لها خلال حياته المباركة بين أصحابه

فكان النبي عليه الصلاة والسلام يمشي في مقدمة الجيش عندما يخرج المسلمون في غزواتهم، ليتلقى بصدره الصعاب والمشاق التي يمكن أن يتعرض لها أمته قبلهم، وأثناء العودة كان عليه الصلاة والسلام يمشي في مؤخرة الجيش ليعين الجرحى، ويواسي أصحابه المهمومين، فيشترك معهم في آلامهم وأوجاعهم، فيكون مصدراً للطمأنينة والمواساة لهم

ويؤكد النبي عليه الصلاة والسلام هذه الحقيقة بقوله

أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن تُوفِّي وعليه دَين فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته" (مسلم: الجمعة، 43؛ ابن ماجه: المقدمة، 7)

وكما أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في حياته ساعياً من أجل سلامة أمته، فإنه سوف يكون منشغلاً بهموم أمته من بعد وفاته، ويبين هذا الأمر بقوله عليه الصلاة والسلام

حياتي خير لكم تُحدثون وأحدث لكم، ووفاتي خير لكم تُعرض عليَّ أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم" (الهيثمي: جـ9، ص24)

فنجد مما سبق أن همَّ رسول الله عليه الصلاة والسلام الأكبر كان سلامة أمته ونجاتهم يوم القيامة. فكما أنه قضى حياته كلها وهو يجاهد بنفسه وبكل ما يملك في سبيل نجاة أمته، فإن أمته لا تغيب عن قلبه ولسانه وهو في عالم البرزخ، وهذا يفرض علينا أن نقابل محبته بمحبة مثلها، وذلك دَين لا بد أن يوفِّيه كلُّ مَن تشرف بدعوته وصار من أمته

فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو لأمته بالنجاة وهو في قبره، فكم هي رغباتنا وشهواتنا المستحكمة بأنفسنا؟ وإلى أي درجة نتحلى بالإيثار الذي يفوح من قول نبينا عليه الصلاة والسلام" أمتي، أمتي

وأي جهد بذلناه في سبيل تحقيق كثير من الرغبات التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يذكرها في دعواته من أجل أمته؟ وما الرغبات الدنيوية التي تخلينا عنها من أجل تحقيق رغبة واحدة للنبي عليه الصلاة والسلام؟

وما الحاجات المادية والمعنوية التي استطعنا تلبيتها لأمة محمد عليه الصلاة والسلام؟

وما الجهود التي بذلناها من أجل إنهاء هذا الإنحطاط الذي تعيشه أمتنا على صعد الحياة كافة من دين وأخلاق ومعاملات؟

لقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام العيش الحقيقي عيش الآخرة، وكان هذا دستوره في كل الأحوال سواء في الفرح أو الهم، وفي النصر أو الهزيمة، وفي الفقر أو الغنى، وكان يدعو بالدعاء الآتي

اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا!" .(الترمذي: الدعوات، 79)

فلننظر إلى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام ونتأمل في أحوالنا، ثم نسأل أنفسنا: هل القسم الأكبر من هواجسنا وهمومنا نتيجة المسائل الدينية والأخروية، أم أنها من هموم الدنيا اليومية والطموحات والرغبات النفسية المتقلبة؟

وأين الخوف من "الأنفاس الأخيرة" ومن "اليوم الآخر" والانشغال بهموم "أمة محمد" بين الهواجس والهموم اليومية التي لا حصر لها؟

وما ينبغي أن ننسى أن النبي عليه الصلاة والسلام قد حمَّلنا جميعاً مسؤوليةً عظيمةً تجاه أمته من خلال الأحاديث الكثيرة التي وردت في هذا الشأن. فينبغي لنا الوفاء للنبي عليه الصلاة والسلام الذي وصفه الله تعالى بـ"الرؤوف" و"الرحيم" فننشغل بهموم أمته، ونهتم لأمرها، ونلبي حاجتها، ونبذل الجهد من أجل ذلك بوجه متبسم كما كان وجه النبي عليه الصلاة والسلام. وقد اتفق العلماء المسلمون على وقوع المسلمين في الإثم والمعصية إذا امتنعوا عن رفع الظلم عن المظلومين في أي بقعة من بقاع الأرض إن كانوا قادرين، أو امتنعوا عن تقديم العون لإخوانهم المسلمين الذين يتعرضون للاضطهاد والأسر على يد الأعداء

وإنه لامتحان ربَّاني لنا اليوم ما يتعرض له من الظلم والعدوان والآلام إخوة لنا في بلدان كثيرة مثل ميانمار، وسوريا، وأفريقيا وغيرها من البلدان الإسلامية. وبقدر ما نكون حريصين على أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ونهتم بشؤونها ونؤدي أمانة رسول الله التي في رقابنا، يكون النبي عليه الصلاة والسلام راضياً عنا. أما إن غرقنا في دوامة الأنانية والأهواء النفسية، وأضعنا حقوق إخواننا في الدين، فإننا سوف نُحزِن نبينا ونُسيء إليه

فقد كان هذا الهاجس يشغل بال النبي عليه الصلاة والسلام، وقد قال محذراً أمته

إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها" (البخاري: المغازي، 17؛ مسلم: الفضائل، 31)

وينبغي ألا ننسى بأننا بحاجة إلى الشفاعة الكبرى للنبي عليه الصلاة والسلام يوم المحشر، والاجتماع تحت لواء الحمد عند حوض الكوثر للارتواء من الظمأ الشديد الذي يصيب العباد في ذلك اليوم العظيم. فالبقاء إلى جانب النبي عليه الصلاة والسلام ومعيَّته في ذلك اليوم ضرورة لا بدَّ منها

ويبشِّرنا نبيُّنا عليه الصلاة والسلام بالسبيل إلى تلك المعيَّة بقوله

المرء مع من أحب" (البخاري: الأدب، 96

إلا أن أصل هذه المعية هي معية الحال والعمل والأخلاق، هي معية الإحساس والفكر، وهي-بكلمة جامعة- معية الاستقامة. فمن يهتم بشؤون أمة نبينا عليه الصلاة والسلام، يكون معه يوم القيامة، ومن يؤدي عباداته بخشوع وتضرع يكون معه، ومن يكون رقيقاً في معاملاته مع الآخرين يكون معه عليه الصلاة والسلام

ويوضِّح مولانا جلال الدين الرومي قربَ الناس من رحمة الله تعالى المتجلية في القرآن الكريم والسنة النبوية بالمثال التالي

إن الشمس قريبة من الأغصان اليابسة والأغصان الخضراء على السواء، ولكن كم الفرق كبير عندما يحين موعد نضوج الثمار اللذيذة التي تكون على الأغصان الخضراء وهي تنشر الروائح الزكية حولها؟ وما فائدة قرب الأغصان اليابسة من الشمس سوى أنها تزداد يباساً وتتحول إلى حطب للنار؟"

يقول الله عزّ وجل

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (الإسراء: 82)

فمعيار قربنا الحقيقي من القرآن ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام هو مدى الاستفادة المعنوية من هذا القرب

أتى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام المقبرةَ

مرةً فقال

"السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله، بكم لاحقون، وددت أنَّا قد رأينا إخواننا". فقال الصحابة:  أولسنا إخوانك يا رسول الله؟. قال النبي عليه الصلاة والسلام: "أنتم أصحابي. وإخواننا الذين لم يأتوا بعد". فقالوا:  كيف تعرف من لم يأتِ بعد من أمتك يا رسول الله؟.  فقال عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة، بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟".  قالوا:  بلى. يا رسول الله!.  قال النبي عليه الصلاة والسلام: "فإنهم يأتون غُراً محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض. ألا ليُذادنَّ رجال عن حوضي كما يُذاد البعير الضال. أناديهم: ألا هلم! فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك. فأقول: سحقاً سحقاً" ( مسلم: الطهارة، 39)

فالسبيل إلى لقاء رسول الله عليه الصلاة والسلام وصحبته يوم القيامة إنما هو صحبته في الدنيا بالسير على منهاجه وسنته النبوية. ولا ينبغي الإعراض عن محبته وشوقه الشديد لنا، وإنما علينا مقابلة هذه المحبة بمحبة مثلها وتجديدها، لأن المحبة الحقيقية تجعل في قلوب المتحابين ينابيع من المشاعر والعواطف الجياشة التي تجري بين هذه القلوب

ويكون حال المحب كحال حبيبه، فالمحب يتشبه بمحبوبه على قدر محبته له. وأهم ما ينبغي أن نتعلمه من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أن تكون أحوال قلوبنا كأحوال قلبه على قدر استطاعتنا

فنفهم مما ذكرنا هنا أنه من غير الكافي القول بأني "أحب رسول الله"، فلو أننا نحبه حقاً، فلننظر إلى أي مدى تنعكس هذه المحبة على أخلاقنا وأحوال قلوبنا؟ وما درجة الرحمة والشفقة في قلوبنا، وما درجة أخلاقنا؟ وإذا صرنا إلى حالٍ خُيِّرنا فيها بين الدنيا والآخرة، فهل نستطيع قول: "إنما العيش عيش الآخرة"؟ وإذا تعرضنا لضائقة، فهل يمكن أن نتنازل في سبيل إيثار إخواننا في الدين على ذواتنا؟ أم أن كلامنا وأقوالنا عن المحبة سوف تبقى مجرد ادعاءات لا أصل لها؟

لهذا فإن وقتنا هذا وقتُ مراجعة الذات وإصلاح الأحوال فيما يتعلق بمحبتنا للنبي عليه الصلاة والسلام واتباعنا إياه؛ إنه وقت تحديد أخطائنا ونواقصنا والسعي لتلافيها

اللهم اجعل أحوال قلوبنا كأحوال قلب نبيِّنا الكريم! اللهم زيِّن قلوبنا بمحبته، وحياتنا بسُنَّته، واجعلنا ممن ينالون شفاعته يوم القيامة يا رب العالمين... آمين


جعفر الصادق رحمه الله تعالى - 1

يقول جعفر الصادق رحمه الله تعالى

إن الله تعالى خبأ ثلاثاً في ثلاث

رضاه في طاعته: فلا تحقروا منها شيئاً، فلعل رضاه فيه

وغضبه في معاصيه: فلا تحقروا منها، فلعل غضبه فيه

وخبّأ ولايته في عباده: فلا تحقروا منهم أحداً، فلعله ولي الله

 (أبو طالب المكي: قوت القلوب، 1، 347؛ الغزالي: إحياء علوم الدين، 4، 49)

 ويضيف رحمه الله على ما سبق

وخبأ إجابته في دعائه، فلا تتركوا الدعاء، فربما كانت الإجابة فيه (الغزالي، إحياء، 6، 49)

 فإن رضا الله عزّ وجل يكون مخبأً في أشياء كبيرة تارةً، ويكون في أشياء متوسطة أو صغيرة تارةً أخرى. فعلى الإنسان المؤمن القيام بجميع الأعمال الصالحة دون تمييز في قدرها، سواء كانت هذه الأعمال تبدو في نظره كبيرة أو صغيرة

كان أبو بكر رضي الله عنه قبل أن يصبح خليفةً للمسلمين، يعتني ببنات يتيمات يسكنَّ في جواره، فيرعى لهنَّ أغنامهنَّ، ويقوم بشؤونهنَّ. وبعد أن تولى رضي الله عنه الخلافة على المسلمين ساد اعتقاد بين الناس أنه بتغير ظروف الحياة على أبي بكر وشؤون الخلافة الكبيرة الملقاة على كاهله، سيترك مثل هذه الأعمال التي تبدو في نظرهم حقيرة، إلا أن الأمر بقي على حاله ولم يطرأ عليه أي تغير، واستمر رضي الله عنه في تأدية هذه الخدمة التي علِمَ أنها مقدرة عليه بكل تواضع ورضا

وإذا كنا نؤمن بأن الله تعالى وحده الذي يعلم أي الأعمال الصالحة التي تحبِّب العبد إليه وينال بها رضاه، فلا بد أن نؤمن أيضاً أن أن غضب الله عزّ وجل ربما يتجلى في ذنوب صغيرة، وقد يتجلى في ذنوب متوسطة أو كبيرة، وأمر ذلك عائد إلى الخالق وحده. والإنسان العارف المدرك لهذه الحقيقة يشعر بثقلٍ كثقل الجبال على عاتقه إذا ما ارتكب ذنباً صغيراً بحق أي من العباد. وأما الغافل الشارد عن هذه الحقيقة فلو اقترف أكبر الذنوب فإنه يشعر بها خفيفة على عاتقه، وممتعة لنفسه. ومثل هؤلاء يفنون عمرهم في غمار شهواتهم الدونية، ويتيهون في سكرة غفلتهم ظانين أن أبواب السعادة قد فُتِحَت لهم على مصراعيها

يقول الصحابي الكريم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه ( البخاري: الدعوات، 4؛ مسلم: التوبة، 3)

وانطلاقاً من هذه الرؤية لا يُفَرِّق المؤمن أبداً- سواء فيما يتعلق بالذنوب والمعاصي أو الطاعات- بين صغيرة أو كبيرة فيها، وإنما يبذل قصارى جهده في تجنب المعاصي، والإتيان بالطاعات مهما صغرت. وعلى المؤمن النظر إلى هذا الأمر على أنه امتحان من الله عزّ وجل، وعليه تقييم كل المسائل بفراسة وبصيرة وإحساس بالعبودية المطلقة لخالقه عزّ وجل من صميم قلبه، وبكل كيانه

وعلى المؤمن أن لا يبعد عن ذهنه أبداً القاعدة التالية: عليك أن تَعُدَّ كلَّ من رأيتَ  الخَضِرْ، وكلَّ ليلة ليلةَ القدر

وقد قيَّد اللهُ عزّ وجل فضلَ العبد وعلو شأنه على الآخرين بشرط التقوى، لأن قيمة العبد لدى الله عزّ وجل لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى. والتقوى محلها القلب، وأبواب القلب مغلقة إلا على الله عزّ وجل. وكما أن الإنسان يستحيل عليه الاطلاع على ما في القلوب والعلم بها، فمن البديهي أن يجهل مَن له الفضل والامتياز من العباد. وعلى هذا الأساس فإن  الاستهزاء بعباد الله عزّ وجل، والسخرية منهم، والكِبر والغرور، صفات لا تستقيم مع الأخلاق الإسلامية الحميدة. ويحذِّر المولى عزّ وجل عباده من مثل هذه الأخلاق الرذيلة بقوله

{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} (الهمزة: 1

وقد أشارَ نبينا محمد عليه الصلاة والسلام إلى أصل من الأصول المهمة، إذ قال

كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبَه له لو أقسم على الله لأبرَّه (الترمذي: المناقب، 45/3854

وقال أيضاً

ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف مُتَضعَّفٍ، لو أقسم على الله لأبرَّه" (البخاري: الأيمان 9، التفسير 68/1، الأدب 61؛ مسلم: الجنة، 47

فيظهر لنا من كل هذا أنه على المؤمن بالله أن يُحسِنَ الظن بعباد الله مهما كان حالهم، وأن يعاملهم بأدب وإحسان. وعلينا المداومة -بقدر طاقتنا- على الدعاء إلى الله تعالى، بكل الأدعية التي نعرفها، ابتداءً من تلك الواردة في القرآن الكريم، والمأثورة عن النبي عليه الصلاة والسلام وغيرها، لأننا لا نعلم أي دعاء قد يكون مقبولاً وسبباً في نجاتنا، ونجهل بفضل دعاء أي شخص قد ننال رحمة الله

سُئِلَ جعفر الصادق رحمه الله

ما بالنا ندعو بالدعاء، فلا يستجاب لنا؟

فقال

لأنكم تدعون ذاتاً لم تعرفوه حق معرفته

عندما يتفكر المؤمن بقدرة ربه عزّ وجل وعظمته، يبدأ باكتساب معرفة الله عزّ وجل، فمعرفة الله هي العلم بالله تعالى شعوراً بالقلب، ويقيناً بالعقل. ودرجة قبول الحق تعالى للعبادات مرتبطة بشعور العبد وإحساسه بمعرفة الله تعالى. ويشير الله عزّ وجل إلى ذلك في قوله

{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9)

إن المقصود بالعلم في هذه الآية هو العلم بالله تعالى، أي معرفة الله عزّ وجل

ومن ناحية أخرى، كلما ازدادت معرفة العبد ويقينه بربه، ازداد دعاؤه والتجاؤه إليه. وإخلاص العبد لربه والتوجه إليه بالدعاء والعبادات بقلب صافٍ إنما هو أساس تقربه إلى الله تعالى

وتوضح الآية الكريمة التالية هذه الحقيقة

{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} (الفرقان: 77)

ولهذا فإن المؤمنين العارفين بالله نراهم دائمي الذكر والالتجاء إلى ربهم بالدعاء، فحياتهم كلها قائمة على الدعاء والتضرع سواء في السراء أو الضراء. وابتعاد العبد عن الدعاء إشارةٌ إلى بعده عن الحق. وما أصل كل الذنوب والمعاصي إلا الحرمان من معرفة الله تعالى، أي قلة المعرفة التي تليق بالله عزّ وجل

ذات مرة نبَّه قاسم بن محمد شخصاً عندما سمعه يقول عن رجل ارتكب ذنباً

ما أجرأ فلان على الله تعالى

فقال له قاسم بن محمد

ابن آدم أهون وأضعف ممن يكون جريئاً على الله، ولكن قلْ: ما أقل معرفته بالله (ابن عساكر: تاريخ دمشق، 49، 180)

فالمؤمن العارف بالله تعالى يلتجئ إلى ربه بمشاعر الخضوع، والتذلل، والعجز، ويلتزم حدود الأدب، فيكون عبداً لربه باختياره. يقول الحسن البصري رحمه الله

لا أخشى عليكم من قول: لا يُستَجَاب دعاؤنا، وإنما أخشى عليكم الامتناع عن الدعاء

فتَركُ الدعاء بظن عدم الاستجابة هو وقوعٌ في مكيدة الشيطان، وعليه فإن المؤمن الحق لا ينبغي أن يدع سلاح الدعاء الذي يحميه من الشيطان عدوه الأزلي اللدود، وإنما ينبغي أن يلهج لسانه بالدعاء دائماً ومن صميم قلبه

إن الدعاء عبادة عظيمة إذ إنها أمرُ الله، كما أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول في الأحاديث الشريفة

الدعاء هو العبادة" (رواه الترمذي :3372) . "الدعاء مخ العبادة". (رواه الترمذي :3371). تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة (رواه أبو داود)

يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً" (الترمذي :3556؛ أبو داود، 1488)

"من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة. الدعاء مفتاح الرحمة" (رواه الترمذي :3130)

الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والأرض" ( المستدرك على الصحيحين، ص 162/698/1855)

 وبناء على هذا الحديث فإن في الدعاء مصلحة وفائدة للعبد المؤمن سواء استُجيبَت دعوته أم لم تُستَجَب، ذلك أن بعض الدعاء يُستجَاب في حياة المرء فيكون وسيلة لتحقيق مراده، وبعض الأدعية لا تُستجَاب في الحياة الدنيا لحكمةٍ لا يعلم بها إلا الله ﷻ. فيؤخِّر الله تعالى الاستجابة إلى يوم القيامة وتكون وسيلة لمكافأة العبد في الحياة الأخروية

ويقول الله تعالى في الآيات الكريمة

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: 186)

{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ  دَاخِرِينَ} (غافر: 60)

وخلاصة القول أنه من واجب المؤمن إطاعة أوامر ربه عزّ وجل، وإحاطة نفسه بالدعاء تضرعاً إليه سبحانه وتعالى، لا سيما في ساعات السحر التي هي أوقات استجابة الدعاء، فلا ينبغي حرمان نفسه من الدعاء والاستغفار والذكر لربه تعالى في هذه الأوقات المباركة

يقول  جعفر الصادق رحمه الله

"إن خير العباد من يجتمع فيه خمس خصال: إذا أحسن استبشر، وإذا أساء استغفر، وإذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا ظلم غفر" (ابن شمس الخلافة: الآداب النافعة، ص 14)

فالمؤمن يتلذذ عند القيام بعمل الخير، مع إدراكه أن الأعمال الصالحة وسيلة للطمأنينة، وإذا ما زلَّت قدمه واقترف ذنباً فإنه يسارع إلى التوبة والاستغفار، فلا يعرف الإصرار على الخطأ والذنوب، وهو يعلم أن الإصرار على الذنب صفة من صفات الشيطان، فيتلافى خطأه شاعراً بالندامة في قلبه

ويصف رسول الله عليه الصلاة والسلام لنا طريق الرجوع والتوبة، وتلافي نتائج الذنب المُقترَف

اتَّقِ الله حيثما كنت، وأتبِعْ السيئةَ الحسنة تمحُهَا، وخالِقْ الناس بخلق حسن" (الترمذي: البر، 55/1987)

إن المؤمن الحق يحب الله تعالى أكثر من نفسه، ويقدم طاعة ربه على أهوائه وشهواته. فيقابل النِّعمَ التي تُغدَق عليه بالشكر، والبلاءَ الذي ينزل عليه بالصبر والحمد فلا يجزع لحكم الله أبداً، وهذا هو الشرط الأول للوصول إلى الاطمئنان القلبي والراحة النفسية

ويشير النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذه الصفة في الإنسان المؤمن في الحديث الشريف

عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيراً له؛ وإن أصابته ضرَّاء صبر، فكان خيراً له " (مسلم: الزهد، 64)

يبيِّن لنا هذا الحديث بأنه على المؤمن أن يكون حريصاً في كل الأحوال التي يتعرض لها من خير أو شر على الاستفادة منها لتحقيق سعادته الأخروية. فعلى المرء مقابلة أخطاء الآخرين بالتسامح لوجه الله تعالى، فالله عزّ وجل يعفو ويغفر لعباده دائماً، وعلى المؤمن أن يعمل بإخلاص ليصل إلى حال يكون فيها جديراً بعفو الله عزّ وجل عنه

يقول جعفر الصادق رحمه الله

لا يتم المعروف إلا بثلاثة: بتعجيله وتصغيره وستره" (أبو نعيم: حلية الأولياء، 3، 198)

فلا بد من الإسراع في القيام بأعمال الخير، لأن كثيراً من الموانع قد تطرأ عند  التأخير والمماطلة في تنفيذ الأعمال المرضية لله عزّ وجل، فالشيطان والنفس يوسوسان للعبد دائماً ليتخلَّى عما فكَّرَ به وعزم عليه من أعمال الخير، وإن لم تُفلِح الوسوسة بتخليه عن عمل الخير، فإنهما يسعيان لإفراغ هذا العمل من معناه وتجريده من ثوابه، بإيجاد غايات نفسية وشخصية  لدى القائم بعمل الخير من رياءٍ، وعجب، وكبر

إن العدو الأكبر للأعمال الصالحة هو الغرور، والكبر، والمباهاة. فعلى المرء أن يحيط أعماله بالسرية والكتمان لكي يبتعد عن هذه الخصال السيئة، وإن كانت طبيعة بعض أعمال الخير تقتضي ظهورها أمام الناس، فعلى المرء الإخلاص في عمله لله. ومما يحمي القلب من الغرور والعجب والكبر، استصغارُ ما قام به المرء من أعمال الخير في نظره مهما بلغت هذه الأعمال من الكثرة والأهمية، والإحساس بالتقصير الدائم في عمل الخير. وفي ذلك قال العارفون بالله تعالى: "انسَ شيئين

انسَ حسنات عمل الخير الذي أديته، حتى لا يورثك عملك الغرور، والعجب، والكبر

انسَ أعمال السوء التي تأتيكَ من الناس، حتى لا تورِّث قلبكَ بذور الحقد والضغينة

وقالوا أيضاً: "لا تنسَ شيئين

لا تنسَ ذنوبك وتقصيرك، وانشغل بالتوبة والاستغفار حتى تمنع نفسك من التكبر والغرور

ولا تنسَ إحسان الناس إليك، لكي لا تقع في انعدام الوفاء ونكران الجميل

وخلاصة الكلام أنه على العبد الإقبال بكل كيانه على الأعمال الصالحة لكي لا يبوء بالخسران يوم القيامة، مع مراعاة الإخلاص لله في أعماله بحذر شديد. فإن من سوء تقدير المرء أن يملأ جعبته بالخير الكثير من جهة، ويفرغها من جهة أخرى لفقدانه الإخلاص، فيلقى الله تعالى يوم القيامة صِفرَ اليدَين دون أن يدرك السبب

يقول جعفر الصادق رحمه الله

تتحقق الصداقة بخصائص تتصف بها، فإن رأيت إحدى هذه الخصال في أحد الناس، فاعلم بأنها علامة على الصحبة والصديق الحقيقي: أولى خصال الصداقة، المودة إليك خالية من العوض والغايات؛ "البعد عن المصالح الشخصية". ثانيها، حزن الصديق لحزنك ومصائبك وكأنها واقعة عليه، وفرحه لفرحك وسعادتك. ثالثها، لا تغيره الأموال والملك؛ "يبقى متواضعاً". رابعها، لا يحقد عليك ولا يحسدك بشيء. خامسها، إذا اجتمعت فيه هذه الخصال، فإنه لا يتخلى عنك ولا يتركك في الشدائد" (الصفدي: الوافي بالوفيات، بيروت 1420، 1 ، 100)

 إن أكثر الناس في زماننا هم أصدقاء المنفعة والمصلحة، فينبغي ألا ينخدع الإنسان بالمظاهر الخارجية البراقة للأشخاص، والكلام الذي يجري على ألسنتهم بادعاءات الصحبة والصداقة، بل لا بد من اختبار لهؤلاء النماذج في الظروف الصعبة حيث تنكشف النوايا وتنجلي المواقف الصادقة

ولا ينبغي الحكم على شخص ما دون الاطلاع على هويته الحقيقة، من خلال التعامل واختباره في ذلك

وأهم ثروة يمتلكها الإنسان في هذه الحياة، هو صاحب صادق يحبه في الله، ويحثه على طاعته في ساعات الغفلة، ويفتديه في الشدائد، ويقدم له يد العون والمساعدة إرضاءً لله تعالى

فالصديق الحقيقي يكون "حبيباً، لا حِملاً " أي لا يكون حملاً ثقيلاً على صاحبه، وإنما عكس ذلك، يحرص على تخفيف حمله وهمومه

والصديق الحقيقي مثل النجمة في السماء التي تتلألأ مضيئةً في ظلمات الليالي، فيبذل كل ما بوسعه لينير لصاحبه أيامه المظلمة، ويحزن لحزن صاحبه

فلا ينبغي الوقوع في خطأ الحكم على الصداقة الحقيقية من خلال جلسات القهوة والشاي في أيام الرخاء والسعة، وإنما أصل الصداقة صداقة أيام الشدة والظروف الصعبة

لقد أصبح إيجاد صديق حقيقي أمراً عسيراً في هذا الزمان، فعلى الإنسان المؤمن العمل على جعل نفسه صديقاً حقيقياً لغيره، وأن يكون نموذجاً حياً في سبيل إكثار هذا النوع من الصداقات

يوضِّح جعفر الصادق رحمه الله تعالى حقيقة التعوذ الذي نتلفظ به قبل قراءة القرآن الكريم، إذ يقول

إن التعوذ الحقيقي عند قراءة القرآن الكريم هو حفظ اللسان عن الكذب، وتطهيره من الغيبة والافتراء" . (البورصوي: روح البيان، 10، 515، ( النهل، 100)

 إن المؤمن عندما يتوضأ فينظف فمه استعداداً لتلاوة القرآن الكريم وذكر الله تعالى، يحقق بذلك طهارة ظاهرية، لكن عليه أيضاً الحرص على الطهارة الباطنية من خلال الاستغفار والتوبة عن الطبائع السيئة من الكذب، والغيبة، والافتراء وغيرها، فيطهرها بدموعه وتضرعه إلى ربه عزّ وجل. لأن القرآن الكريم يُتلَى بالأساس من القلب، وإن لم يُتلَ بقلب طاهر، فلا يمكن إدراك فيض معاني القرآن الكريم وروحانيته

وفي تحذير السيدة عائشة رضي الله عنها عِبَرٌ عظيمة إذ تقول

يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب ولا يتوضأ من الكلمة الخبيثة يقولها لأخيه" (ابن أبي شيبة: مصنف، 1، 125)

والحق أن القلب إذا ما فسد بالطباع السيئة، فلا يبقى معنى لنظافة الجسم وجمال المظهر الخارجي. وقد كانت هناك أبيات مكتوبة على باب أحد حمامات إسطنبول القديمة تعبر عن هذا المعنى خير تعبير

إن لم تكن طينتك غير مطهرة

فلست أنت بجسمك خير أمة

والمقصود: إذا كنت ذا صفات سيئة، وإنساناً فاسداً، فلا تأمل خيراً من الحمام! وإذا كنت تريد نظافة تامة، فاغسل قلبك أولاً، ثم اغسل جسمك

ذات يوم غسل إبراهيم بن الأدهم رحمه الله تعالى فم رجل سكران يُدعَى عياشاً، وقد كان يسيل لعابه فتفوح منه رائحة نتنة، فسأله أصحابه عن ذلك، فأجابهم

لو أني تركت هذا اللسان والفم اللذَين خُلِقَا لذكر الله تعالى على حالهما، لكان ذلك سوء أدب مني مع الله سبحانه وتعالى

كان عياش سكراناً عندما نُظِّفَ فمه، ولما أفاق من سكرته قيل له

إن زاهد خرسان إبراهيم بن الأدهم قد نظف فمك

في هذه اللحظات استفاق قلب عياش الذي كان محجوباً عن ذكر الله تعالى وقال

إن كان الأمر كذلك، فها أنا تبتُ إلى الله تعالى

أدعو الله تعالى أن يوفقنا جميعاً إلى تطهير أنفسنا ظاهراً وباطناً، وأن نبلغ رضاه بعبوديتنا له في هذه الحياة الدنيا، ونلقاه بقلب سليم من الأحقاد والضغائن

آمين


جودُ نبي الرحمة

يقول سيدنا ابن العباس عن جود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة»

وعن ابن عباس وعائشة قالا

«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان، أطلق كل أسير وأعطى كل سائل»

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال

«ما سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال لا»

ومن أخلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يردُّ سائلًا، فإن لم يكن عنده شيء استرضاه بوجه طلق وكلمة طيبة

والمثال التالي يعرض لنا جمال جود رسول الله صلى الله عليه وسلم

«بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدًا فيما بين أصحابه، أتاه صبي فقال: يا رسول الله، إن أمي تَستَكْسِيكَ درعًا، ولم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قميصه، فقال للصبي: "من ساعة إلى ساعة يظهر [كذا] فَعُدْ [إلينا] وقتًا آخر"، فعاد إلى أمه، فقالت: قل له: إن أمي تستكسيك القميصَ الذي عليك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم داره، ونزع قميصه وأعطاه، وقعد عريانًا؛ فأذن بلال للصلاة فانتظروه فلم يخرج، فشغل قلوب الصحابة، فدخل عليه بعضهم فرآه عريانًا»

وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسَه بأنه مسؤول عن الإنفاق، وبيَّن أن الصاحب الحقيقي لكل شيء إنما هو الله سبحانه وتعالى

وقد شهد صفوان بن أمية -وكان من أكابر مشركي قريش- حُنينًا والطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن مسلمًا آنذاك. ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في الغنائم ينظر إليها، ومعه صفوان بن أمية، جعل صفوان ينظر إلى شِعب مُلئ نَعَمًا وشَاءً ورِعَاءً، فأدام إليه النظر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه، فقال: «أبا وهب، يعجبك هذا الشِعب؟» قال: نعم. قال: «هو لك وما فيه». فقال صفوان عند ذلك: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله! وأسلم مكانه

ولما رجع إلى قومه قال

«يا قوم أسلموا، فوالله إن محمدًا ليعطي عطاءً ما يخافُ الفقر»

وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال

«ما عندي شيء أعطيك، ولكن استقرض حتى يأتينا شيء فنعطيك»

وكان النبي صلى الله عليه وسلم كجده إبراهيم عليه السلام لا يأكل الطعام وحده. وكان يأمر بإيفاء دين الميت أو كان يوفيه بنفسه، ولم يكن يصلي على الميت إن كان عليه حق لأحد، ويقول في الحديث الشريف

«السخي قريب من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار»

ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث آخر

«خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق»

ولم يكن صلى الله عليه وسلم يطمئن ويسكن حتى يوزِّع حصته من الغنائم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال

«إن أناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يسأله أحد منهم إلا أعطاه حتى نفد ما عنده، فقال لهم حين نفد كل ما في يديه:  "ما يكن عندي من خير لا أدخره عنكم، وإنه من يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ الله، ومن يتصبَّر يُصبِّره الله، ومن يستغن يغنه الله، ولن تعطوا عطاء خيرًا وأوسع من الصبر


حجة الوداع

لقد اكتمل الدين المبين في حجة الوداع، وتمت مهمة النبي الكريم المبعوث رحمة للعالمين، وكانت الحجة إشارةً إلى قرب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

وفي خطبة ذلك اليوم قال نور الوجود صلى الله عليه وسلم لأصحابه

ألا هل بلغت؟ ثلاثًا

ثم رفع يديه إلى السماء وقال ثلاثًا

«اللهم اشهد»

وبذلك أدَّى الأمانة المقدسة التي حملها على مدى ثلاثة وعشرين عامًا، فظلت رحمةً لأمته حتى قيام الساعة

وهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي لم يتقلَّد سيفًا من قبل، ولم يتعلم فنون القتال، ولم يشارك في حروب الجاهلية إلا مرةً واقتصرت مشاركته حينها على المشاهدة، صار - على رحمته الواسعة التي عمت البشر جميعا- مقاتلًا لا يتأخر عن أشد المعارك وطيسًاوذلك في سبيل إعلاء راية التوحيد  وإصلاح المجتمعات. واستطاع فتح الجزيرة كلها في تسع سنين بجيش كان غالبًا أقل عددًا وعدة من جيش الأعداء. وحقَّق فتوحات عظيمة بالمعنويات العالية التي زرعها في أولئك الذين كانوا من قبل غير منظَّمين، وبفنون القتال التي علَّمهم إياها. فاستطاع من جاء بعده أن يهزموا إمبراطوريتَي الروم والفرس اللتَين كانتا أعظم إمبراطوريتين آنذاك، فتحقق الوعد وما بشَّر به يوم الخندق

لقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم الذي قاد أعظم ثورة في تاريخ البشرية مع وجود الظروف السلبية أن يُخضِع الظالمين ويواسي المظلومين، وكان الأب الحنون لليتامى والمساكين، فزال الغم والهم والكدر من القلوب، فقد كان صلى الله عليه وسلم منبع الشفاء ومصدر السلوى والعزاء

ولولا ولادة رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الذي جمع الفضائل كلها، لظلَّ البشر يعانون من الظلم والتوحش حتى قيام الساعة، ولصارَ الضعفاء أسرى الأقوياء، ولرجحت كفة الميزان لأهل الشر، ولأمسَت الدنيا في يد الظالمين والمتجبِّرين


خير أمة

يقول الله تعالى

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران: 110)

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33)

لقد فخرت هذه الأمة –وحُقَّ لها أن تفخر- بما شهد الله تعالى لها به، حيث يقول سبحانه

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110]

فهذا الثناء الرباني على الأمة المحمدية ليس تشريفا فحسب، بل هو تكليف أيضًا، فمناط الخيرية في أمة الإسلام مرتبط بالإيمان بالله تعالى، والاستقامة على شرعه، وهداية الخلق إليه

{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:110]

 فمن حقق الشرط تحقق له المشروط وقامت به الصفة؛ كما قال عمر رضي الله عنه

(من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها) تفسير ابن جرير الطبري، 4 / 43

فالمسلم الحقيقي هو الذي يمثل الإسلامَ بشخصيته وسيرته، فهذا الدين العظيم يطلب من كل مؤمن به أن يكون ذا «شخصية» مميزة

وقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام قبل أن يُبلِّغ الإسلامَ ذا شخصية فاضلة يعرفها الناس كلهم

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صعد النبي عليه الصلاة والسلام على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي» - لبطون قريش - حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟» قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا

وبعد الإقرار على صدقه وأمانته، شرع في تبليغ أوامر الله ونواهيه. وعندما بلَّغ المسملون هذا الدين العظيم مقتدين برسولهم، نشأت حضارة عظيمة مليئة بالفضائل والقيم في عصر الرسول والخلفاء الراشدين، وفي خلافة عمر بن عبد العزيز، وفي القرون الثلاثة الأولى من حكم المسلمين الأندلسَ، وفي القرون الثلاثة الأولى من الخلافة العثمانية. وظهرت حضارة إنسانية فريدة ارتقت في الأخلاق، والعلم، والحياة الاجتماعية والاقتصادية، والعمارة، والأدب.ولنذكر هنا مثالَين لنتعرف إلى أصحاب تلك الحضارة العظيمة

سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه

لقد كان سيدنا عمر رضي الله عنه قبل أن ينال شرف الإيمان مثالًا للإنسان الجاهلي الذي لا يجد رحمة أو رقة في قلبه ولا يراعي حقوق أحد. غير أنه بعد إيمانه صار ذا قلب رقيق يتحلى بالإيثار والحكمة، ومَضْرَب مَثل في العدالة. فما عاد عمر رضي الله عنه ذلك الإنسان ذا الطبع الفظ الغليظ القلب، بل حلَّ مكانه عُمرُ الرؤوف الخاشع الحذر حتى من إيذاء نملة، والمفكر في سعادة الأمة، والشاعر بالمسؤولية العظيمة

فكان يحاسب نفسه دائمًا ويقول: «لو هلك حَمْلٌ من ولد الضأن ضياعًا بشاطئ الفرات خشيت أن يسألني الله عنه».  وكان يحمل جراب الطعام في الليل ويدور على بيوت الفقراء والمحتاجين، وكان دائمًا إلى جانب اليتامى والمساكين. وما كان يجد الراحة والسكينة في فؤاده قبل أن يواسي المنكسرة قلوبهم، ويمسح دموعهم، ويزرع الابتسامة في وجوههم

عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

حفيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وخامس الخلفاء الراشدين. تقول زوجته فاطمة مبينة حاله التي تعكس رقة قلبه

دخلتُ يومًا عليه وهو جالس في مصلاه واضعًا خده على يده ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مَالَك؟ فقال: ويحك يا فاطمة، قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور. والغريب والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي عزّ وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد عليه الصلاة والسلام ، فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت

لقد نشأت حضارة الإسلام العظيمة بمثل هؤلاء من ذوي القلوب المهتمة بأمر الأمة، والتي تركت راحتها في سبيل راحة عباد الله وسعادتهم. فلم يجد أغنياء تلك الحضارة فقراء يدفعون لهم زكاة أموالهم، ذلك أنهم كانوا خير أمة ولم يكن أحدهم يبيت وجاره جائع إلى جنبه

إننا من خير أمة توضِّح شخصية الإسلام في الإيثار والأخوة في الدين

يقول مولانا جلال الدين الرومي

«علَّمني شمس الدين أدبًا عظيمًا حين قال

(إذا كان في الدنيا مؤمن واحد يشعر بالبرد، فليس لك حق أن تتدفَّأ)

ولأنني أعلم أنه ثمة مؤمنون في الأرض يشعرون بالبرد، فلن أشعر بالدفء ما حييت

ويقول الشيخ أبو الحسن الخرقاني

       إن أي أخ لي في الدين من الشام إلى تركستان إذا ما دخلت شوكةٌ إصبعه، فكأنما دخلت إصبعي؛ وإذا أُصيبت قدمه بحجرة، فستؤلم قدمي؛ وإن كان هناك حزن في قلب ما، فذاك القلب قلبي

وهكذا هم الناس في خير الأمم

فكل حضارة فاضلة تربي إنسانًا فاضلًا يمثِّل صفاتها وشخصيتها

إن الحضارة الإسلامية وصلت إلى ما لم تصل إليه الحضارات الأخرى في تاريخ الإنسان. وعلة ذلك أنها كانت حضارة قائمة على دعم الفطرة البشرية السليمة بما وهبها الله من علم وعرفان وحِكم. وكانت نتيجة اندماج هذا الاستعداد الفطري وتلك الفيوضات الروحانية ظهورَ حضارة عظيمة، ألا وهي: الحضارة العثمانية

والحق أن العثمانيين برعوا في الجانب المادي وارتقوا في الجانب الروحاني، وما فتحوا البلاد إلا ليفتحوا القلوب ويُدخِلوا فيها أنوار الإيمان

وهذا ما عبَّر عنه مؤسس الدولة العثمانية عثمان الغازي في نصائحه لابنه أورخان الغازي ولكل من يأتي بعده من رجال الدولة، إذ قال

واعلم يا بني أن طريقنا الطريق إلى الله، ومقصدنا تبليغ دينه. وليست دعوتنا صراع وحروب لحُكم العالَم، بل لإعلاء كلمة الله

وأما أورخان غازي فقد فضَّل الفتح المعنوي على فتح البلاد، فقال: «المروءة أفضل من الغزوة». وكان يخلِّد الفتوحات بهداية الناس، فيُسكِن أولًا أهل الله والصالحين في البلاد التي يفتحها، فكان عيش هؤلاء وتبليغهم الدين بأحوالهم وسيلة هداية لأهل البلد كلهم

وكان من نصائح أورخان غازي لابنه مراد

لا يكفي سيادة العثمانيين على قارَّتين، فدعوة إعلاء كلمة الله دعوة عظيمة لا تسعها قارَّتين

فدخل السلطان مراد أوربا بعمله بهذه النصيحة، ووصل إلى كوسوفو

ودعونا نتساءل هنا: لمَ ترك مراد خان الأول جمالَ عاصمته بورصا وراحتها وذهب إلى كوسوفو؟ في سبيل أي غاية ضحَّى بنفسه؟

والجواب أنه أراد أن يكون من خير أمة تتبع نبيَّها، ومن المؤمنين الأخيار السعداء، ومن أمة تدعو للخير، وأن يسير على نهج المهاجرين والأنصار الذين جعلهم الله لنا جيلًا نقتدي بهم

يقول الله تعالى

{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]

في هذه الآية يحذِّر ربنا عزّ وجل عباده الذين ابتعدوا عن السعي لنيل رضاه بانخداعهم بزينة الحياة الدنيا وبهائها وراحتها

لذلك ترك الصحابة الكرام بساتين النخل في المدينة وتوجهوا إلى سمرقند، بل وصلوا حتى الصين، وتوجه المسلمون إلى إسبانيا في خلافة عمر بن عبد العزيز، وفتح عقبة بن نافع القيروان، وكان يدعو الله معبِّرًا عن إيمان عميق فيقول: يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهدًا في سبيلك

إن كل ما فعله هؤلاء السلف العظام إنما ينطلق من خوفهم وخشيتهم من قوله تعالى

{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}

وقد ترك السلطان العثماني مراد راحة الدنيا مقتديًا بهؤلاء وسعى في سبيل الله تعالى، واستوطن من سار على دربه في البلاد التي فتحها. فدخل البوشناق في بوسنة الإسلامَ فكانوا يتحلون بالصدق والولاء وعلو الهمم، وصارت ألبانيا جزءًا لا يتجزأ من خير الأمم

وكان همُّ العثمانيين إعلاء كلمة الله عزّ وجل ، وتعريف الناس بالطمأنينة والراحة في الإسلام، والدعوة للخير والحق، والسعي لنجاة الناس في دار القرار

وقد توجه السلطان محمد الفاتح بحملة إلى طرابزون لطرد البيزنطيين منها، وأراد أن يدخل القلعة من قسمها الخلفي، فسلك طريقًا بين الجبال والغابات، وكان حاملو الفؤوس يفتحون الطريق قبل الجيش. وفي حواف إحدى الأودية تعثرت فرس السلطان الفاتح، فنزف الدم من يده وهو يسعى للتمسك بصخرة. وكانت معه في تلك الحملة السيدة سارة أم السلطان أوظون حسن، فقالت له منتهزة الفرصة

أيها السلطان أنت سلطان ابن سلطان، وحاكم كبير، أتستحق هذه القلعة الصغيرة منك كل هذه المشقَّة؟

ذلك أن أوظون حسن كانت له علاقة قرابة مع أمير طرابزون البيزنطي، فأرسل أمه مع السلطان فاتح كي ترجو رجوعه عن هذه الحملة. فقال الفاتح

أيتها السيدة العجوز، لا تظني أن المتاعب التي نتحملها إنما هي في سبيل قطعة أرض، بل اعلمي أن كل سعينا لخدمة دين الله، وتبليغ هذا الدين للناس، ولكي لا نقف أمام الله تعالى ووجوهنا مسودة. وإن اخترنا راحة البدن على التعب في سبيل الله مع قدرتنا على تبليغ دينه وإعلاء كلمته، فهل نستحق أن نسمى غزاةً؟ إن لم نبلغ الإسلام لأهل الكفر ولم نكفهم عن طغيانهم فبأي وجه نلقى الله يوم القيامة؟

فالمسلم في هذه الأمة يكون إسلامه ناقصًا إن كان قائمًا على المنفعة لا المشاركة الاجتماعية، فلا بد أن يتسع صدر المسلمين للعالَم كله، وعلى كل مسلم أن يرى نفسه مسؤولًا عن ما يحدث حوله

إن هؤلاء السلاطين شخصيات ربَّتهم خير الأمم، فعبروا عن شخصية الإسلام في كل مجالات الحياة

إننا من خير أمة تعرض شخصية الإسلام في العمارة

عندما ننظر إلى مسجد السليمانية في إسطنبول نجد وكأنه صورة إنسان يدعو الله فاتحًا يديه إلى السماء. وليس ذلك إلا لانعكاس ما بداخل القلوب الطاهرة التي بنت هذا المسجد على حجارته وجدرانه ومناراته وقبابه

إن هذا المسجد تحفة فنية لحضارتنا التي مزجت بين المادة والروح

وأبناء تلك الأمة لم يكونوا ليبنوا بيوتهم إن كانت ستحجب ضوء الشمس عن جيرانهم. وأما الأبنية في هذه الأيام وناطحات السحاب فهي كشواهد القبور لتلك المدن التي لا روح فيها

إن كل جزء من الحضارة مثل كل حجرة وكل خط وكل عنصر يساهم في كمال التحفة المعمارية، ولأن «الإنسان» مركزُ حضارتنا، فإن العظمة والرفعة في هذه الحضارة أصلها إنما هو ذلك الإنسان الذي يمثلها

إننا من خير أمة تعرض شخصية الإسلام في الإنسانية

في الماضي كانت العادة إن مرض أحد في البيت أن يضعوا أصيصًا أحمر اللون في الشرفة، فإن رآه الباعةُ المتجولون مروا بهدوء، وإن رآه أطفال الحي لعبوا في حي آخر كي لا يزعجوا المريض

لقد كانت تلك التربية نتاج نظام تربوي فريد، فأي مربٍّ أو أي عالم نفس أو أي دارس للمجتمعات يمكن له أن يقدم مثل هذه التربية هذه الأيام؟

إننا لا نجد مثل تلك الترببية اليوم، بل نجد أن حق المجتمع كله يُنتَهك في حفلات الزفاف والأفراح حين يُطلِق الناس الألعاب النارية من أجل المتعة، دون أن يفكروا إن كان في جوارهم رضيع أو حامل أو مريض أو محزون لفقد قريب

مع أن أجدادنا- خير الأمم- كانوا أناسًا أصحاب قلوب رقيقة لا يؤذون حتى أضعف مخلوقات الله سبحانه وتعالى

فقد كان في أمتنا أتباع عزيز محمود هدائي ذوو القلوب الصافية الذين لم يكونوا ليقطفوا وردة خشية أن يمنعهم ذلك عن الذكر

وكان في أمتنا أتباع يونس أمْرَه الذين لم يكونوا ليؤذوا حتى النملة وكان شعارهم: «نحب المخلوقات من أجل الخالق». وكان في أمتنا أتباع المعماري سنان، والخطاط قره حصاري، والشاعر فضولي. وكان في أمتنا شخصيات قدوة تعكس للعالم جمال قلب المؤمن وظرافته وعظمته

إن هذه الأمة أتباعُ مولانا جلال الدين الرومي، ويونس أمْرَه، والجيلاني، وشاه نقشبند، وعزيز محمود هُدائي، والسلطان فاتح، والشيخ آق شمس الدين، والسلطان ياوز سليم

وحضاراتنا حضارة فضائل، فالواجب علينا اليوم أن نسير على دربها

يقول الشاعر التركي عارف نهاد آسيا

فليفض الإيمان من القلوب مرة أخرى

وليؤلِّف عطري ألحانه

وليقرأ شلبي آيات الله

ولينسخ كايشزاده عثمان نسخ القرآن

وليكتب غالب أشعار النعت

وليكتب سليمان أشعار المولد

وليرجع سنان مع الأعمدة والقناطر والقباب

ونحن إن نظرنا في التاريخ سنجد أن الطمأنينة والسعادة والراحة تبقى في المجتمع ما عاشت خير الأمم

وأما شعار النظام الليبرالي: «دعه يعمل، دعه يمر» فلم يكن إلا سببًا لإطلاق العنان للرغبات النفسانية، وإفساد القلوب والأذهان بزرع مفهوم الحياة دون التفكير في الآخرة

واليوم نعيش في عصر بلغت فيه قدراتنا المادية أوجها، غير أن الأرواح ما زالت مريضة، والقلوب عطشى، والإنسانية كلها في دوامة لا مفر منها نتيجة الجوع المعنوي

لكن إن نظرنا إلى عصر الرسول وخلفائه الراشدين فلن نجد أحدهم يعاني من نقص في الروحانيات مع قلة قدراتهم المادية

فأولئك وصلوا إلى المعنى الحقيقي للطمأنينة والسعادة، وأدركوا أن لا عيش إلا عيش الآخرة

فمن الضروري اليوم أن نسعى لنكون «خير أمة» كما كان السلف الصالح

يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام

مَثَل أمتي مثل المطر لا يُدرَى أوله خير أم آخره [الترمذي، الأمثال، 6]

فاللهم أكرِمنا بأن نكون قطرة خير في هذا الغيث المبارك

يقول الله عزّ وجل في الآية الكريمة

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]

فيجب علينا- أمة محمد - أن نكون دائمًا أعزة على غير المسلمين وأعداء الدين، ونتحلى بالوقار ونعرض شخصية الإسلام والمسلم الحقيقي

والله سبحانه تعالى يأمرنا حتى في العبادة أن نكون أصحاب شخصية، فنحن حين نقرأ الفاتحة في كل صلاة نتلوا قوله تعالى

{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6-7]

فتؤكد هاتين الآيتين الكريمتين على الشخصية التي يجب أن تكون لدى المسلم، وضرورة أن يحيا كل مسلم متحليًا بهذه الشخصية في أمور حياته

ولقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يصون عزة الإسلام ووقاره، فقد أمر بصيام يوم مع يوم العاشر من محرم كي لا نتشبه ببني إسرائيل. ولا يخفى على أحد اليوم المفاسد التي لحقت بقيمنا المعنوية وشخصيتنا نتيجة ثقافة العولمة وعقلية الرأسمالية والمادية والليبرالية

فما يبثه التلفاز من مشاهد تحرك شهوات النفس، والعناوين المريبة في الإنترنت، والإعلانات الخداعة، والهوس بكل جديد، يجعل من أجيالنا كالرجال الآليين تحركهم أصابع الثقافة المادية، فيغدو أحدنا ظاهرًا لا روح فيه، وتُفرَض علينا قيم خبيثة لا علاقة لنا بها، ونرتبط بعالَم ليس عالَمنا. ويمسي مجتمعنا مجتمعًا أنانيًّا قائمًا على المنفعة، ويفتر الإيمان، وتضيع الأخلاق والفضائل، وتنعدم الرحمة والرأفة والإنسانية، ويصبح الرجل منا جاهلًا فظًا لا مشاعر فيه. وتصبح الطرق الموصلة إلى السعادة والطمأنينة في المجتمع عسيرة مليئة بأشواك الماديات. إن المجتمع اليوم- مع الأسف- في أسوء حال، فلا بد أن ترتقي قلوبنا ونتمسك بقيمنا المعنوية أكثر كي نتخلص من هذا الفساد الذي حلَّ في كل مكان، ونقف قبل أن نسقط في الهاوية، ونمثِّل المسلم الحقيقي بالمحافظة على شخصية الإسلام دائمًا

اللهم أكرمنا بأن تجعلنا من «خير أمة» تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر


خير أمّة

الحمد لله الذي شرف أمة الإسلام فصنعها على عينه وأخرجها للناس أمة وسطا، والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد، من أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده

وبعد

لقد فخرت هذه الأمة –وحُقَّ لها أن تفخر- بما شهد الله تعالى لها به، حيث يقول سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]

فالأمة المحمدية -بشهادة البارئ سبحانه وتعالى- خيرُ الأمم، غيرَ أنَّ هذه الخيريةَ ليست نابعةً عن مجاملةٍ أو محاباة، وإنما سببها ما ذكره الله تعالى بعد ذلك: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}

فهذا الثناء الرباني على الأمة المحمدية ليس تشريفا فحسب، بل هو تكليف أيضًا، فمناط الخيرية في أمة الإسلام مرتبط بالإيمان بالله تعالى، والاستقامة على شرعه، وهداية الخلق إليه

 فمن حقق الشرط تحقق له المشروط وقامت به الصفة؛ كما قال عمر رضي الله عنه: (من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها) تفسير ابن جرير الطبري، 4 / 43

وهذه الخيرية في الأمة إنما تنبع من مجموع أفرادها، فالمسلم الحق هو الذي يمثل الإسلامَ بشخصيته وسيرته، مستظلا بقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33]

وعندما بلَّغ المسلمون هذا الدين العظيم مقتدين برسولهم في أخلاقه وسيرته، نشأت حضارة عظيمة مليئة بالفضائل والقيم في عصر الرسول والخلفاء الراشدين، واستمرت تخبو حينا وتنتعش أحيانا عبر العصور حتى عهد الدولة العثمانية التي كانت حضارة إنسانية فريدة ارتقت في الأخلاق والعلم والأدب، ورعت الحياة الاجتماعية والاقتصادية، نشرت الدين ودافعت عنه، وثبتت على الحق وأعلت رايته، وحافظت على قيم الحضارة الإسلامية الأصيلة وعملت على إحيائها

وكثيرة هي هذه القيم التي تميزت بها الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم السابقة، حتى شرفت بهذا الثناء، ولكننا سنسلط الضوء –في هذه العجالة- على بعض هذه القيم مستشهدين عليها بسلوك بعض من أفرادها

 أمة الثبات على الحق والتضحية في سبيله

فالأمة المسلمة أمة ثبتت على دين الله تعالى كما أنزله الله تعالى دون تحريف أو تبديل، وضحَّت في سبيل ذلك بكل غال ونفيس، وليس أدل على هذه الصفة في الأمة من أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فقد بذل في سبيل نصرة دين الله تعالى كل ماله، حتى إذا سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة: "وما أبقيت لأهلك؟" قال: "أبقيت لهم الله ورسوله" (ابو داوود، زكاة، 40)

ولأنه كان يبذل ما يبذله بكل صدق وإخلاص قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا نَفَعَنِي مَالُ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ"، فبكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وقال: هَلْ أَنَا وَمَالِي إِلَّا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (ابن ماجة،  المقدمة، 11/94)

ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن لأحد من الصحابة أن ينفق كل ماله، خشية أن يقع فريسة الندم فيحبط أجره، إلا لسيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد كان كقلعة إيمان لا تتزحزح، وقال فيه سيدنا علي رضي الله عنه: "كنت كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله الرواجف" (أبو نعيم، معرفة الصحابة، جـ1، ص 264)

وبقي على هذه الحال مدافعًا صلبًا عن الإسلام، لا يتنازل عن أحكام الدين بحال من الأحوال، وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت على الحق في وجه المرتدين، وأظهر في مواجهتهم صلابة وشدة، وقال قولته المشهورة: (والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها)، وبذلك أغلق كل الأبواب أمام تحريف الدين ومنعَ اتساع الفتنة

وهكذا هي الأمة المسلمة ثابتة على الحق، لا تتزحزح عنه قيد شعرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها

 أمة القسط والعدل

والأمة المسلمة أمة العدل بين الناس جميعًا، مسلمهم وكافرهم، غنيهم وفقيرهم، بَرِّهم وفاجرهم، ترعى شؤون رعاياها، وتصلح أحوالهم، تأخذ الحق للمظلوم من الظالم، وتنصف المحكوم من الحاكم

وليس في الدنيا أبلغ مثالا على العدل من عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فبعد أن اطمئن قلبه بالإيمان صار مَضْرب المـَثل في العدالة والإيثار والحكمة، فما عاد عمر ذلك الإنسان ذا الطبع الفظ الغليظ القلب، بل صار عُمر الرؤوف، المشغول بما يصلح الأمة، والأمين على كل فرد فيها.

فكان يحاسب نفسه دائمًا ويقول: «لو هلك حَملٌ من ولد الضأن ضياعًا بشاطئ الفرات خشيت أن يسألني الله عنه 

وكان يحمل جراب الطعام في الليل ويدور على بيوت الفقراء والمحتاجين، وكان دائمًا إلى جانب اليتامى والمساكين، وما كان يجد الراحة والسكينة في فؤاده قبل أن يواسي المنكسرة قلوبهم، ويمسح دموعهم، ويزرع الابتسامة في وجوههم

عمر الذي أنصف القبطي من ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه، ما منعه مقام أبيه ولا دينه من أن يأخذ الحق للقبطي منه

عمر الذي قال كلمته المشهورة في وجه الدنيا، معلنا عدل الإسلام ورحمته: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)

أمة الزهد

وهي أيضا الأمة التي حذرها نبيها من الركون إلى الدنيا، والانشغال بمتعها وملذاتها عن نشر دين الله والجهاد في سبيله، فقال عليه الصلاة والسلام: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم) "صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، 5261

ولا نعلم في الأمة نموذجا أدلَّ على هذه المزية من عمر بن عبد العزيز، من جاءته الدنيا راغمة فأعرض عنها، متأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أبي بكر وعمر رضوان الله عليهم

يقول مالك بن دينار رحمه الله: "الناس يقولون: إني زاهد؛ إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها" تاريخ الإسلام (1/831) للذهبي

ويقول ابن عبد الحكم: "لما ولي عمر بن عبد العزيز زهد في الدنيا، ورفض ما كان فيه، وترك ألوان الطعام، فكان لا يهمه من الأكل إلا ما يسد جوعه، ويقيم صلبه، وكانت نفقته وعياله في اليوم درهمين". سيرة عمر لابن عبد الحكم 38

 وتصف زوجته فاطمة حاله التي تعكس رقة قلبه: (دخلتُ يومًا عليه وهو جالس في مصلاه واضعًا خده على يده ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مَالَك؟ فقال: ويحك يا فاطمة، قد وليتُ من أمرِ هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت)

وهكذا تكون خير أمة، لا تلتفت إلى الدنيا ولا تنشغل بها عن أمر الله ونهيه، وإقامة دينه وشرعه

أمة الدعوة والهداية

إنها الأمة التي أمرها الله تعالى بنشر الدين وهداية الخلق، والجهاد ضد كل من يقف في وجه ذلك، ولذلك ترك الصحابة الكرام بساتين النخل في المدينة حتى وصلوا إلى الصين، وتوجه المسلمون إلى إسبانيا في خلافة عمر بن عبد العزيز، وفتح عقبة بن نافع القيروان، وكان يدعو الله تعالى بقلب ينبض بالإيمان، فيقول: «يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهدًا في سبيلك

ولذلك كان همُّ العثمانيين إعلاء كلمة الله تعالى، وتعريف الناس بالإسلام، والدعوة للخير والحق، والسعي لنجاة الناس في دار القرار

وهذا ما عبَّر عنه مؤسس الدولة العثمانية عثمان الغازي في نصائحه لابنه أورخان الغازي ولكل من يأتي بعده من رجال الدولة، إذ قال: «واعلم يا بني أن طريقنا الطريق إلى الله، ومقصدنا تبليغ دينه، وليست دعوتنا صراع وحروب لحُكم العالَم، بل لإعلاء كلمة الله

وأما أورخان غازي فقد فضَّل الفتح المعنوي على فتح البلاد، فقال: «المروءة أفضل من الغزوة». وكان يخلِّد الفتوحات بهداية الناس، فيُسكِن أولًا أهل الله والصالحين في البلاد التي يفتحها، فكان عيش هؤلاء وتبليغهم الدين بأحوالهم وسيلة هداية لأهل البلد كلهم

واستمر سلاطين بني عثمان على هذا النهج إلى زمن قريب، فها هو السلطان عبد الحميد الثاني -على ما كان يعانيه من مآزق ومصاعب في إدارة الدولة ومواجهة خصومها- لم يهمل أبدا هداية الخلق ما إن تسنح له الفرصة لذلك، حتى مد نفوذ الخلافة ليشمل العالم كله، فأسس في «بَكينْ» مؤسسة للتدريس الديني كانت تُسمى (الجامعة الحميدية) قامت بفعاليات دينية كبيرة في «بَكينْ» لفترة طويلة، كما أرسل إلى اليابان هيئة علمية عُرفت في تاريخنا باسم (فاجعة أرطغرل) كانت مهمة تلك الهيئة نشر الإسلام في تلك الأماكن، واستفاد من الظلم الواقع على الزنوج في «أمريكا»، فأرسل إليهم رجالا للدعوة بهدف جذبهم إلى العالم الإسلامي، ومن الحقائق التاريخية الثابتة أنه كان عاملا رئيسيًّا في تشكيل الوجود الإسلامي الزنجي الموجود حاليًا

ولا عجب في ذلك فهؤلاء السلاطين تربوا على عين الأئمة الربانيين أمثال مولانا جلال الدين الرومي الذي قال: «علَّمني شمس الدين أدبًا عظيمًا حين قال: (إذا كان في الدنيا مؤمن واحد يشعر بالبرد، فليس لك حق أن تتدفَّأ) ولأنني أعلم أنه ثمة مؤمنون في الأرض يشعرون بالبرد، فلن أشعر بالدفء ما حييت

فالواجب علينا اليوم أن نسير على درب هؤلاء الربانيين، لنعود أهلا لوسام خير الأمم، مستبشرين ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم

«مَثَل أمتي مثل المطر لا يُدرَى أوله خير أم آخره». [الترمذي، الأمثال، 6]

فاللهم أكرِمنا بأن نكون قطرة خير في هذا الغيث المبارك


ذكر الله ومراقبته

(أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد، 28)

يرى كثير من اللغويين أن كلمة «إنسان» هي اشتقاق من كلمة «نسيان»، ولعل لهذا الرأي وجاهته المنطقية وسنده الواقعي، فالآفة الكبرى للإنسان هي النسيان، وهي أكبر نقاط ضعفه وأسباب هلاكه

والطريق الأنجع للقضاء على هذه الآفة إنما هو الذكر

كما أن الإنسان إذا عاد إلى أصل خلقته وإلى حديث ربه إليه وإلى كل العباد عندما كانوا في عالم الذر حين قال لهم المولى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) فنطق الناس في عالم الذر بالحقيقة الأزلية، وأقروا بالعبودية لربوبيته سبحانه

فإذا عاد الإنسان إلى إقراره الذي أقر به، عندها يدرك الغاية التي خُلق من أجلها، والطريق الذي ينبغي أن يسير فيه، ويحيا وفيًا للعهد الذي قطعه لربه والميثاق الذي أخذه على نفسه، فلا ينسى خالقه أبدًا، ولا يزيغ قلبه أو يضلُّ إدراكه عن ربه؛ فيعيش على فطرته، ولا تهلكه آفته أو يضيعه النسيان، فهذا التذكر للعهد والميثاق هو الذكر

ويعتمد الذكر على التكرار الذي يقوي الفهم، ويرسخ المعنى ليستقر في الذاكرة كما استقر في اللسان

لكن الاعتماد الأكبر في الذكر ليس على ترداد الكلمات باللسان إنما على استقرار المعنى في القلب وانشغال الروح به، فالله سبحانه لا ينظر إلى صورنا وأجسادنا وإنما ينظر إلى قلوبنا، فالقلب هو محل التجليات الإلهية، فينبغي حمايته من الغفلة والنسيان وتحصينه وتزيينه بالذكر

وثمة دلالة عميقة في القرآن الكريم على كثرة ورود كلمة «الذكر»، فقد تكررت في أكثر من مئتين وخمسين موضعًا، ولعل في ذلك تأكيدًا على مدى أهمية الذكر، وعمق أثره على العبادة، وترسيخ العبودية في النفس

ويصل العبد إلى حقيقة العبودية أكثر فأكثر كلما تعمق في معنى الذكر؛ فكلما ترسخ الذكر في قلبه وتعمق في مشاعره كانت معرفتُه لله أعمق، ولذلك كان الذكر مناط عبادة القلب، فمعرفة الله تعالى هي أرقى المعارف وأعظم العلوم وأنفعها للإنسان

وقد أنزل الله تعالى آياتٍ في هذا الخصوص كي لا يغفل عبادُه عن روحانية الذكر، إذ يقول المولى تعالى

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) (الحديد، 16)

(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) (العنكبوت، 45)

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (البقرة، 152)

وحتى حين أرسل الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون، أمرهما بألا يغفلا عن ذكره

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) (طه، 42)

ولَكم هو خسران كبير أن يذكر اللهَ تعالى كلُّ ما في الكون في حين يغفل الإنسان عن ذكره وهو أشرف المخلوقات،

يقول الله تعالى

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) (الإسراء، 44)

ولا ريب أن ذكر الله لا يقتصر على لفظ كلمة «الله» وتكرارها على اللسان، بل لا بُدَّ أن تجد هذه الكلمة وقعها في القلب الذي يشكل مركز الإحساس، يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

«مثل الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت» (البخاري، الدعوات، 66)

«علامة حبِّ الله تعالى حب ذكر الله» (السيوطي، الجامع الصغير، جـ 52)

وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«الذين يذكرون من جلال الله من تسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله يتعاطفن حول العرش لهن دويٌّ كدوي النحل يذكرون بصاحبهن، ألا يحب أحدكم أن لا يزال له عند الله شيء يذكر به»

وقال أبو هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم

«قال الله تعالى: أنا مع عبدي حيثما ذكرني وتحركت بي شفتاه» (البخاري، التوحيد، 43)

إن البعيدين عن الذكر بعيدون عن محبة الله تعالى، وهم تحت التهديد الإلهي الوارد في الآية الكريمة

(فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) (الزمر، 22)

ويبيِّن الله تعالى لزوم البقاء في حالة ذكر دائمٍ كي ينجو العبد من التهديد السابق بقوله

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف، 205)

ويقول الله تعالى أيضًا موضِّحًا خطر البعد عن ذكر الله

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ. حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) (الزخرف، 36-38)

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه، 124-126)

ويقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

«مَنْ قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله تِرة، ومَنْ اضطجع مضجعًا، لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله تِرة» (أبو داوود، الأدب، 25/4856)

«ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة» (أبو داوود، الأدب، 25/4855، 97-98/5059. قارن: أحمد، جـ2، 432)

إن الخصال والأخلاق الحميدة مخصوصة بمَنْ يخاف الحق تعالى ويحبه ويذكره كثيرًا، يقول نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم في فضيلة الذكر ومجالس الذكر في الحديث القدسي

«يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خير منهم» (البخاري، التوحيد، 15)

وخاطب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام يومًا قائلاً

«ألا أنبِّئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والوَرِق، وخيرٍ لكم من أن تلقَوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟»

قالوا: بلى

قال: «ذكر الله تعالى» (الترمذي، الدعوات، 6)

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه الكرام الذكر على سبيل التربية القلبية حسب استعدادهم، وحواره مع أم هانئ خير مثال على ذلك

فعن أم هانئ رضي الله عنها قالت: أتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت

يا رسول الله، دلَّني على عمل فإني قد كبرت وضعفت وبدنت، فقال صلى الله عليه وسلم

«كبِّري اللهَ مئة مرة، واحمدي الله مئة مرة، وسبحي الله مئة مرة خيرٌ من مئة فرس ملجم مسرج في سبيل الله، وخير من مئة بدنة، وخير من مئة رقبة» (ابن ماجة، الأدب، 56؛ أحمد بن حنبل، مسند، جـ4، 344)

 وكما أن للذكر عظيمُ الأثر في الأسحار وفي الخلوات مع الله تعالى، كذلك له أجر عظيم حين يكون في جماعة، فقد خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسَكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلَّ عنه حديثًا مني، وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال

«ما أجلسكم؟»

قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومَنَّ به علينا، قال

«آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟»

قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال

«أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عزَّ وجل يباهي بكم الملائكة» (مسلم، الذكر، 40)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«إنَّ لله ملائكةً يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم» قال: «فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا» (البخاري، الدعوات، 66)

وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال: كان سلمان في عصابة يذكرون الله عزَّ وجل، فمر بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم قاصدًا حتى دنا منهم فكفوا عن الحديث إعظامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال

«ما كنتم تقولون؟ فإني رأيت الرحمة تنزل عليكم، فأحببت أن أشارككم فيها» (الحاكم، المستدرك، جـ1، 201/419؛ أبو نعيم، الحلية، جـ1، 342)

ولِذكر كلمة التوحيد في جماعة أهمية خاصة بين الأذكار، إذ يروي شداد بن أوس رضي الله عنه الحادثة الآتية

كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «هل فيكم غريب؟» يعني أهل الكتاب فقلنا: لا يا رسول الله، فأمر بغلق الباب، وقال: «ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله» فرفعنا أيدينا ساعة، ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، ثم قال:  «الحمد لله، اللّهم بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني عليها الجنة، وإنك لا تخلف الميعاد» ثم قال: «أبشروا فإن الله عزَّ وجل قد غفر لكم» (أحمد بن حنبل، مسند، جـ4، 124)

ويقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن كلمة التوحيد في حديث آخر

«إن لا إله إلا الله كلمة على الله كريمة، لها عند الله مكان، وهي كلمة مَنْ قالها صادقًا أدخله الله بها الجنة، ومَنْ قالها كاذبًا حقنت دمه وأحرزت ماله، ولقي الله غدًا فحاسبه» (الهيثمي، مجمع الزوائد، جـ1، 26)

والذكر دواء يتناوله المؤمن بلسانه ليمرره إلى قلبه، فإذا تغافل اللسان عن المداومة على الدواء تكاثرت على قلبه الأرزاء

 والذكر كذلك هو الحارس الأمين على قلبك ولسانك، وهو ميزان مراقبتك لله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم

«لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوةٌ للقلب، وإنَّ أبعد الناس من الله القلب القاسي» (الترمذي، الزهد، 62)

 وإذا كان الذكر قد أورده القرآن الكريم في 250 موضعًا كما أسلفنا، فكذلك السُنة النبوية الشريفة قد استفاضت أحاديثها حول الذكر وفضله وأثره وفيوضاته، والمحروم هو من حرم نفسه من نعمة الذكر بعدما علم عقباها في الدنيا والآخرة

وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يعطون أهمية كبيرة للذكر، فعن أبي سعيد مولى الأنصار قال

«كان عمر لا يدع سامرًا بعد العشاء يقول: ارجعوا لعل الله يرزقكم صلاة أو تهجدًا، فانتهى إلينا، وأنا قاعد مع ابن مسعود وأُبيِّ بن كعب وأبي ذر، فقال: ما يُقعدُكم؟ قلنا: أردنا أن نذكر الله، فقعد معهم» (الطحاوي، شرح معاني الآثار، جـ4، 330)

والذكر يحتاج إلى المداومة، كما يحتاج إلى الاستغراق،    حتى يشغلك عما سواه

يقول الشيخ عبد الله الدهلوي

«عليكم بكثرة الذكر، فلولاه لما استيقظ القلب وما وعى، فالإنسان دائمًا مفتقر إلى ربه، ومحتاج إلى مولاه، ولحظة من الغفلة هي دهر من الذنوب، ولا وقت لنضيعه في الغفلات، أو ننتقصه من أعمارنا القصيرات، فلنداوم الذكر في الخلوات والجلوات، في الليل والنهار، وليكن جسدك مع الناس وقلبك مع ربك، مستعدًا دائمًا لتلقى فيوضاته التي تأتي بغتة، فتستقبلها القلوب الواعية والأرواح الصافية والأفئدة الذاكرة»

ويحثنا محمد أسعد أربيلي على الذكر بصورة أدق وأعمق، فيقول

«أدعو الله أن يرزقكم قلوبًا مبصرة، وأفئدة مستبصرة، وذرات ذاكرة، ينضح الذكر من خلاياها، كما يفوح الرحيق من الزهور، والأريج من العطورآمين»

«وأدعو الله أن ألقاه بقلب ذاكر سليم من الدنيا، معافى من رغباتها؛ غير مفتون بشهواتها، مكللاً بتاج الشريعة، متوجًا بشرف السُّنَّة، وحالي معه سبحانه هو الذكر الدائم، وحاله معي المعية التي لا تنقطع»

«من الضروري على كل متوجه إلى الحق تعالى أن يعوِّد لطائفه كلها على الذكر لأن هذه اللطائف كلها بحاجة إلى تطهير، فكما أنه من الضروري على الإنسان أن يغسل كل جزء من بدنه وكلَّ نقطة أثناء الغسل، فكذلك الحال مع مَنْ يريد تطهير قلبه، إذ يجب عليه أن يذكر الله تعالى بكل لطائفه وبكل ذرة من ذرات بدنه

وبقدر ما تشتعل نار المحبة في قلبك تستحضر ذكراه وتنشغل بذكره ولا يشغل قلبك سواه، فذكر الله عزَّ وجل يزيد حلاوة الإيمان في قلوب عباد الله العاشقين لجلاله وجماله كما يزيد محبتهم له سبحانه، ومع أن رغبات النفس وشهوات البدن تنقضي بمجرد إشباعها إلا أن رغبات الروح تزداد إذا أشبعتها، ومحبة الله تزداد كلما ذكرته، وكأنها النار كلما ألقمتها شيئًا تزداد لهيبًا واضطرامًا

هؤلاء الذاكرون العاشقون الذين ملأ ذكر الله عزَّ وجل عليهم دنياهم يصفهم القرآن الكريم قائلاً

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ

(آل عمران: 191)

فالذكر هو الطريق الذي يسير فيه الإيمان متزايدًا، وتحيا فيه القلوب مطمئنة، وهو القطار الذي يمر بك في مسيرك على محطات الألطاف الإلهية، ويجتاز رياض الروحانية، ويصل في النهاية إلى الحق سبحانه؛ لأنه عاش طوال حياته في ذكره وعلى طريقه، فالإنسان يموت على الحال التي عاش عليها في دنياه، ويُحشر على ما مات عليه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم

«يُبعث كل عبد على ما مات عليه» (مسلم، الجنة، 83)

ثم يدرك الحقيقة الأزلية، ويعرف إجابة السؤال الأبدي الذي كان -وما زال- يحير البشرية، وهو مناط فلسفاتهم، حينها يُشبع الإنسانُ توقه إلى المعرفة، ويطمئن قلبُه إلى العلم، وتركن روحه إلى محبة الله سبحانه

وهو ما تعبر عنه الآية القرآنية القائلة

(أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد، 28)


زهد نبي الرحمة وتقواه وتزكيته نفسه

لقد ذكرنا فيما سبق أن الله سبحانه وتعالى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةً حسنةً للبشر كلهم، فكل من أراد بلوغ السعادة عليه أن يقتدي به على قدر طاقته، وكل سلوك منه صلى الله عليه وسلم قدوة فعلية لعيش الإسلام كما ينبغي. لكن يجب على كل من أراد أن يقتدي بحياته صلى الله عليه وسلم أن يدقِّق في أمور هي

بعض الأعمال  من خواص الأنبياء، ولا يمكن لغيرهم من البشر أن يطيقوها. مثل الصلاة في الليل بصورة دائمة حتى انتفاخ القدمين، وصوم الوصال. وقد نبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في هذا الشأن

 بعض أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم متولِّدة من حِكم ومصالح تخصُّه وحده، مثل زواجه بأكثر من أربع نساء، وامتناعه عن أخذ الزكاة والصدقة، ومنع آل بيته عن ذلك حتى قيام الساعة

وما أكثر العِبر في الحادثة التالية التي تعد مثالًا لامتناع آل البيت عن قبول الزكاة والصدقة

رئي الحسن بن علي v يطوف بالبيت، ثم صار إلى المقام فصلى ركعتين، ثم وضع خده على المقام فجعل يبكي ويقول

«عُبيدُك ببابك، خُويدمك ببابك، سائلك ببابك، مُسيكينك ببابك». يردد ذلك مرارًا، ثم انصرف رضي الله عنه، فمرَّ بمساكين معهم فِلْق خبز يأكلون، فسلَّم عليهم فدعوه إلى الطعام، فجلس معهم، وقال: «لولا أنه صدقة لأكلت معكم». ثم قال: «قوموا بنا إلى منزلي». فتوجهوا معه، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم

وما أعظم العِبَر في إنفاق الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم غنائمَه في وقت قصير، وتذكيره بذلك حتى في لحظات وفاته

فعن أبي أمامة بن سهل قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير يومًا على عائشة، فقالت رضي الله عنها: لو رأيتما نبي الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في مرض مرضه، وكان له عندي ستة دنانير- قال موسى أو سبعة- قالت: فأمرني نبي الله صلى الله عليه وسلم أن أفرِّقها، قالت: فشغلني وجع نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى عافاه الله، قالت: ثم سألني عنها، فقال

«ما فعلت الستة - قال أو السبعة

قلت: لا والله لقد كان شغلني وجعك، قالت: فدعا بها، ثم صفها في كفه، فقال

«ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده»

وفي رواية أخرى: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دنانير فقسمها إلا ستة، فدفع الستة إلى بعض نسائه، فلم يأخذه النوم حتى قال:  «ما فعلت الستة؟» قالوا: دفعتها إلى فلانة قال: «ائتوني بها»، فقسم منها خمسة في خمسة أبيات من الأنصار ثم قال:«استنفقوا هذا الباقي»، وقال:  «الآن استرحت»، فرقد

وعن عبيد الله بن عباس قال: قال لي أبو ذر رضي الله عنه: يا ابن أخي، كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذًا بيده فقال لي

«يا أبا ذر، ما أحب أن لي أُحُدًا ذهبًا وفضة أنفقه في سبيل الله، أموت يوم أموت أدع منه قيراطًا»

قلت: يا رسول الله، قنطارًا؟، قال

«يا أبا ذر، أذهب إلى الأقل وتذهب إلى الأكثر! أريد الآخرة وتريد الدنيا، قيراطًا». فأعادها عليَّ ثلاث مرات

فهذه المواقف والأحوال السامية لرسول الله عليه الصلاة والسلام بلغت بسموها عنان  السماء، غير أن أمَّته التي عليها أن تقتدي به غير مكلفة بمثل هذه المعايير، ذلك أنه لا طاقة لها بذلك، والمصلحة هنا مخصوصة به عليه الصلاة والسلام

ولا يقتصر السلوك النابع من مصلحة مخصوصة بالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام على هذا الأمر فحسب، فسلوكه الشخصي في مسألة الميراث لا يقتدي به الناس أيضًا، فتوزيعه ما عنده في حياته على أساس القاعدة التي تشمل الأنبياء في قوله: «لاَ نُورَثُ...» لا يطبَّق على أمته

وليس يخفى على أحد أنه عليه الصلاة والسلام اختار العيش فقيرًا بين أمته إذ كان ينفق الأموال التي تأتيه، فهذا شأنٌ تقتضيه مصلحةٌ مخصوصةٌ به. ولا يجب أن نظن هنا أن ذلك كان ترويجًا للفقر وحضًّا عليه، ذلك أنه عليه الصلاة والسلام وضعَ قاعدةً حينما قال:  «اليد العليا خير من اليد السفلى»  فحثَّ بذلك أمته على أن يكونوا من المعطين، أي حثَّهم على الغنى بالطرق المشروعة

فالمقصود من الأحكام الخاصة بالفقر المحافظةُ على التوكل والتسليم والرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى، لا الحث على الفقر

 العيش بزهد وتقوى فضيلةٌ وعزيمةٌ وقربٌ من رسول الله عليه الصلاة والسلام، غير أن العيش هكذا لا يجب على كل أفراد المجتمع، لأنه منوط بِطَاقةِ كل فرد وقدرته عليه، لذلك لا ينبغي الظن أن التقوى والزهد عن النِعم الدنيوية سيضرُّ بحيوية الحياة الاجتماعية، ويُأخِّر الأمم عن أعدائها، أو يجعلها مغلوبة أو في حال بؤس وقنوط، فالتشجيع على الإقدام والحيوية موجودٌ في لبِّ القواعد الشرعية التي يُكلَّف بتطبيقها أفراد المجتمع كلهم، وإن انطلقنا من قاعدة: «من استوى يوماه فهو مغبون»، لن نجد أي تناقض بين معايير الزهد والتقوى التي تعني عدم الالتفات إلى النِعَم الدنيوية أو بمعنى أدق الترفع عنها، فالاستغناء عن الدنيا بمعناه الحقيقي مسألة قلبية ذهنية أكثر من كونها مسألة فعلية ظاهرة

يقول مولانا جلال الدين الرومي رحمه الله

 «الدنيا أن تكون غافلًا عن الله! وليست الدنيا دراهم ودنانير ونساء ولباس! فاعلم ذلك جيدًا!»

وتتضح هذه الحقيقة في أجلى صورها إن وضعنا على كفة الميزان صاحبَ الأموال الكثيرة وليس في قلبه مكان لها ويحذر من الإسراف في استعمالها ولا يخالف معايير الزهد والتقوى، ووضعنا على الكفة الأخرى صاحب المال القليل الذي دخل حب المال قلبَه فصار عبدًا له. وأمثلة الصنف الأول كثيرة، ومن ذلك حال سيدنا سليمان   ومن الصحابة سيدنا أبو بكر، وعثمان، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف y أجمعين

وقد يكون أساس بعض مظاهر الزهد والتقوى الحاجةُ لا الاستغناء، فالرضا هنا بقضاء الله تعالى وعدم عصيانه هو السلوك الصحيح، وأما أن يُظهِرَ المرءُ الفقرَ وهو مقتدر على ذلك فذلك هو الفهم الخاطئ لمفهوم الزهد والتقوى

فمن الأمثلة التي تدل على جوهر الزهد والتقوى وضعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجرَ على بطنه المبارك كي لا يشعر بالجوع. والأنسب للزهد والتقوى إظهارُ نِعم الله تعالى وشكره عليها لحث الغافلين على فعل الخيرات، وما أعظمه إن كان ذلك بالإنفاق السخي على الفقراء والمحتاجين. وأما إظهار المرء نفسه محرومًا من النِعم كي يخفي ثراءه فذلك مثل مَن يرى البخل جزءًا من التقوى، ولا يجوز البتة أن يخدع الإنسان نفسه أو غيره على هذه الصورة

وإذا نظرنا إلى حياة رسول الله عليه الصلاة والسلام ودققنا فيها على أساس هذه المعايير والأحكام، فإننا سنجد أنه عليه الصلاة والسلام أتقى بني البشر، وكان يحيا كالفقراء لتقواه، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها

«ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز بُرِّ مأدوم ثلاثة أيام، حتى لحق بالله»

وعن أنس رضي الله عنه أن يهوديًّا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير وإهَالَةٍ سَنِخَةٍ فأجابه

ولقد رهنَ عليه الصلاة والسلام درعه عند يهودي، ولم يستطع أن يردَّها حتى توفي عليه الصلاة والسلام لكثرة إنفاقه

فكل ما ذكرناه هنا أمثلة رائعة تدل على الكرم والجود والتضحية تحت أنوار الإيمان

ولم يُجِزْ رسول الله عليه الصلاة والسلام تحريم الحلال من الأطعمة والأشربة باسم الزهد، إذ كان يأكل الطعام والشراب الحلال، غير أنه لم يملأ بطنه قط ولو كان الطعام حلالًا، وقد تجشَّأ رجلٌ مرةً عند النبي عليه الصلاة والسلام، فقال

«كفَّ عنَّا جشاءك فإن أكثرهم شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة»

وكان يحثُّ على مجاهدة النفس، والاعتدال في المأكَل والمشرَب، فيقول عليه الصلاة والسلام

«ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطن، بحسب ابن آدم أُكُلاتٌ يقمْنَ صلبَهُ، فإن كان لا محالة فثُلث لطعامه، وثُلث لشرابه، وثُلث لنَفَسه»

فهذي المقاييس الرائعة كلها وسائل عظيمة لكبح شهوة الإنسان وغوائل نفسه. لذلك فإن مدرسة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد ربَّت بأسلوب ومنهاج كامل كل أصناف البشر، من أفقرهم حالًا حتى أعلاهم شأنًا وأعظمهم مالًا، واطمأنت القلوب وسُرَّت على قدْرِ اتباعها له صلى الله عليه وسلم

وكم من فقير في مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم أمضى عمره في شكر وكأنه غني، وكم من غني وحاكم أنفق طوال عمره وعاش يجاهد نفسَه. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها أن خليفة المسلمين كان يحمل الطعام على ظهره ليعطي الفقراء ويطبخ لهم الحساء، وشواهد العدل في الإسلام مثل اختصام السلطان العثماني محمد الفاتح ومعماري نصراني في المحكمة أمام القاضي، وصدور القرار ضد السلطان، مظاهرُ رحمة وفيوضات تبقى ذكرى للناس من مدرسة الزهد والتقوى التي أعلى بنيانها سيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم

وما أجمل تعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم الزهدَ حينما قال

«الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أُصبْتَ بها أرغب فيها لو أنها أُبقيَت لك»

وما أعظم إرشاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ في باب القناعة والزهد

ومن معاني الزهد إزالةُ الحرص على الدنيا والرغبة الشديدة فيها، وانعدام الاغترار بلذائذها المؤقتة الفانية، وإخراج حبها من القلب، وعدم الرغبة إلا بالله ورسوله، وترك الأشياء التي تخالف العبودية لله تعالى ولا طائل وراءها في الآخرة. والزهد منبع طمأنينة القلب والبدن، أما الرغبة في الدنيا فمصيبة مليئة بالأكدار والآلام تُميت القلب والبدن

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم

«الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن، والرغبة في الدنيا تطيل الهم والحزن»

ويقول في حديث شريف آخر

«اِزهَدْ في الدنيا يحبك الله، وازهدْ فيما في أيدي الناس يحبك الناس»

فنفهم من الأحاديث الشريفة التي ذكرناها أن «الزهد» أُولى التدابير اللازمة لمواجهة مخاطر الدنيا وشِراكها

ويبيِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القسطاس الوحيد لمعرفة قيمة العبد عند الحق جلَّ وعلا إنما هو «التقوى» فيقول

«انظر فإنك ليس بخير من أحمر ولا أسود الا ان تفضله بتقوى »

ويقول الله سبحانه وتعالى

{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}

أما التقوى فهو كبحُ الشهوات النفسانية والترقي بالاستعدادات الروحانية، والقدرة على جعل أنوار القرآن والسنة تنعكس على كل صفحات الحياة، وتطبيق الأحكام الدينية في إطار المحبة والبذل والتضحية والوجد، وتربية النفس والتلذذ بالعبادة وحسن المعاملة، ولقاء العبد ربه تعالى بالقلب، وتجلي الصفات الجمالية مثل الرحمة والرأفة في القلب، وإخلاصه بين يدي ربه بأن يشترك اللسان والقلب في توبة العبد، وكره المعصية، وجعل العفو طبعًا أصيلًا، وكثرة العفو حتى يليق صاحبه بالعفو الإلهي

فالعبد يكون له قيمة عند الله تعالى حينما يحيا بكل هذه الفضائل، أي حينما يكون صاحب تقوى

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم

«ما أوحى الله إليَّ أن أجمع المال وأكون من المتاجرين، ولكن أوحى إليَّ أن: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} »

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم

«إذا قمت في صلاتك فصلِّ صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعتذر منه، وأجمع اليأس عمَّا في أيدي الناس»

ولمَّا سُئل عليه الصلاة والسلام أي الناس خير؟ قال

«رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شِعبٍ من الشِّعاب: يعبد ربه، ويدع الناس من شره»

وقد وضَّح العلماء أن المقصود من القسم الثاني من الحديث الشريف أيام الفتنة والحروب، أو الناس ذوو المعشر السَّيِّئ

*

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دقيقًا في أمر الحلال والحرام، ويحذر أشد الحذر من الأمور المشتبهات، حتى إنه كان ينظر إلى توزيع تمر الصدقة يومًا وحفيده الحسن جالس في حضنه في المسجد، فلما أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في  فمه، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام

«كِخْ كِخْ، ارمِ بها، أما علمت أنَّا لا نأكل الصدقة؟». فنبَّهه بذلك وأخرج التمرة مِن فيه

ويقول مولانا جلال الدين الرومي رحمه الله في اللقمة الحلال

«اللُّقمَة كالبذرة ثمارها الأفكار والنيَّات»

«إن اللقمة التي تحيي فيك الرغبة والشوق إلى العبادات والطاعات لقمةٌ حلالٌ، وأما التي تبعث فيك الكسل في العبادات والطاعات وتكون سببًا قي قسوة القلب فهي حرام»

«عليك بالإكثار من اللُّقَمة الحلال في حياتك، وتجنب اللُّقَمة المشبوهة والمُحرَّمة، كي تصل إلى الخشوع بالتلذذ بلذة العبادة والطاعة»

يقول أحد أولياء الله

«لا تنسَ أن التلذذ بالعبادة والطاعة أعظمُ كرامة»

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز

{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}

*

إن كثيرًا من الناس في أيامنا هذه يرون الدِّينَ مجموعة من المعتقدات التي تجعل صاحبها يفوز بالسعادة في الآخرة، مع أن الدين لا يجعل العبد يفوز بسعادة الآخرة فحسب، بل ينظِّم حياة المجتمع على أكمل صورة، ويقدِّم للناس جوًّا من الطمأنينة والأمان

والحادثة التالية توضِّح هذه الحقيقة أجمل توضيح

بينما عمر بن الخطاب يعسُّ المدينة إذ أعيا واتكأ على جانب جدار في جوف الليل، وإذا امرأة تقول لابنتها: يا ابتناه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء، فقالت لها: يا أمتاه وما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم؟ قالت: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديًا فنادى ألَّا يُشَاب اللبن بالماء. فقالت لها: يا بنية قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر. فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه ما كنت لأطيعه في الملأ واعصيه في الخلاء

فتأثر سيدنا عمر رضي الله عنه لمَّا سمع جواب هذه الفتاة النزيهة التي امتلأ قلبها بالخوف والخشية من الله تعالى. فزوَّجها أمير المؤمنين بابنه عاصم لتقواها، ومن ذلك الزواج المبارك والنسل الأصيل وُلِد الخليفة عمر بن عبد العزيز المشهور في التاريخ الإسلامي باسم خامس الخلفاء الراشدين

وتبيِّن هذه الحادثة لنا أن العيش بمراعاة الحلال دائمًا إنما هو مقام «أحسن تقويم»، إذ يُوصِل العبدَ إلى السعادة في الدارين، أما عكس ذلك؛ أي عدم الاكتفاء بالنعم الحلال الكثيرة والتوجه إلى الحرام أو المشتبهات فذلك لا يليق بالعبودية لله سبحانه وتعالى. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك الأشياء المشبوهة

«دعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك»

ويبيِّن مولانا جلال الدين الرومي ضرورة الحذر من الحرام و المشتبهات  فيقول

«لقد تجلى علينا الإلهام بصورة مختلفة ليلة أمس، لأن بعض اللقيمات المشبوهة التي نزلت في المعدة سدَّت طريق الإلهام»

لكن لا بد من أن نُذكِّر هنا أنه من الخطأ إساءة فهم الحذر من الأشياء المشبوهة، وتجاوز الحد في ذلك والابتعاد عن الأشياء الحلال، أو الوقوع في الوساوس في النعم الحلال

إن دين الإسلام يأمر بالاعتدال في هذا الشأن أيضًا، فغاية الإسلام ليست تعكير صفو حياة البشر، بل أن يعيشوا في جوٍّ من الطمأنينة والسكينة والسرور، وذلك لا يكون إلا بإعمار القلب. فالأمور الحسنة كلها في جوهر القلب، وتظهرُ بالتخلق بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم والإحساس بقلبه ودقَّته في الأمور

*

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي في الليل حتى تنتفخ قدماه، وهو المعصوم عن الذنب! وكان يتلو القرآن لساعات حتى يصيبه التعب. فكان أعظم الناس حبًّا لله تعالى وأكثرهم ذِكرًا وأشدَّهم خشية له

إن الصلاة لقاءُ العبد مع ربه، والوقوف في حضرته، ووصال لمحبِّيه ومعراج لهم. لذلك ترى العباد العارفين العاشقين يداومون على أداء النوافل كل حين على أفضل صورة كي تستمر هذه الحال التي لا يرتوون منها. وفي الصلاة تسليمٌ للحق جلَّ وعلا، لذلك يثقل على النفس أداؤها. وهذا وحده كافٍ لإظهار أن الإسلام دينُ الحق وأن الصلاة عبادة مطلقة، يقول رب العزة في الآية الكريمة

{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}

إن الذين يتَّبعون أهواء نفوسهم لا يقربون الصلاة، وأما الذين لم يقدروا على كسر حاجز النفس فيصلون الصلاة ظاهرًا فقط؛ لذلك فإن الصلاة الحقيقية لا يؤديها إلا القليل، وفي هذه الحقيقة قيل

«يصلِّي الرجلان الركعتَين في الزمان نفسه والمكان نفسه، غير أن الفرق بين صلاتيهما كالفرق بين السماء والأرض»

وقد قال أولياء الله

«إن المصلِّين كثير والمُقيمين للصلاة قليل»

ويقول عبد الله بن الشخير رضي الله عنه في خشوع النبي في صلاته

«رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء»

*

كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ صومه في كثير من الأحيان بلا سحور، ويواصِل صيامه. ولما أراد الصحابة الكرام أن يصوموا مثله قال لهم

«إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مُطعِمٌ يُطعِمني، وسَاقٍ يسقِين»

وعن ابن عباس

«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت الليالي المتتابعة طاويًا وأهله لا يجدون عشاء». قال: «وكان عامة خبزهم الشعير»

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال

«أن فاطمة رضي الله عنها جاءت بكسرة خبز إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما هذه الكسرة يا فاطمة؟"، قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة، فقال: "أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام

وقد وردَ في كثير من الرويات أنه عليه الصلاة والسلام كان يشدُّ حجرًا على بطنه من الجوع

*

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنفِق كثيرًا، ولا يرضى أن يأخذ ما يزيد عن حاجته قط، بل يتصدق به

وقد دخل سيدنا عمر رضي الله عنه على ابنه يومًا وجلس على مائدته، فقال: «إني لأجد طعم دسم ما هو بدسم اللحم» فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، إني خرجت إلى السوق أطلب السمين لأشتريه، فوجدته غاليًا، فاشتريت بدرهم من المهزول، وحملت عليه بدرهم سمنًا، فأردت أن يتردد عيالي عظمًا عظمًا، فقال عمر: «ما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قط، إلا أكل أحدهما، وتصدق بالآخر»

وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

«لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين»

وعنها رضي الله عنها أنها قالت

«بعث إلينا آل أبي بكر بقائمة شاة ليلًا، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطعت- أو أمسكت وقطع-، فقال الذي تحدثه: أَعَلى غير مصباح؟ فقالت: لو كان عندنا مصباح لائتدمنا به، إن كان ليأتي على آل محمد صلى الله عليه وسلم الشهر ما يختبزون خبزًا ولا يطبخون قدرًا»

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبُّ الإنفاق كثيرًا، وكان يقول لسيدنا بلال رضي الله عنه

«أنفقْ بلالُ ولا تخشَ من ذي العرش إقلالًا»

ولم يحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمع المال قط، إذ اختار أن يكون «نبيًّا عبدًا». ويقول مبينًا هذه الحقيقة

«خُيِّرتُ بين أن أكون ملكًا نبيًّا أو نبيًّا عبدًا، فقيل لي: تواضع، فاخترت أن أكون نبيًّا عبدًا»

ويقول عليه الصلاة والسلام في أحاديث أخرى

«عرض عليَّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، قلت: لا يا رب ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا -أو قال ثلاثًا أو نحو هذا- فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك»

ولم يدخل نبي الله صلى الله عليه وسلم بيت ابنته فاطمة رضي الله عنها لمَّا زخرفته

ولم يفتخر النبي صلى الله عليه وسلم البتة بعبوديته وطاعته لله سبحانه وتعالى، بل كان يذكر بعض النعم التي أنعمها عليه المولى سبحانه وتعالى ويقول: «ولا فخر»

وما أكثرَ العِبَر في الحادثة التالي التي تبيِّن حياة الزهد التي كان يحياها رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله

قال علي رضي الله عنه: «بتنا ليلة بغير عشاء فأصبحت فخرجت، ثم رجعت إلى فاطمة رضي الله عنها وهي محزونة، فقلت: ما لكِ؟ فقالت: لم نتعشَّ البارحة، ولم نتغدَّ اليوم وليس عندنا عَشَاء، فخرجت فالتمست فأصبت ما اشتريت طعامًا ولحمًا بدرهم، ثم أتيتها به، فخبزت وطبخت، فلما فرغت من إنضاج القدر قالت: لو أتيت أبي فدعوته، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع في المسجد، وهو يقول: "أعوذ بالله من الجوع ضجيعًا"، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، عندنا طعام فهلمَّ، فتوكَّأ عليَّ حتى دخل، والقِدرُ تفور، فقال: "اغرِفي لعائشة"، فغَرَفَتْ في صحفة، ثم قال: "اغرِفي لحفصة"، فغَرَفَتْ في صحفة حتى غرفت لجميع نسائه التسع، ثم قال: "اغرِفي لأبيك وزوجك"، فغَرَفَتْ، فقال: "اغرِفي فكلي"، فغَرَفَتْ، ثم رفعت القدر، وإنها لتفيض فأكلنا منها ما شاء الله

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها

«ما رَفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قطُّ غداءً لعشَاء ولا عشاءً قطُّ لغَداء، ولا اتخذ من شيء زوجين، لا قميصين، ولا ردائين، ولا إزارين، ولا من النعال، ولا رُئِيَ قطُّ فارغًا في بيته إما يخصف نعلًا لرجل مسكين، أو يخيط ثوبًا لأرملة»


زواجه صلى الله عليه وسلم

لما بلغ نور الوجود صلى الله عليه وسلم الخامسةَ والعشرين من عمره، تزوج من السيدة خديجة رضي الله عنها وكانت من خيرِنساء قريش وأشرفهن.. ولما تزوجها رسول الله كانت أرملة لها أولاد وتكبره بخمس عشرة سنة، غير أن ذلك كله لم يكن عائقًا دون أن يعيش النبي صلى الله عليه وسلم معها حياة سعيدة مطمئنة تكون قدوة للبشرية. فكانت هذه السيدة الشريفة سندًا للنبي صلى الله عليه وسلم بمالها وروحها

وقد ساندت رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا رجع من الغار فأخبرها الخبر، وقال لها:  لقد خشيت على نفسي

فقالت رضي الله عنها: «كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسِب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وتؤدي الأمانة، وإن خلقك لكريم». فكانت أول من صدَّقه وأعانه وآمن به

ولم ينسَ النبي صلى الله عليه وسلم مساندتهاورقَّتها وعطفها ورفقها البتة، بل بقي يذكرها دائمًا؛ إذ لمَّا كان يذبح صلى الله عليه وسلم شاةً، يرسل جزءًا منها إلى أقارب السيدة خديجة

وقد دام زواج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بسيدتنا خديجة رضي الله عنها أربعة وعشرين عامًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم آنذاك في قمة الشباب والنشاط. أما زيجاته بعد وفاة السيدة خديجة فقد كان لأهداف دينية أو غايات سياسية، إذ كانت أكثر زوجاته عجائز وأرامل. ولم يتزوج نبينا صلى الله عليه وسلم بِكرًا إلا سيدتنا عائشة رضي الله عنها، لتكون المسائل الفقهية الخاصة بالنساء واضحة ثابتة

فقد أدركت السيدة عائشة رضي الله عنها بذكائها وفراستها المسائلَ الشرعية الخاصة بالنساء إدراكًا كاملًا، وعاشت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حياة مديدة ترشد نساء المسلمين بما تعلمته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت من أصح مصادر الأحكام الفقهية المتعلقة بالنساء. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحقيقة في قوله

«خذوا ثلث دينكم من بيت عائشة»

وحكمة أخرى من حِكَم زواج النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة عائشة رضي الله عنها إنما هي رغبةُ سيدنا أبي بكر رضي الله عنه في توثيق صلته بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي بدأ في غار ثور عندما كان  {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}  وذلك برباط المصاهرة

ولا يمكن أن يَعرِفَ قيمةَ زواج النبي بزوجاته وما فيه من مقاصد سامية وحِكم دقيقة إلا أهل الإيمان والعرفان

ولو كان زواج النبي لشهوةٍ فحسب كما يدَّعي أصحاب النفوس المريضة والغايات الخبيثة، لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزوجته الأولى التي كانت أرملة ذات أولاد، ولما عاش معها خمسة عشر عامًا من أعوام شبابه

لكنَّ  ذوي التفكير السطحي -الذين دأبوا على النظر إلى الزواج من منظور الشهوة لا غير- عاجزون أشدَّ العجز عن إدراك مثل هذي الحقائق، وما الأحكام الباطلة التي يطلقها أصحاب الأغراض الدنيئة والأهواء النفسية إلا انعكاس لعالَمهم الحالك الظلام