جعفر الصادق رحمه الله تعالى - 1

يقول جعفر الصادق رحمه الله تعالى

إن الله تعالى خبأ ثلاثاً في ثلاث

رضاه في طاعته: فلا تحقروا منها شيئاً، فلعل رضاه فيه

وغضبه في معاصيه: فلا تحقروا منها، فلعل غضبه فيه

وخبّأ ولايته في عباده: فلا تحقروا منهم أحداً، فلعله ولي الله

 (أبو طالب المكي: قوت القلوب، 1، 347؛ الغزالي: إحياء علوم الدين، 4، 49)

 ويضيف رحمه الله على ما سبق

وخبأ إجابته في دعائه، فلا تتركوا الدعاء، فربما كانت الإجابة فيه (الغزالي، إحياء، 6، 49)

 فإن رضا الله عزّ وجل يكون مخبأً في أشياء كبيرة تارةً، ويكون في أشياء متوسطة أو صغيرة تارةً أخرى. فعلى الإنسان المؤمن القيام بجميع الأعمال الصالحة دون تمييز في قدرها، سواء كانت هذه الأعمال تبدو في نظره كبيرة أو صغيرة

كان أبو بكر رضي الله عنه قبل أن يصبح خليفةً للمسلمين، يعتني ببنات يتيمات يسكنَّ في جواره، فيرعى لهنَّ أغنامهنَّ، ويقوم بشؤونهنَّ. وبعد أن تولى رضي الله عنه الخلافة على المسلمين ساد اعتقاد بين الناس أنه بتغير ظروف الحياة على أبي بكر وشؤون الخلافة الكبيرة الملقاة على كاهله، سيترك مثل هذه الأعمال التي تبدو في نظرهم حقيرة، إلا أن الأمر بقي على حاله ولم يطرأ عليه أي تغير، واستمر رضي الله عنه في تأدية هذه الخدمة التي علِمَ أنها مقدرة عليه بكل تواضع ورضا

وإذا كنا نؤمن بأن الله تعالى وحده الذي يعلم أي الأعمال الصالحة التي تحبِّب العبد إليه وينال بها رضاه، فلا بد أن نؤمن أيضاً أن أن غضب الله عزّ وجل ربما يتجلى في ذنوب صغيرة، وقد يتجلى في ذنوب متوسطة أو كبيرة، وأمر ذلك عائد إلى الخالق وحده. والإنسان العارف المدرك لهذه الحقيقة يشعر بثقلٍ كثقل الجبال على عاتقه إذا ما ارتكب ذنباً صغيراً بحق أي من العباد. وأما الغافل الشارد عن هذه الحقيقة فلو اقترف أكبر الذنوب فإنه يشعر بها خفيفة على عاتقه، وممتعة لنفسه. ومثل هؤلاء يفنون عمرهم في غمار شهواتهم الدونية، ويتيهون في سكرة غفلتهم ظانين أن أبواب السعادة قد فُتِحَت لهم على مصراعيها

يقول الصحابي الكريم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه ( البخاري: الدعوات، 4؛ مسلم: التوبة، 3)

وانطلاقاً من هذه الرؤية لا يُفَرِّق المؤمن أبداً- سواء فيما يتعلق بالذنوب والمعاصي أو الطاعات- بين صغيرة أو كبيرة فيها، وإنما يبذل قصارى جهده في تجنب المعاصي، والإتيان بالطاعات مهما صغرت. وعلى المؤمن النظر إلى هذا الأمر على أنه امتحان من الله عزّ وجل، وعليه تقييم كل المسائل بفراسة وبصيرة وإحساس بالعبودية المطلقة لخالقه عزّ وجل من صميم قلبه، وبكل كيانه

وعلى المؤمن أن لا يبعد عن ذهنه أبداً القاعدة التالية: عليك أن تَعُدَّ كلَّ من رأيتَ  الخَضِرْ، وكلَّ ليلة ليلةَ القدر

وقد قيَّد اللهُ عزّ وجل فضلَ العبد وعلو شأنه على الآخرين بشرط التقوى، لأن قيمة العبد لدى الله عزّ وجل لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى. والتقوى محلها القلب، وأبواب القلب مغلقة إلا على الله عزّ وجل. وكما أن الإنسان يستحيل عليه الاطلاع على ما في القلوب والعلم بها، فمن البديهي أن يجهل مَن له الفضل والامتياز من العباد. وعلى هذا الأساس فإن  الاستهزاء بعباد الله عزّ وجل، والسخرية منهم، والكِبر والغرور، صفات لا تستقيم مع الأخلاق الإسلامية الحميدة. ويحذِّر المولى عزّ وجل عباده من مثل هذه الأخلاق الرذيلة بقوله

{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} (الهمزة: 1

وقد أشارَ نبينا محمد عليه الصلاة والسلام إلى أصل من الأصول المهمة، إذ قال

كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبَه له لو أقسم على الله لأبرَّه (الترمذي: المناقب، 45/3854

وقال أيضاً

ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف مُتَضعَّفٍ، لو أقسم على الله لأبرَّه" (البخاري: الأيمان 9، التفسير 68/1، الأدب 61؛ مسلم: الجنة، 47

فيظهر لنا من كل هذا أنه على المؤمن بالله أن يُحسِنَ الظن بعباد الله مهما كان حالهم، وأن يعاملهم بأدب وإحسان. وعلينا المداومة -بقدر طاقتنا- على الدعاء إلى الله تعالى، بكل الأدعية التي نعرفها، ابتداءً من تلك الواردة في القرآن الكريم، والمأثورة عن النبي عليه الصلاة والسلام وغيرها، لأننا لا نعلم أي دعاء قد يكون مقبولاً وسبباً في نجاتنا، ونجهل بفضل دعاء أي شخص قد ننال رحمة الله

سُئِلَ جعفر الصادق رحمه الله

ما بالنا ندعو بالدعاء، فلا يستجاب لنا؟

فقال

لأنكم تدعون ذاتاً لم تعرفوه حق معرفته

عندما يتفكر المؤمن بقدرة ربه عزّ وجل وعظمته، يبدأ باكتساب معرفة الله عزّ وجل، فمعرفة الله هي العلم بالله تعالى شعوراً بالقلب، ويقيناً بالعقل. ودرجة قبول الحق تعالى للعبادات مرتبطة بشعور العبد وإحساسه بمعرفة الله تعالى. ويشير الله عزّ وجل إلى ذلك في قوله

{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9)

إن المقصود بالعلم في هذه الآية هو العلم بالله تعالى، أي معرفة الله عزّ وجل

ومن ناحية أخرى، كلما ازدادت معرفة العبد ويقينه بربه، ازداد دعاؤه والتجاؤه إليه. وإخلاص العبد لربه والتوجه إليه بالدعاء والعبادات بقلب صافٍ إنما هو أساس تقربه إلى الله تعالى

وتوضح الآية الكريمة التالية هذه الحقيقة

{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} (الفرقان: 77)

ولهذا فإن المؤمنين العارفين بالله نراهم دائمي الذكر والالتجاء إلى ربهم بالدعاء، فحياتهم كلها قائمة على الدعاء والتضرع سواء في السراء أو الضراء. وابتعاد العبد عن الدعاء إشارةٌ إلى بعده عن الحق. وما أصل كل الذنوب والمعاصي إلا الحرمان من معرفة الله تعالى، أي قلة المعرفة التي تليق بالله عزّ وجل

ذات مرة نبَّه قاسم بن محمد شخصاً عندما سمعه يقول عن رجل ارتكب ذنباً

ما أجرأ فلان على الله تعالى

فقال له قاسم بن محمد

ابن آدم أهون وأضعف ممن يكون جريئاً على الله، ولكن قلْ: ما أقل معرفته بالله (ابن عساكر: تاريخ دمشق، 49، 180)

فالمؤمن العارف بالله تعالى يلتجئ إلى ربه بمشاعر الخضوع، والتذلل، والعجز، ويلتزم حدود الأدب، فيكون عبداً لربه باختياره. يقول الحسن البصري رحمه الله

لا أخشى عليكم من قول: لا يُستَجَاب دعاؤنا، وإنما أخشى عليكم الامتناع عن الدعاء

فتَركُ الدعاء بظن عدم الاستجابة هو وقوعٌ في مكيدة الشيطان، وعليه فإن المؤمن الحق لا ينبغي أن يدع سلاح الدعاء الذي يحميه من الشيطان عدوه الأزلي اللدود، وإنما ينبغي أن يلهج لسانه بالدعاء دائماً ومن صميم قلبه

إن الدعاء عبادة عظيمة إذ إنها أمرُ الله، كما أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول في الأحاديث الشريفة

الدعاء هو العبادة" (رواه الترمذي :3372) . "الدعاء مخ العبادة". (رواه الترمذي :3371). تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة (رواه أبو داود)

يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً" (الترمذي :3556؛ أبو داود، 1488)

"من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة. الدعاء مفتاح الرحمة" (رواه الترمذي :3130)

الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والأرض" ( المستدرك على الصحيحين، ص 162/698/1855)

 وبناء على هذا الحديث فإن في الدعاء مصلحة وفائدة للعبد المؤمن سواء استُجيبَت دعوته أم لم تُستَجَب، ذلك أن بعض الدعاء يُستجَاب في حياة المرء فيكون وسيلة لتحقيق مراده، وبعض الأدعية لا تُستجَاب في الحياة الدنيا لحكمةٍ لا يعلم بها إلا الله ﷻ. فيؤخِّر الله تعالى الاستجابة إلى يوم القيامة وتكون وسيلة لمكافأة العبد في الحياة الأخروية

ويقول الله تعالى في الآيات الكريمة

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: 186)

{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ  دَاخِرِينَ} (غافر: 60)

وخلاصة القول أنه من واجب المؤمن إطاعة أوامر ربه عزّ وجل، وإحاطة نفسه بالدعاء تضرعاً إليه سبحانه وتعالى، لا سيما في ساعات السحر التي هي أوقات استجابة الدعاء، فلا ينبغي حرمان نفسه من الدعاء والاستغفار والذكر لربه تعالى في هذه الأوقات المباركة

يقول  جعفر الصادق رحمه الله

"إن خير العباد من يجتمع فيه خمس خصال: إذا أحسن استبشر، وإذا أساء استغفر، وإذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا ظلم غفر" (ابن شمس الخلافة: الآداب النافعة، ص 14)

فالمؤمن يتلذذ عند القيام بعمل الخير، مع إدراكه أن الأعمال الصالحة وسيلة للطمأنينة، وإذا ما زلَّت قدمه واقترف ذنباً فإنه يسارع إلى التوبة والاستغفار، فلا يعرف الإصرار على الخطأ والذنوب، وهو يعلم أن الإصرار على الذنب صفة من صفات الشيطان، فيتلافى خطأه شاعراً بالندامة في قلبه

ويصف رسول الله عليه الصلاة والسلام لنا طريق الرجوع والتوبة، وتلافي نتائج الذنب المُقترَف

اتَّقِ الله حيثما كنت، وأتبِعْ السيئةَ الحسنة تمحُهَا، وخالِقْ الناس بخلق حسن" (الترمذي: البر، 55/1987)

إن المؤمن الحق يحب الله تعالى أكثر من نفسه، ويقدم طاعة ربه على أهوائه وشهواته. فيقابل النِّعمَ التي تُغدَق عليه بالشكر، والبلاءَ الذي ينزل عليه بالصبر والحمد فلا يجزع لحكم الله أبداً، وهذا هو الشرط الأول للوصول إلى الاطمئنان القلبي والراحة النفسية

ويشير النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذه الصفة في الإنسان المؤمن في الحديث الشريف

عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيراً له؛ وإن أصابته ضرَّاء صبر، فكان خيراً له " (مسلم: الزهد، 64)

يبيِّن لنا هذا الحديث بأنه على المؤمن أن يكون حريصاً في كل الأحوال التي يتعرض لها من خير أو شر على الاستفادة منها لتحقيق سعادته الأخروية. فعلى المرء مقابلة أخطاء الآخرين بالتسامح لوجه الله تعالى، فالله عزّ وجل يعفو ويغفر لعباده دائماً، وعلى المؤمن أن يعمل بإخلاص ليصل إلى حال يكون فيها جديراً بعفو الله عزّ وجل عنه

يقول جعفر الصادق رحمه الله

لا يتم المعروف إلا بثلاثة: بتعجيله وتصغيره وستره" (أبو نعيم: حلية الأولياء، 3، 198)

فلا بد من الإسراع في القيام بأعمال الخير، لأن كثيراً من الموانع قد تطرأ عند  التأخير والمماطلة في تنفيذ الأعمال المرضية لله عزّ وجل، فالشيطان والنفس يوسوسان للعبد دائماً ليتخلَّى عما فكَّرَ به وعزم عليه من أعمال الخير، وإن لم تُفلِح الوسوسة بتخليه عن عمل الخير، فإنهما يسعيان لإفراغ هذا العمل من معناه وتجريده من ثوابه، بإيجاد غايات نفسية وشخصية  لدى القائم بعمل الخير من رياءٍ، وعجب، وكبر

إن العدو الأكبر للأعمال الصالحة هو الغرور، والكبر، والمباهاة. فعلى المرء أن يحيط أعماله بالسرية والكتمان لكي يبتعد عن هذه الخصال السيئة، وإن كانت طبيعة بعض أعمال الخير تقتضي ظهورها أمام الناس، فعلى المرء الإخلاص في عمله لله. ومما يحمي القلب من الغرور والعجب والكبر، استصغارُ ما قام به المرء من أعمال الخير في نظره مهما بلغت هذه الأعمال من الكثرة والأهمية، والإحساس بالتقصير الدائم في عمل الخير. وفي ذلك قال العارفون بالله تعالى: "انسَ شيئين

انسَ حسنات عمل الخير الذي أديته، حتى لا يورثك عملك الغرور، والعجب، والكبر

انسَ أعمال السوء التي تأتيكَ من الناس، حتى لا تورِّث قلبكَ بذور الحقد والضغينة

وقالوا أيضاً: "لا تنسَ شيئين

لا تنسَ ذنوبك وتقصيرك، وانشغل بالتوبة والاستغفار حتى تمنع نفسك من التكبر والغرور

ولا تنسَ إحسان الناس إليك، لكي لا تقع في انعدام الوفاء ونكران الجميل

وخلاصة الكلام أنه على العبد الإقبال بكل كيانه على الأعمال الصالحة لكي لا يبوء بالخسران يوم القيامة، مع مراعاة الإخلاص لله في أعماله بحذر شديد. فإن من سوء تقدير المرء أن يملأ جعبته بالخير الكثير من جهة، ويفرغها من جهة أخرى لفقدانه الإخلاص، فيلقى الله تعالى يوم القيامة صِفرَ اليدَين دون أن يدرك السبب

يقول جعفر الصادق رحمه الله

تتحقق الصداقة بخصائص تتصف بها، فإن رأيت إحدى هذه الخصال في أحد الناس، فاعلم بأنها علامة على الصحبة والصديق الحقيقي: أولى خصال الصداقة، المودة إليك خالية من العوض والغايات؛ "البعد عن المصالح الشخصية". ثانيها، حزن الصديق لحزنك ومصائبك وكأنها واقعة عليه، وفرحه لفرحك وسعادتك. ثالثها، لا تغيره الأموال والملك؛ "يبقى متواضعاً". رابعها، لا يحقد عليك ولا يحسدك بشيء. خامسها، إذا اجتمعت فيه هذه الخصال، فإنه لا يتخلى عنك ولا يتركك في الشدائد" (الصفدي: الوافي بالوفيات، بيروت 1420، 1 ، 100)

 إن أكثر الناس في زماننا هم أصدقاء المنفعة والمصلحة، فينبغي ألا ينخدع الإنسان بالمظاهر الخارجية البراقة للأشخاص، والكلام الذي يجري على ألسنتهم بادعاءات الصحبة والصداقة، بل لا بد من اختبار لهؤلاء النماذج في الظروف الصعبة حيث تنكشف النوايا وتنجلي المواقف الصادقة

ولا ينبغي الحكم على شخص ما دون الاطلاع على هويته الحقيقة، من خلال التعامل واختباره في ذلك

وأهم ثروة يمتلكها الإنسان في هذه الحياة، هو صاحب صادق يحبه في الله، ويحثه على طاعته في ساعات الغفلة، ويفتديه في الشدائد، ويقدم له يد العون والمساعدة إرضاءً لله تعالى

فالصديق الحقيقي يكون "حبيباً، لا حِملاً " أي لا يكون حملاً ثقيلاً على صاحبه، وإنما عكس ذلك، يحرص على تخفيف حمله وهمومه

والصديق الحقيقي مثل النجمة في السماء التي تتلألأ مضيئةً في ظلمات الليالي، فيبذل كل ما بوسعه لينير لصاحبه أيامه المظلمة، ويحزن لحزن صاحبه

فلا ينبغي الوقوع في خطأ الحكم على الصداقة الحقيقية من خلال جلسات القهوة والشاي في أيام الرخاء والسعة، وإنما أصل الصداقة صداقة أيام الشدة والظروف الصعبة

لقد أصبح إيجاد صديق حقيقي أمراً عسيراً في هذا الزمان، فعلى الإنسان المؤمن العمل على جعل نفسه صديقاً حقيقياً لغيره، وأن يكون نموذجاً حياً في سبيل إكثار هذا النوع من الصداقات

يوضِّح جعفر الصادق رحمه الله تعالى حقيقة التعوذ الذي نتلفظ به قبل قراءة القرآن الكريم، إذ يقول

إن التعوذ الحقيقي عند قراءة القرآن الكريم هو حفظ اللسان عن الكذب، وتطهيره من الغيبة والافتراء" . (البورصوي: روح البيان، 10، 515، ( النهل، 100)

 إن المؤمن عندما يتوضأ فينظف فمه استعداداً لتلاوة القرآن الكريم وذكر الله تعالى، يحقق بذلك طهارة ظاهرية، لكن عليه أيضاً الحرص على الطهارة الباطنية من خلال الاستغفار والتوبة عن الطبائع السيئة من الكذب، والغيبة، والافتراء وغيرها، فيطهرها بدموعه وتضرعه إلى ربه عزّ وجل. لأن القرآن الكريم يُتلَى بالأساس من القلب، وإن لم يُتلَ بقلب طاهر، فلا يمكن إدراك فيض معاني القرآن الكريم وروحانيته

وفي تحذير السيدة عائشة رضي الله عنها عِبَرٌ عظيمة إذ تقول

يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب ولا يتوضأ من الكلمة الخبيثة يقولها لأخيه" (ابن أبي شيبة: مصنف، 1، 125)

والحق أن القلب إذا ما فسد بالطباع السيئة، فلا يبقى معنى لنظافة الجسم وجمال المظهر الخارجي. وقد كانت هناك أبيات مكتوبة على باب أحد حمامات إسطنبول القديمة تعبر عن هذا المعنى خير تعبير

إن لم تكن طينتك غير مطهرة

فلست أنت بجسمك خير أمة

والمقصود: إذا كنت ذا صفات سيئة، وإنساناً فاسداً، فلا تأمل خيراً من الحمام! وإذا كنت تريد نظافة تامة، فاغسل قلبك أولاً، ثم اغسل جسمك

ذات يوم غسل إبراهيم بن الأدهم رحمه الله تعالى فم رجل سكران يُدعَى عياشاً، وقد كان يسيل لعابه فتفوح منه رائحة نتنة، فسأله أصحابه عن ذلك، فأجابهم

لو أني تركت هذا اللسان والفم اللذَين خُلِقَا لذكر الله تعالى على حالهما، لكان ذلك سوء أدب مني مع الله سبحانه وتعالى

كان عياش سكراناً عندما نُظِّفَ فمه، ولما أفاق من سكرته قيل له

إن زاهد خرسان إبراهيم بن الأدهم قد نظف فمك

في هذه اللحظات استفاق قلب عياش الذي كان محجوباً عن ذكر الله تعالى وقال

إن كان الأمر كذلك، فها أنا تبتُ إلى الله تعالى

أدعو الله تعالى أن يوفقنا جميعاً إلى تطهير أنفسنا ظاهراً وباطناً، وأن نبلغ رضاه بعبوديتنا له في هذه الحياة الدنيا، ونلقاه بقلب سليم من الأحقاد والضغائن

آمين