زهد نبي الرحمة وتقواه وتزكيته نفسه

لقد ذكرنا فيما سبق أن الله سبحانه وتعالى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةً حسنةً للبشر كلهم، فكل من أراد بلوغ السعادة عليه أن يقتدي به على قدر طاقته، وكل سلوك منه صلى الله عليه وسلم قدوة فعلية لعيش الإسلام كما ينبغي. لكن يجب على كل من أراد أن يقتدي بحياته صلى الله عليه وسلم أن يدقِّق في أمور هي

بعض الأعمال  من خواص الأنبياء، ولا يمكن لغيرهم من البشر أن يطيقوها. مثل الصلاة في الليل بصورة دائمة حتى انتفاخ القدمين، وصوم الوصال. وقد نبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في هذا الشأن

 بعض أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم متولِّدة من حِكم ومصالح تخصُّه وحده، مثل زواجه بأكثر من أربع نساء، وامتناعه عن أخذ الزكاة والصدقة، ومنع آل بيته عن ذلك حتى قيام الساعة

وما أكثر العِبر في الحادثة التالية التي تعد مثالًا لامتناع آل البيت عن قبول الزكاة والصدقة

رئي الحسن بن علي v يطوف بالبيت، ثم صار إلى المقام فصلى ركعتين، ثم وضع خده على المقام فجعل يبكي ويقول

«عُبيدُك ببابك، خُويدمك ببابك، سائلك ببابك، مُسيكينك ببابك». يردد ذلك مرارًا، ثم انصرف رضي الله عنه، فمرَّ بمساكين معهم فِلْق خبز يأكلون، فسلَّم عليهم فدعوه إلى الطعام، فجلس معهم، وقال: «لولا أنه صدقة لأكلت معكم». ثم قال: «قوموا بنا إلى منزلي». فتوجهوا معه، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم

وما أعظم العِبَر في إنفاق الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم غنائمَه في وقت قصير، وتذكيره بذلك حتى في لحظات وفاته

فعن أبي أمامة بن سهل قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير يومًا على عائشة، فقالت رضي الله عنها: لو رأيتما نبي الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في مرض مرضه، وكان له عندي ستة دنانير- قال موسى أو سبعة- قالت: فأمرني نبي الله صلى الله عليه وسلم أن أفرِّقها، قالت: فشغلني وجع نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى عافاه الله، قالت: ثم سألني عنها، فقال

«ما فعلت الستة - قال أو السبعة

قلت: لا والله لقد كان شغلني وجعك، قالت: فدعا بها، ثم صفها في كفه، فقال

«ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده»

وفي رواية أخرى: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دنانير فقسمها إلا ستة، فدفع الستة إلى بعض نسائه، فلم يأخذه النوم حتى قال:  «ما فعلت الستة؟» قالوا: دفعتها إلى فلانة قال: «ائتوني بها»، فقسم منها خمسة في خمسة أبيات من الأنصار ثم قال:«استنفقوا هذا الباقي»، وقال:  «الآن استرحت»، فرقد

وعن عبيد الله بن عباس قال: قال لي أبو ذر رضي الله عنه: يا ابن أخي، كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذًا بيده فقال لي

«يا أبا ذر، ما أحب أن لي أُحُدًا ذهبًا وفضة أنفقه في سبيل الله، أموت يوم أموت أدع منه قيراطًا»

قلت: يا رسول الله، قنطارًا؟، قال

«يا أبا ذر، أذهب إلى الأقل وتذهب إلى الأكثر! أريد الآخرة وتريد الدنيا، قيراطًا». فأعادها عليَّ ثلاث مرات

فهذه المواقف والأحوال السامية لرسول الله عليه الصلاة والسلام بلغت بسموها عنان  السماء، غير أن أمَّته التي عليها أن تقتدي به غير مكلفة بمثل هذه المعايير، ذلك أنه لا طاقة لها بذلك، والمصلحة هنا مخصوصة به عليه الصلاة والسلام

ولا يقتصر السلوك النابع من مصلحة مخصوصة بالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام على هذا الأمر فحسب، فسلوكه الشخصي في مسألة الميراث لا يقتدي به الناس أيضًا، فتوزيعه ما عنده في حياته على أساس القاعدة التي تشمل الأنبياء في قوله: «لاَ نُورَثُ...» لا يطبَّق على أمته

وليس يخفى على أحد أنه عليه الصلاة والسلام اختار العيش فقيرًا بين أمته إذ كان ينفق الأموال التي تأتيه، فهذا شأنٌ تقتضيه مصلحةٌ مخصوصةٌ به. ولا يجب أن نظن هنا أن ذلك كان ترويجًا للفقر وحضًّا عليه، ذلك أنه عليه الصلاة والسلام وضعَ قاعدةً حينما قال:  «اليد العليا خير من اليد السفلى»  فحثَّ بذلك أمته على أن يكونوا من المعطين، أي حثَّهم على الغنى بالطرق المشروعة

فالمقصود من الأحكام الخاصة بالفقر المحافظةُ على التوكل والتسليم والرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى، لا الحث على الفقر

 العيش بزهد وتقوى فضيلةٌ وعزيمةٌ وقربٌ من رسول الله عليه الصلاة والسلام، غير أن العيش هكذا لا يجب على كل أفراد المجتمع، لأنه منوط بِطَاقةِ كل فرد وقدرته عليه، لذلك لا ينبغي الظن أن التقوى والزهد عن النِعم الدنيوية سيضرُّ بحيوية الحياة الاجتماعية، ويُأخِّر الأمم عن أعدائها، أو يجعلها مغلوبة أو في حال بؤس وقنوط، فالتشجيع على الإقدام والحيوية موجودٌ في لبِّ القواعد الشرعية التي يُكلَّف بتطبيقها أفراد المجتمع كلهم، وإن انطلقنا من قاعدة: «من استوى يوماه فهو مغبون»، لن نجد أي تناقض بين معايير الزهد والتقوى التي تعني عدم الالتفات إلى النِعَم الدنيوية أو بمعنى أدق الترفع عنها، فالاستغناء عن الدنيا بمعناه الحقيقي مسألة قلبية ذهنية أكثر من كونها مسألة فعلية ظاهرة

يقول مولانا جلال الدين الرومي رحمه الله

 «الدنيا أن تكون غافلًا عن الله! وليست الدنيا دراهم ودنانير ونساء ولباس! فاعلم ذلك جيدًا!»

وتتضح هذه الحقيقة في أجلى صورها إن وضعنا على كفة الميزان صاحبَ الأموال الكثيرة وليس في قلبه مكان لها ويحذر من الإسراف في استعمالها ولا يخالف معايير الزهد والتقوى، ووضعنا على الكفة الأخرى صاحب المال القليل الذي دخل حب المال قلبَه فصار عبدًا له. وأمثلة الصنف الأول كثيرة، ومن ذلك حال سيدنا سليمان   ومن الصحابة سيدنا أبو بكر، وعثمان، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف y أجمعين

وقد يكون أساس بعض مظاهر الزهد والتقوى الحاجةُ لا الاستغناء، فالرضا هنا بقضاء الله تعالى وعدم عصيانه هو السلوك الصحيح، وأما أن يُظهِرَ المرءُ الفقرَ وهو مقتدر على ذلك فذلك هو الفهم الخاطئ لمفهوم الزهد والتقوى

فمن الأمثلة التي تدل على جوهر الزهد والتقوى وضعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجرَ على بطنه المبارك كي لا يشعر بالجوع. والأنسب للزهد والتقوى إظهارُ نِعم الله تعالى وشكره عليها لحث الغافلين على فعل الخيرات، وما أعظمه إن كان ذلك بالإنفاق السخي على الفقراء والمحتاجين. وأما إظهار المرء نفسه محرومًا من النِعم كي يخفي ثراءه فذلك مثل مَن يرى البخل جزءًا من التقوى، ولا يجوز البتة أن يخدع الإنسان نفسه أو غيره على هذه الصورة

وإذا نظرنا إلى حياة رسول الله عليه الصلاة والسلام ودققنا فيها على أساس هذه المعايير والأحكام، فإننا سنجد أنه عليه الصلاة والسلام أتقى بني البشر، وكان يحيا كالفقراء لتقواه، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها

«ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز بُرِّ مأدوم ثلاثة أيام، حتى لحق بالله»

وعن أنس رضي الله عنه أن يهوديًّا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير وإهَالَةٍ سَنِخَةٍ فأجابه

ولقد رهنَ عليه الصلاة والسلام درعه عند يهودي، ولم يستطع أن يردَّها حتى توفي عليه الصلاة والسلام لكثرة إنفاقه

فكل ما ذكرناه هنا أمثلة رائعة تدل على الكرم والجود والتضحية تحت أنوار الإيمان

ولم يُجِزْ رسول الله عليه الصلاة والسلام تحريم الحلال من الأطعمة والأشربة باسم الزهد، إذ كان يأكل الطعام والشراب الحلال، غير أنه لم يملأ بطنه قط ولو كان الطعام حلالًا، وقد تجشَّأ رجلٌ مرةً عند النبي عليه الصلاة والسلام، فقال

«كفَّ عنَّا جشاءك فإن أكثرهم شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة»

وكان يحثُّ على مجاهدة النفس، والاعتدال في المأكَل والمشرَب، فيقول عليه الصلاة والسلام

«ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطن، بحسب ابن آدم أُكُلاتٌ يقمْنَ صلبَهُ، فإن كان لا محالة فثُلث لطعامه، وثُلث لشرابه، وثُلث لنَفَسه»

فهذي المقاييس الرائعة كلها وسائل عظيمة لكبح شهوة الإنسان وغوائل نفسه. لذلك فإن مدرسة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد ربَّت بأسلوب ومنهاج كامل كل أصناف البشر، من أفقرهم حالًا حتى أعلاهم شأنًا وأعظمهم مالًا، واطمأنت القلوب وسُرَّت على قدْرِ اتباعها له صلى الله عليه وسلم

وكم من فقير في مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم أمضى عمره في شكر وكأنه غني، وكم من غني وحاكم أنفق طوال عمره وعاش يجاهد نفسَه. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها أن خليفة المسلمين كان يحمل الطعام على ظهره ليعطي الفقراء ويطبخ لهم الحساء، وشواهد العدل في الإسلام مثل اختصام السلطان العثماني محمد الفاتح ومعماري نصراني في المحكمة أمام القاضي، وصدور القرار ضد السلطان، مظاهرُ رحمة وفيوضات تبقى ذكرى للناس من مدرسة الزهد والتقوى التي أعلى بنيانها سيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم

وما أجمل تعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم الزهدَ حينما قال

«الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أُصبْتَ بها أرغب فيها لو أنها أُبقيَت لك»

وما أعظم إرشاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ في باب القناعة والزهد

ومن معاني الزهد إزالةُ الحرص على الدنيا والرغبة الشديدة فيها، وانعدام الاغترار بلذائذها المؤقتة الفانية، وإخراج حبها من القلب، وعدم الرغبة إلا بالله ورسوله، وترك الأشياء التي تخالف العبودية لله تعالى ولا طائل وراءها في الآخرة. والزهد منبع طمأنينة القلب والبدن، أما الرغبة في الدنيا فمصيبة مليئة بالأكدار والآلام تُميت القلب والبدن

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم

«الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن، والرغبة في الدنيا تطيل الهم والحزن»

ويقول في حديث شريف آخر

«اِزهَدْ في الدنيا يحبك الله، وازهدْ فيما في أيدي الناس يحبك الناس»

فنفهم من الأحاديث الشريفة التي ذكرناها أن «الزهد» أُولى التدابير اللازمة لمواجهة مخاطر الدنيا وشِراكها

ويبيِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القسطاس الوحيد لمعرفة قيمة العبد عند الحق جلَّ وعلا إنما هو «التقوى» فيقول

«انظر فإنك ليس بخير من أحمر ولا أسود الا ان تفضله بتقوى »

ويقول الله سبحانه وتعالى

{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}

أما التقوى فهو كبحُ الشهوات النفسانية والترقي بالاستعدادات الروحانية، والقدرة على جعل أنوار القرآن والسنة تنعكس على كل صفحات الحياة، وتطبيق الأحكام الدينية في إطار المحبة والبذل والتضحية والوجد، وتربية النفس والتلذذ بالعبادة وحسن المعاملة، ولقاء العبد ربه تعالى بالقلب، وتجلي الصفات الجمالية مثل الرحمة والرأفة في القلب، وإخلاصه بين يدي ربه بأن يشترك اللسان والقلب في توبة العبد، وكره المعصية، وجعل العفو طبعًا أصيلًا، وكثرة العفو حتى يليق صاحبه بالعفو الإلهي

فالعبد يكون له قيمة عند الله تعالى حينما يحيا بكل هذه الفضائل، أي حينما يكون صاحب تقوى

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم

«ما أوحى الله إليَّ أن أجمع المال وأكون من المتاجرين، ولكن أوحى إليَّ أن: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} »

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم

«إذا قمت في صلاتك فصلِّ صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعتذر منه، وأجمع اليأس عمَّا في أيدي الناس»

ولمَّا سُئل عليه الصلاة والسلام أي الناس خير؟ قال

«رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شِعبٍ من الشِّعاب: يعبد ربه، ويدع الناس من شره»

وقد وضَّح العلماء أن المقصود من القسم الثاني من الحديث الشريف أيام الفتنة والحروب، أو الناس ذوو المعشر السَّيِّئ

*

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دقيقًا في أمر الحلال والحرام، ويحذر أشد الحذر من الأمور المشتبهات، حتى إنه كان ينظر إلى توزيع تمر الصدقة يومًا وحفيده الحسن جالس في حضنه في المسجد، فلما أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في  فمه، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام

«كِخْ كِخْ، ارمِ بها، أما علمت أنَّا لا نأكل الصدقة؟». فنبَّهه بذلك وأخرج التمرة مِن فيه

ويقول مولانا جلال الدين الرومي رحمه الله في اللقمة الحلال

«اللُّقمَة كالبذرة ثمارها الأفكار والنيَّات»

«إن اللقمة التي تحيي فيك الرغبة والشوق إلى العبادات والطاعات لقمةٌ حلالٌ، وأما التي تبعث فيك الكسل في العبادات والطاعات وتكون سببًا قي قسوة القلب فهي حرام»

«عليك بالإكثار من اللُّقَمة الحلال في حياتك، وتجنب اللُّقَمة المشبوهة والمُحرَّمة، كي تصل إلى الخشوع بالتلذذ بلذة العبادة والطاعة»

يقول أحد أولياء الله

«لا تنسَ أن التلذذ بالعبادة والطاعة أعظمُ كرامة»

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز

{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}

*

إن كثيرًا من الناس في أيامنا هذه يرون الدِّينَ مجموعة من المعتقدات التي تجعل صاحبها يفوز بالسعادة في الآخرة، مع أن الدين لا يجعل العبد يفوز بسعادة الآخرة فحسب، بل ينظِّم حياة المجتمع على أكمل صورة، ويقدِّم للناس جوًّا من الطمأنينة والأمان

والحادثة التالية توضِّح هذه الحقيقة أجمل توضيح

بينما عمر بن الخطاب يعسُّ المدينة إذ أعيا واتكأ على جانب جدار في جوف الليل، وإذا امرأة تقول لابنتها: يا ابتناه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء، فقالت لها: يا أمتاه وما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم؟ قالت: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديًا فنادى ألَّا يُشَاب اللبن بالماء. فقالت لها: يا بنية قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر. فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه ما كنت لأطيعه في الملأ واعصيه في الخلاء

فتأثر سيدنا عمر رضي الله عنه لمَّا سمع جواب هذه الفتاة النزيهة التي امتلأ قلبها بالخوف والخشية من الله تعالى. فزوَّجها أمير المؤمنين بابنه عاصم لتقواها، ومن ذلك الزواج المبارك والنسل الأصيل وُلِد الخليفة عمر بن عبد العزيز المشهور في التاريخ الإسلامي باسم خامس الخلفاء الراشدين

وتبيِّن هذه الحادثة لنا أن العيش بمراعاة الحلال دائمًا إنما هو مقام «أحسن تقويم»، إذ يُوصِل العبدَ إلى السعادة في الدارين، أما عكس ذلك؛ أي عدم الاكتفاء بالنعم الحلال الكثيرة والتوجه إلى الحرام أو المشتبهات فذلك لا يليق بالعبودية لله سبحانه وتعالى. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك الأشياء المشبوهة

«دعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك»

ويبيِّن مولانا جلال الدين الرومي ضرورة الحذر من الحرام و المشتبهات  فيقول

«لقد تجلى علينا الإلهام بصورة مختلفة ليلة أمس، لأن بعض اللقيمات المشبوهة التي نزلت في المعدة سدَّت طريق الإلهام»

لكن لا بد من أن نُذكِّر هنا أنه من الخطأ إساءة فهم الحذر من الأشياء المشبوهة، وتجاوز الحد في ذلك والابتعاد عن الأشياء الحلال، أو الوقوع في الوساوس في النعم الحلال

إن دين الإسلام يأمر بالاعتدال في هذا الشأن أيضًا، فغاية الإسلام ليست تعكير صفو حياة البشر، بل أن يعيشوا في جوٍّ من الطمأنينة والسكينة والسرور، وذلك لا يكون إلا بإعمار القلب. فالأمور الحسنة كلها في جوهر القلب، وتظهرُ بالتخلق بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم والإحساس بقلبه ودقَّته في الأمور

*

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي في الليل حتى تنتفخ قدماه، وهو المعصوم عن الذنب! وكان يتلو القرآن لساعات حتى يصيبه التعب. فكان أعظم الناس حبًّا لله تعالى وأكثرهم ذِكرًا وأشدَّهم خشية له

إن الصلاة لقاءُ العبد مع ربه، والوقوف في حضرته، ووصال لمحبِّيه ومعراج لهم. لذلك ترى العباد العارفين العاشقين يداومون على أداء النوافل كل حين على أفضل صورة كي تستمر هذه الحال التي لا يرتوون منها. وفي الصلاة تسليمٌ للحق جلَّ وعلا، لذلك يثقل على النفس أداؤها. وهذا وحده كافٍ لإظهار أن الإسلام دينُ الحق وأن الصلاة عبادة مطلقة، يقول رب العزة في الآية الكريمة

{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}

إن الذين يتَّبعون أهواء نفوسهم لا يقربون الصلاة، وأما الذين لم يقدروا على كسر حاجز النفس فيصلون الصلاة ظاهرًا فقط؛ لذلك فإن الصلاة الحقيقية لا يؤديها إلا القليل، وفي هذه الحقيقة قيل

«يصلِّي الرجلان الركعتَين في الزمان نفسه والمكان نفسه، غير أن الفرق بين صلاتيهما كالفرق بين السماء والأرض»

وقد قال أولياء الله

«إن المصلِّين كثير والمُقيمين للصلاة قليل»

ويقول عبد الله بن الشخير رضي الله عنه في خشوع النبي في صلاته

«رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء»

*

كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ صومه في كثير من الأحيان بلا سحور، ويواصِل صيامه. ولما أراد الصحابة الكرام أن يصوموا مثله قال لهم

«إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مُطعِمٌ يُطعِمني، وسَاقٍ يسقِين»

وعن ابن عباس

«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت الليالي المتتابعة طاويًا وأهله لا يجدون عشاء». قال: «وكان عامة خبزهم الشعير»

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال

«أن فاطمة رضي الله عنها جاءت بكسرة خبز إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما هذه الكسرة يا فاطمة؟"، قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة، فقال: "أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام

وقد وردَ في كثير من الرويات أنه عليه الصلاة والسلام كان يشدُّ حجرًا على بطنه من الجوع

*

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنفِق كثيرًا، ولا يرضى أن يأخذ ما يزيد عن حاجته قط، بل يتصدق به

وقد دخل سيدنا عمر رضي الله عنه على ابنه يومًا وجلس على مائدته، فقال: «إني لأجد طعم دسم ما هو بدسم اللحم» فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، إني خرجت إلى السوق أطلب السمين لأشتريه، فوجدته غاليًا، فاشتريت بدرهم من المهزول، وحملت عليه بدرهم سمنًا، فأردت أن يتردد عيالي عظمًا عظمًا، فقال عمر: «ما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قط، إلا أكل أحدهما، وتصدق بالآخر»

وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

«لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين»

وعنها رضي الله عنها أنها قالت

«بعث إلينا آل أبي بكر بقائمة شاة ليلًا، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطعت- أو أمسكت وقطع-، فقال الذي تحدثه: أَعَلى غير مصباح؟ فقالت: لو كان عندنا مصباح لائتدمنا به، إن كان ليأتي على آل محمد صلى الله عليه وسلم الشهر ما يختبزون خبزًا ولا يطبخون قدرًا»

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبُّ الإنفاق كثيرًا، وكان يقول لسيدنا بلال رضي الله عنه

«أنفقْ بلالُ ولا تخشَ من ذي العرش إقلالًا»

ولم يحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمع المال قط، إذ اختار أن يكون «نبيًّا عبدًا». ويقول مبينًا هذه الحقيقة

«خُيِّرتُ بين أن أكون ملكًا نبيًّا أو نبيًّا عبدًا، فقيل لي: تواضع، فاخترت أن أكون نبيًّا عبدًا»

ويقول عليه الصلاة والسلام في أحاديث أخرى

«عرض عليَّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، قلت: لا يا رب ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا -أو قال ثلاثًا أو نحو هذا- فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك»

ولم يدخل نبي الله صلى الله عليه وسلم بيت ابنته فاطمة رضي الله عنها لمَّا زخرفته

ولم يفتخر النبي صلى الله عليه وسلم البتة بعبوديته وطاعته لله سبحانه وتعالى، بل كان يذكر بعض النعم التي أنعمها عليه المولى سبحانه وتعالى ويقول: «ولا فخر»

وما أكثرَ العِبَر في الحادثة التالي التي تبيِّن حياة الزهد التي كان يحياها رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله

قال علي رضي الله عنه: «بتنا ليلة بغير عشاء فأصبحت فخرجت، ثم رجعت إلى فاطمة رضي الله عنها وهي محزونة، فقلت: ما لكِ؟ فقالت: لم نتعشَّ البارحة، ولم نتغدَّ اليوم وليس عندنا عَشَاء، فخرجت فالتمست فأصبت ما اشتريت طعامًا ولحمًا بدرهم، ثم أتيتها به، فخبزت وطبخت، فلما فرغت من إنضاج القدر قالت: لو أتيت أبي فدعوته، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع في المسجد، وهو يقول: "أعوذ بالله من الجوع ضجيعًا"، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، عندنا طعام فهلمَّ، فتوكَّأ عليَّ حتى دخل، والقِدرُ تفور، فقال: "اغرِفي لعائشة"، فغَرَفَتْ في صحفة، ثم قال: "اغرِفي لحفصة"، فغَرَفَتْ في صحفة حتى غرفت لجميع نسائه التسع، ثم قال: "اغرِفي لأبيك وزوجك"، فغَرَفَتْ، فقال: "اغرِفي فكلي"، فغَرَفَتْ، ثم رفعت القدر، وإنها لتفيض فأكلنا منها ما شاء الله

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها

«ما رَفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قطُّ غداءً لعشَاء ولا عشاءً قطُّ لغَداء، ولا اتخذ من شيء زوجين، لا قميصين، ولا ردائين، ولا إزارين، ولا من النعال، ولا رُئِيَ قطُّ فارغًا في بيته إما يخصف نعلًا لرجل مسكين، أو يخيط ثوبًا لأرملة»