جعفر الصادق رحمه الله - 3

يقول جعفر الصادق رحمه الله

من عاش في ظاهر الرسول فهو سُنِّي، ومن عاش في باطن الرسول فهو صوفي". (أبو نعيم: الحلية، 1، 20)

إن لبني آدم منذ أن خلقه الله عزّ وجل جانبَين

 جانب ترابي، أي إنه جسد مخلوق من تراب

 وجانب روحي، أي الجانب القلبي والمعنوي

لذلك فإن  أوامر الله عزّ وجل ونواهيه تنظِّم ظاهر الإنسان وباطنه. وعلى الإنسان تحقيق التوازن والانسجام الدائم بين كلٍّ من الجسد والروح، والعقل والقلب، وبين الأمور المادية والمعنوية، كي يعيش حياة عبودية مقبولة. لأنه لا يمكن إقامة الصلاة، ولا صيام رمضان، ولا القيام بأعمال الخير واكتساب الحسنات بدون جسد، إلا أن الجسد ليس وجود الإنسان الأساسي، وإنما الجسد لباس لتجلي الروح فيه، ويصل الجسد إلى النهاية بخروج آخر نَفَس منه

ولو أمعنا التفكير قليلاً، لأدركنا أن هذه الدنيا كبناء كبير له بابان، وأن أعداداً لا حصر لهم من البشر امتداداً من سيدنا آدم عليه السلام وإلى يومنا هذا قد دخلوا من أحد البابين وخرجوا من الآخر، وكما خُلِقَ الإنسان من تراب فإنه يعود مرة أخرى إليه، وسوف تستمر دورة حياة الإنسان على هذا النحو إلى يوم القيامة. وتحتوي هذه الأرض التي نسير عليها أصلَ كل البشر الذين سيأتون إليها، وتمتلئ أيضًا بأبدان مليارات من البشر الذين عاشوا فوقها وقضوا نحبهم فعادوا إلى ترابها، وكأن بعضهم متراكم فوق بعض، وسوف ندخل نحن أيضًا باطنه لا محالة، ونحتل مكاناً لنا هناك، وسوف تبدأ من بعدها حياةٌ أبديةٌ

وما ينفعنا في رحلتنا الأبدية إنما هو جمالُ القلب وما يدل عليه في الواقع من الأعمال الصالحة، لا القوة البدنية أو جمال الجسد، وفي ذلك يقول مولانا جلال الدين الرومي

لا تنظر إلى الجسد الذي يتمتع بالصحة والقوة، لأن الجسد نهايته الدفن في التراب؛ وإنما اسعَ لملئ قلبك بالروحانيات، لأن القلب هو الذي سيرتقي ويعلو شأنه اعملْ على إشباع الروح بالغذاء المعنوي، وقدِّم فكراً ناضجاً، وفهماً صافياً، لتنتقل الروح إلى اليوم الآخر قوية مطمئنة

إن غاية وجودنا في دار الامتحان الفانية هذه الرجوعُ إلى ربنا عزّ وجل بقلب سليم من رغبات النفس وشهواتها، لذلك أرسل الله عزّ وجل إلى بني آدم الرسلَ والأنبياء، وأنزل عليهم الكتب السماوية

وقد تجلى لطف الله عزّ وجل بالبشر في شخصية نبيِّنا محمد المبعوث أسوةً حسنةً ورحمةً للعالمين

وحياة نبينِّنا الكريم عليه الصلاة والسلام التي كانت تفسيراً حياً للقرآن الكريم مثالٌ لحياة "الإنسان الكامل" الذي أمرنا ربُّنا أن نقتدي به

وقد ذكرَ جعفر الصادق رحمه الله أن علينا الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام الذي جعله الله عزّ وجل قدوةً لنا ليس فقط في سلوكه الظاهري، وإنما ينبغي لنا السير على خطاه بقدر المستطاع والتشبه به من الناحية الأخلاقية. وإن الاكتفاء بالاتباع الظاهري للنبي عليه الصلاة والسلام أمر ناقص في سعينا للوصول إلى رضا الله تعالى، كالطائر الذي يهمُّ بالتحليق بجناح واحد

فمن الأولى معرفة النبي عليه الصلاة والسلام من حيث الجوهر، كما نعرفه من حيث الظاهر؛ أي معرفته بأحواله السامية وأخلاقه الحميدة من

 تقديمه وتفضيله الآخرة على الدنيا

زهده وورعه

 إخلاصه وتقواه

إحسانه ومراقبته لله عزّ وجل

الخشية والشعور بالعجز والضعف أمام تجليات قدرة الخالق عزّ وجل وعظمته، والتفكر في هذه التجليات

  الرقة والأدب في معاملة الناس

 رحمته بكل المخلوقات

 كرمه الذي لا يبلغه أحد، وإيثاره الآخرين على نفسه

إن جوهر التربية الصوفية بذلُ الجهد للاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام في كل أحواله، أي اتباعه في الظاهر والباطن؛ فالتصوف سعي للتحلي بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، والاستنان بسُنَّته، وبذلك يتم إدراك الدين بصورة كاملة على أنه شريعة، وطريقة، وحقيقة، ومعرفة؛ ثم بذل الجهد للعيش وفق هذه المفاهيم. ويمكن لنا أن نفقه دقائق هذه الأمور بالمثال التالي

إن الأكل بعد الشبع إسرافٌ في الشريعة

 والأكل حتى الشبع إسراف في الطريقة

 والأكل إلى حد الكفاية في غفلة عن الله تعالى إسراف في الحقيقة

 وأما في المعرفة- فإضافة إلى ما سبق- يعدُّ الأكل من غير إدراك التجليات الإلهية في النعم إسرافاً، لأن كل الكائنات التي خلقها الله عزّ وجل دليل قاطع على قدرة الخالق وعظمته

فالتصوف سعي للاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام في أخلاقه وأحوال قلبه وتفكره وتدبره

 لقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يربط الحجارة إلى بطنه من شدة الجوع، ولا تُوقَد النار في بيته لأيام، ولم يكن يجد ما يُؤكَل في بيته، ومع ذلك لم يكن يدَّخر لنفسه شيئاً من أموال الدنيا التي تقع بين يديه سوى ما يوفي به دينه، وكان يؤثر غيره على نفسه رغم حاجته، وينفق ما بين يديه على المحتاجين. وكان النبي عليه الصلاة والسلام بذلك يجد لذةً لا تجاريها لذات الدنيا الأخرى. ولم يكن يفكر بتلبية حاجته وحاجة أهل بيته ما دام أن هناك أحد من أصحابه له حاجة إليه. وكان يقول " أمتي أولاً " في كل الأحوال، فلا يهدأ له بال ولا يطيب له خاطر حتى يطمئن على سلامة أمته وأصحابه

والحادثة التالية خير مثال لما ذكرنا

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرَّ أبو بكر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرَّ ولم يفعل، ثم مرَّ بي عمر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرَّ ولم يفعل، ثم مرَّ بي أبو القاسم عليه الصلاة والسلام، فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: "يا أبا هِرٍّ" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "اِلحق" ومضى فتبعته، فدخل، فاستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبناً في قدح، فقال: "من أين هذا اللبن؟" قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: "أبا هِرٍّ" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "اِلحق إلى أهل الصفة فادعهم لي". قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها. فإذا جاء أمرني، فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام بدٌّ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت

قال: "يا أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "خذ فأعطهم" قال: فأخذت القَدَح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليَّ القَدَح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليَّ القَدَح فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليَّ القَدَح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القَدَح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال: "أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "بقيت أنا وأنت" قلت: صدقت يا رسول الله، قال: "اقعُدْ فاشرب" فقعدتُ فشربتُ، فقال: "اشرب" فشربت، فما زال يقول: "اشرب" حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكاً، قال: "فأرني" فأعطيته القَدَح، فحمد الله وسمى وشرب الفَضْلَة. (البخاري: الرقاق، 17)

فنفهم من هذه الحادثة أن أحباب النبي عليه الصلاة والسلام الذين يقتدون بنبيهم الكريم لا يقبلون الدفء إذا كان المؤمنون على وجه الأرض يرتجفون من شدة البرد، ولا يبيتون لياليهم وجيرانهم يتضوَّرون جوعاً، ويهتمون إذا أصاب إخوانهم في الإيمان همٌّ، ويعينون المظلومين وعابري السبيل واليتامى، ويرون في ذلك واجباً ودَيْناً في ذمتهم، وتمتلئ قلوبهم بالرحمة والإشفاق على المخلوقات كلها

فأين نحن من هذا كله؟ وكم قلوبنا رقيقة؟ وما تأثير السلوك النبوي في وجداننا؟ هل يمكننا ببصيرتنا التعرف إلى آلاف المحتاجين من إخواننا المؤمنين بسيماهم، والذين يمنعهم عن سؤال الناس حياؤُهم الشديد على الرغم مما يعانونه من ضيق ذات اليد وشدة الحاجة، فيجلسون في بيوتهم بعفتهم وكرامتهم؟ هل وصلنا إلى مستوى يحملنا على إيثار إخواننا المسلمين على أنفسنا، فبدل القول " نفسي أولاً " نقول " أخي المسلم أولاً "؟

لقد قدم الله عزّ وجل رسولَه لنا على النحو التالي

(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:  128)

فالله عزّ وجل يعبر عن محبة النبي عليه الصلاة والسلام لأمته وعطفه عليهم بصفتين خاصتين به عزّ وجل وهما "الرؤوف" و "الرحيم". وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام يحب أمته ويشفق عليها أكثر من الأم على ولدها، ومظاهر هذه المحبة قد تجلت بمرات لا حصر لها خلال حياته المباركة بين أصحابه

فكان النبي عليه الصلاة والسلام يمشي في مقدمة الجيش عندما يخرج المسلمون في غزواتهم، ليتلقى بصدره الصعاب والمشاق التي يمكن أن يتعرض لها أمته قبلهم، وأثناء العودة كان عليه الصلاة والسلام يمشي في مؤخرة الجيش ليعين الجرحى، ويواسي أصحابه المهمومين، فيشترك معهم في آلامهم وأوجاعهم، فيكون مصدراً للطمأنينة والمواساة لهم

ويؤكد النبي عليه الصلاة والسلام هذه الحقيقة بقوله

أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن تُوفِّي وعليه دَين فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته" (مسلم: الجمعة، 43؛ ابن ماجه: المقدمة، 7)

وكما أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في حياته ساعياً من أجل سلامة أمته، فإنه سوف يكون منشغلاً بهموم أمته من بعد وفاته، ويبين هذا الأمر بقوله عليه الصلاة والسلام

حياتي خير لكم تُحدثون وأحدث لكم، ووفاتي خير لكم تُعرض عليَّ أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم" (الهيثمي: جـ9، ص24)

فنجد مما سبق أن همَّ رسول الله عليه الصلاة والسلام الأكبر كان سلامة أمته ونجاتهم يوم القيامة. فكما أنه قضى حياته كلها وهو يجاهد بنفسه وبكل ما يملك في سبيل نجاة أمته، فإن أمته لا تغيب عن قلبه ولسانه وهو في عالم البرزخ، وهذا يفرض علينا أن نقابل محبته بمحبة مثلها، وذلك دَين لا بد أن يوفِّيه كلُّ مَن تشرف بدعوته وصار من أمته

فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو لأمته بالنجاة وهو في قبره، فكم هي رغباتنا وشهواتنا المستحكمة بأنفسنا؟ وإلى أي درجة نتحلى بالإيثار الذي يفوح من قول نبينا عليه الصلاة والسلام" أمتي، أمتي

وأي جهد بذلناه في سبيل تحقيق كثير من الرغبات التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يذكرها في دعواته من أجل أمته؟ وما الرغبات الدنيوية التي تخلينا عنها من أجل تحقيق رغبة واحدة للنبي عليه الصلاة والسلام؟

وما الحاجات المادية والمعنوية التي استطعنا تلبيتها لأمة محمد عليه الصلاة والسلام؟

وما الجهود التي بذلناها من أجل إنهاء هذا الإنحطاط الذي تعيشه أمتنا على صعد الحياة كافة من دين وأخلاق ومعاملات؟

لقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام العيش الحقيقي عيش الآخرة، وكان هذا دستوره في كل الأحوال سواء في الفرح أو الهم، وفي النصر أو الهزيمة، وفي الفقر أو الغنى، وكان يدعو بالدعاء الآتي

اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا!" .(الترمذي: الدعوات، 79)

فلننظر إلى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام ونتأمل في أحوالنا، ثم نسأل أنفسنا: هل القسم الأكبر من هواجسنا وهمومنا نتيجة المسائل الدينية والأخروية، أم أنها من هموم الدنيا اليومية والطموحات والرغبات النفسية المتقلبة؟

وأين الخوف من "الأنفاس الأخيرة" ومن "اليوم الآخر" والانشغال بهموم "أمة محمد" بين الهواجس والهموم اليومية التي لا حصر لها؟

وما ينبغي أن ننسى أن النبي عليه الصلاة والسلام قد حمَّلنا جميعاً مسؤوليةً عظيمةً تجاه أمته من خلال الأحاديث الكثيرة التي وردت في هذا الشأن. فينبغي لنا الوفاء للنبي عليه الصلاة والسلام الذي وصفه الله تعالى بـ"الرؤوف" و"الرحيم" فننشغل بهموم أمته، ونهتم لأمرها، ونلبي حاجتها، ونبذل الجهد من أجل ذلك بوجه متبسم كما كان وجه النبي عليه الصلاة والسلام. وقد اتفق العلماء المسلمون على وقوع المسلمين في الإثم والمعصية إذا امتنعوا عن رفع الظلم عن المظلومين في أي بقعة من بقاع الأرض إن كانوا قادرين، أو امتنعوا عن تقديم العون لإخوانهم المسلمين الذين يتعرضون للاضطهاد والأسر على يد الأعداء

وإنه لامتحان ربَّاني لنا اليوم ما يتعرض له من الظلم والعدوان والآلام إخوة لنا في بلدان كثيرة مثل ميانمار، وسوريا، وأفريقيا وغيرها من البلدان الإسلامية. وبقدر ما نكون حريصين على أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ونهتم بشؤونها ونؤدي أمانة رسول الله التي في رقابنا، يكون النبي عليه الصلاة والسلام راضياً عنا. أما إن غرقنا في دوامة الأنانية والأهواء النفسية، وأضعنا حقوق إخواننا في الدين، فإننا سوف نُحزِن نبينا ونُسيء إليه

فقد كان هذا الهاجس يشغل بال النبي عليه الصلاة والسلام، وقد قال محذراً أمته

إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها" (البخاري: المغازي، 17؛ مسلم: الفضائل، 31)

وينبغي ألا ننسى بأننا بحاجة إلى الشفاعة الكبرى للنبي عليه الصلاة والسلام يوم المحشر، والاجتماع تحت لواء الحمد عند حوض الكوثر للارتواء من الظمأ الشديد الذي يصيب العباد في ذلك اليوم العظيم. فالبقاء إلى جانب النبي عليه الصلاة والسلام ومعيَّته في ذلك اليوم ضرورة لا بدَّ منها

ويبشِّرنا نبيُّنا عليه الصلاة والسلام بالسبيل إلى تلك المعيَّة بقوله

المرء مع من أحب" (البخاري: الأدب، 96

إلا أن أصل هذه المعية هي معية الحال والعمل والأخلاق، هي معية الإحساس والفكر، وهي-بكلمة جامعة- معية الاستقامة. فمن يهتم بشؤون أمة نبينا عليه الصلاة والسلام، يكون معه يوم القيامة، ومن يؤدي عباداته بخشوع وتضرع يكون معه، ومن يكون رقيقاً في معاملاته مع الآخرين يكون معه عليه الصلاة والسلام

ويوضِّح مولانا جلال الدين الرومي قربَ الناس من رحمة الله تعالى المتجلية في القرآن الكريم والسنة النبوية بالمثال التالي

إن الشمس قريبة من الأغصان اليابسة والأغصان الخضراء على السواء، ولكن كم الفرق كبير عندما يحين موعد نضوج الثمار اللذيذة التي تكون على الأغصان الخضراء وهي تنشر الروائح الزكية حولها؟ وما فائدة قرب الأغصان اليابسة من الشمس سوى أنها تزداد يباساً وتتحول إلى حطب للنار؟"

يقول الله عزّ وجل

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (الإسراء: 82)

فمعيار قربنا الحقيقي من القرآن ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام هو مدى الاستفادة المعنوية من هذا القرب

أتى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام المقبرةَ

مرةً فقال

"السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله، بكم لاحقون، وددت أنَّا قد رأينا إخواننا". فقال الصحابة:  أولسنا إخوانك يا رسول الله؟. قال النبي عليه الصلاة والسلام: "أنتم أصحابي. وإخواننا الذين لم يأتوا بعد". فقالوا:  كيف تعرف من لم يأتِ بعد من أمتك يا رسول الله؟.  فقال عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة، بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟".  قالوا:  بلى. يا رسول الله!.  قال النبي عليه الصلاة والسلام: "فإنهم يأتون غُراً محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض. ألا ليُذادنَّ رجال عن حوضي كما يُذاد البعير الضال. أناديهم: ألا هلم! فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك. فأقول: سحقاً سحقاً" ( مسلم: الطهارة، 39)

فالسبيل إلى لقاء رسول الله عليه الصلاة والسلام وصحبته يوم القيامة إنما هو صحبته في الدنيا بالسير على منهاجه وسنته النبوية. ولا ينبغي الإعراض عن محبته وشوقه الشديد لنا، وإنما علينا مقابلة هذه المحبة بمحبة مثلها وتجديدها، لأن المحبة الحقيقية تجعل في قلوب المتحابين ينابيع من المشاعر والعواطف الجياشة التي تجري بين هذه القلوب

ويكون حال المحب كحال حبيبه، فالمحب يتشبه بمحبوبه على قدر محبته له. وأهم ما ينبغي أن نتعلمه من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أن تكون أحوال قلوبنا كأحوال قلبه على قدر استطاعتنا

فنفهم مما ذكرنا هنا أنه من غير الكافي القول بأني "أحب رسول الله"، فلو أننا نحبه حقاً، فلننظر إلى أي مدى تنعكس هذه المحبة على أخلاقنا وأحوال قلوبنا؟ وما درجة الرحمة والشفقة في قلوبنا، وما درجة أخلاقنا؟ وإذا صرنا إلى حالٍ خُيِّرنا فيها بين الدنيا والآخرة، فهل نستطيع قول: "إنما العيش عيش الآخرة"؟ وإذا تعرضنا لضائقة، فهل يمكن أن نتنازل في سبيل إيثار إخواننا في الدين على ذواتنا؟ أم أن كلامنا وأقوالنا عن المحبة سوف تبقى مجرد ادعاءات لا أصل لها؟

لهذا فإن وقتنا هذا وقتُ مراجعة الذات وإصلاح الأحوال فيما يتعلق بمحبتنا للنبي عليه الصلاة والسلام واتباعنا إياه؛ إنه وقت تحديد أخطائنا ونواقصنا والسعي لتلافيها

اللهم اجعل أحوال قلوبنا كأحوال قلب نبيِّنا الكريم! اللهم زيِّن قلوبنا بمحبته، وحياتنا بسُنَّته، واجعلنا ممن ينالون شفاعته يوم القيامة يا رب العالمين... آمين