صحبة الصالحين والصادقين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة، 119)

 فالآية الكريمة تحمل إشارة إلهية لطيفة بأن معية الله تعالى تبدأ بمعية الصالحين، والتحصن بتقوى الله يبدأ بمصاحبة الصادقين والتقرب منهم

فالاستئناس بأهل القلوب ومصاحبة الصالحين والصادقين هو السبيل لتهيئة القلب أن يتلقى الفيوضات والروحانيات، وكذلك هو السبيل لوقاية القلب من خبث المؤثرات وسهام الدنيا، فيكون القلب في مأمن أمين وحصن حصين، لا يناله إلا الخير؛ إذ هو أضعف الأعضاء مقاومة، وأشدها تأثرًا بما حولها، وأميلها إلى اتباع الدنيا وما فيها مهما كان ما فيها

وهناك حقيقة مهمة عن القلب ينبغي أن نقف عليها ونعيها جيدًا، وهي أنه سريع الانسجام والتأقلم مع الوسط الذي يعيش فيه، فإذا كانت الميول القلبية المحيطة ميولًا إيجابية انحاز إليها، وإذا كانت الميول القلبية المحيطة ميولًا سلبية مال إليها

وكلما كان القلب بعيدًا عن المؤثرات الإيجابية، وبعيدًا عن النضج المعنوي، ظل هدفًا كبيرًا للمخاطر، فالتأثيرات الخارجية في البيئة المحيطة به قد تدفعه إلى قبولها حتى يحبها، أو تدفعه لرفضها حتى يكرهها؛ لذا فإن المحبة والكراهية درجة مهمة من المؤثرات القلبية ينبغي على أهل التربية استخدامها بمهارة، لأنها تؤثر بشدة في الترقية الروحية للإنسان أو حتى في تدنيه

والذي يوصل الإنسان إلى الفوز العظيم هو عقيدة «الولاء والبراء» كما في مصطلح الأصوليين، بمعنى أن نتوجه بالمحبة لِمن يستحقها، ونناصب العداء مَنْ يستحقه، فإذا أخطأت أحد الهدفين وقعت في خطر عظيم

كل ذلك يسهل على المرء فهمه وتنفيذه إذا ما عاش حياته متقربًا من الصالحين، دائرًا في دائرة قطبيتهم، واقعًا في محيط تأثيرهم، مستمدًا من نفحاتهم التربوية، محبًا لهم محبة حقيقية

لكن هذه المحبة إذا افتقدت حقيقتها وبعدت عن عمقها الروحاني فإنها تظل بعيدة بصاحبها عن الوصول إلى الهدف المرجو، والنتيجة المطلوبة

والحادثة الآتية التي مرَّ بها أبو يزيد البسطامي رحمه الله فيها الكثير من العِبر في هذا الموضوع

في يومٍ من الأيام كان الشيخ أبو يزيد البسطامي يمشي في الطريق، وكان أحد الشباب يتعقَّبه ويمشي على إثره، وكان الشيخ يلبس فروًا، فقال الشاب

يا سيدي هلَّا أعطيتنا قطعة من هذا الفرو كي نتبرَّك ونستفيد من فيوضاتكم! فأجابه الشيخ البسطامي إجابة عظيمة

إذا لم تعمل مثل عمل أبي يزيد فلن يفيدك فرو أو حتى جلد أبي يزيد

إنَّ في كائنات الكون جميعها ميلاً للتشبه ببعضها سواء في الهيئات والأشكال أو في الأحوال والأعمال، ومنشأ هذه الحقيقة هو أن هذه الكائنات من أصل واحد، فمثلًا إذا وقعت آنيةٌ مليئة بعطرٍ فوَّاحٍ في زاوية إحدى الغرف، فإن الرائحة المنبعثة ستنتقل من جزيءٍ في الهواء امتص الرائحة كاملة إلى جزيءٍ آخر حتى تصبح جزيئات الهواء في الغرفة كلها مشبعة بهذه الرائحة، وهذه الحالة أحد قوانين الفيزياء المنطبقة أيضًا على المظاهر المتناقضة كلها مثل الحرارة والبرودة، لكن ثمة حاجة لواسطة تحفظ هذا التشابه كي يظهر هذا القانون في الحياة البشرية، وهذه الواسطة ما هي إلا المحبة

وثمة عبارة مشهورة متداولة على ألسنة الناس تقول: «من القلب إلى القلب سبيل»، وهي تؤكد الحقيقة والقانون الذي أسلفناه

وفي طبيعة الإنسان وفطرته ميلٌ إلى التقليد؛ هذا الحس ينشأ مع الطفل منذ نعومة أظافره، ويبقى معه طوال حياته، ويتطور بين القوة والضعف، لكنه يبقى معه لا يفارقه في تصرفاته وأفعاله وميوله وكافة نواحي شخصيته

والشخصيات القوية المؤثرة تصير مصدرًا لإلهام الناس من حولها، ومثالاً يحتذونه، وقدوة يتأسون بها، لاسيما إن كان هؤلاء القدوة من الصالحين والصادقين، الذين يؤثرون بحسن أخلاقهم وصدق أحوالهم وصلاح قلوبهم فيمَنْ حولهم من المقلدين والتابعين والمريدين

ولعل المثال الأعظم على ذلك هو الصحابة الكرام -رضوان الله تعالى عليهم- عندما تحولوا من الجاهلية ودركاتها إلى أسمى درجات الرقي المعنوي ببركة التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وتأثيره الروحاني في شخصياتهم وأفعالهم

والمحبةُ هي السرُّ الأكبر في شدة التأثر والتأسي واتباع القدوة، فها هو المعلم حينما يحبه تلاميذه يسهُل عليهم فهمُ دروسه، ويسلس الدرس مهما كان صعبًا، فالمحبة تجعل من شفقة المعلم عونًا في اجتياز الصعاب، ويجد الطلاب لذة في مواجهة التحديات والتغلب عليها، وها هو العامل يكِدُّ ويكدح في العمل ويلقى فيه المشقة والتعب، لكنه إذا أحب ذلك العمل، تراه يستعذب التعب ويستلذ المشقة؛ بل لا يشعر بقسوة التعب على حقيقته، إنما يجد خفة في ثقل هذا العمل، وراحة في أدائه

وها هو المسلم يغدو إلى صلاة التراويح أو قيام الليل بعد يوم شاق في الصيام، ويؤدي ركعاتها العشرين، لكنه يشعر بروحانية هذه الصلاة وراحة التقرب من ربه، ولا يكاد يحس بشيء من التعب، بينما نجد مَنْ كسل عن العبادة ولم يجد في قلبه محبتها، نجده يستثقل حتى ركعتي الفجر

فالمحبة هي ذلك الإكسير السحري الذي يحوِّل مشقة العبادة إلى لذة الطاعة، ويحوِّل عنت المجاهدة إلى نسمات على الطريق، ويجعل من العوائق رقائق

وعلى الجانب الآخر فإن محبة أهل الغفلة والأنس بأهل الفسق، أكبر خطر يعرضه المرء على قلبه، وعليك المقارنة بين الرياح التي تمر على الحدائق فتحمل معها النسيم العليل والأريج الجميل، والريح التي تمر على الصحاري فتحمل معها الحميم والسَموم

ذلك هو الفارق بين الصحبة الصالحة والصحبة الطالحة

والفارق بين الفئتين هو كما صوره النبي صلى الله عليه وسلم، فصاحب السوء كنافخ الكير تحرقك ناره، ويؤذيك دخانه، وصاحب الخير كحامل المسك يعطيك من أطيابه أو تشمُّ منه رائحة طيبة

وينصح الشيخ عبيد الله أحرار رحمه الله أحبابه متحدثًا عن هذا الموضوع

إن صحبة المتساهلين في الدين والغافلين عن رب العالمين يؤدي إلى فتور القلب، وتشوش الروح، وتعاسة الفؤاد

وفي يوم من الأيام أحسَّ أبو يزيد البسطامي رحمه الله بالقلق داخله، ولم يستطع التخلص من هذه الحال على الرغم من محاولاته، فقال لـمَنْ كان معه في المجلس: انظروا هل بيننا غريب يجلس معنا؟

فبحثوا، لكنهم لم يجدوا أحدًا، غير أن أبا يزيد البسطامي أصرَّ على ذلك وقال

ابحثوا جيدًا، وانظروا حيث العُصي»، ثم بحثوا مرة أخرى ووجدوا عصًا لرجل غافل، فأخرجوها، فعادت طمأنينة القلب لأبي يزيد البسطامي

وفي يوم من الأيام جاء قريب للشيخ عبيد الله أحرار إلى حضرته، فقال له الشيخ

ثمة رائحة غريبة تأتي منك، ثم أضاف قائلاً

«يبدو أنك ترتدي لباس شخص غريب»

فقال الشخص

«نعم، كلامك صحيح»

فذهب وبدَّل ذلك اللباس، ثم عاد

هذه الحالات الطيبة والأحوال الروحانية الراقية، تجعل بين الأخيار رابطة ربانية لا تنفصم رغم بعد المسافات وتطاول الأزمنة؛ بل إن هذه الرابطة تنتقل من الأشخاص إلى الأشياء، وليست في الأحوال الإيجابية فقط؛ بل في النواحي السلبية أيضًا، وها هي الأمثلة التي تؤكد ذلك القانون الروحاني

ذلك الترابط القلبي بين سيدنا يعقوب وابنه سيدنا يوسف عليهما السلام، لقد أحب يعقوب عليه السلام ابنه يوسف عليه السلام أكثر من بقية أبنائه محبةً خاصة لما بينهما من التشابه الأخلاقي نتيجة المعين الواحد الذي يستقي منه كلاهما؛ معين النبوة والاتصال بالمدد السماوي، وبعد الفراق الكبير في الزمان والمكان بين الجسدين لم تفقد الأرواح اتصالها؛ بل إن الأشياء والجمادات الخاصة بهما لم تفقد اتصالها، وها هو قميص يوسف عليه السلام يأتي من مصر إلى بلاد الكنعانيين فيشمه الأب النبي المحب الرباني ويجد فيه ريح ابنه يوسف؛ بل يُلقى عليه القميص، فيرتد بصيرًا سعيدًا مستبشرًا

وكذلك قلب الإنسان الذي هو أشد حساسية ورقة وتأثرًا بالأحوال من الجمادات والأشياء، هو دائمًا في حاجة إلى المحبة اليعقوبية والاتصال اليوسفي، ليمر في مراحل الأسر والعبودية والسجن الدنيوي، حتى يجد الملاذ الآمن في الجنة

وذلك التأثر بالأحوال المعنوية سلبًا وإيجابًا يكون حتى على الجمادات والأماكن، ويقول كبار العلماء في هذا الموضوع

إن أعمال الناس وأخلاقهم تنعكس حتى على الجمادات، ومن هذا المنطلق ثمة فرق كبير في القيمة بين عبادة في مكان ارتُكبَت فيه أنواع مختلفة من الأعمال البذيئة، وبين عبادة أخرى في مكان وُجدت فيه الأعمال الصالحة والخيِّرة، ولهذا السبب تكون الصلاة في حرم الكعبة أرفع بدرجات كثيرة من الصلاة في جميع الأماكن الأخرى

فإذا كانت الكعبة وكان الحرم الشريف مثالاً على التأثر المعنوي الإيجابي، فثمة مثل آخر على التأثر المعنوي السلبي، وهو وادي الحجر، فعندما كان الصحابة الكرام - رضي الله عنهم أجمعين - عائدين من أكثر الغزوات عسرًا ومشقة، وهي غزوة تبوك، مروا في الطريق على ذلك الوادي -وادي الحجر- فأرادوا أن يستريحوا فيه ويستظلوا ويتزودوا بالماء، وكان المكان هو الآثار الباقية من مساكن قوم ثمود، ويروي لنا سيدنا عبد الله بن عمر t ما حصل هناك فيقول

لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحِجر في غزوة تبوك، أمرهم ألا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنَّا منها واستقينا، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم

أن يهريقوا ما استقوا من بئرها، وأن يعلفوا العجينَ الإبل (البخاري، الأنبياء، 17)

إن هذه الحادثة وأمثالها ما هي إلا مثال حيٌّ واحد من بين الأمثلة الكثيرة على انعكاس الحالات الروحانية وانتقالها إلى الجمادات

إن حصول المسلم الـمُجاهِد على الفيوضات -الطاقة المعنوية- التي تؤهله لنيل المزايا القلبية والوصول إلى الكشف يتطلب العمق في صحبة الصالحين، وخاصة الصحبة المعنوية وليست المعية الجسدية فحسب

ويلفت انتباهنا هنا وصيةُ لقمان لابنه حين قال له

يا بُني، عليك بمجالسة العلماء، واسمع كلام الحكماء، فإن الله يُحيي القلب الميت بنور الحكمة كما يحيي الأرضَ الميتة بوابل المطر (أحمد بن حنبل، الزهد، 552؛ الهيثمي، جـ1، 125)

ويوضِّح الحديثُ الشريف الآتي أهميةَ الصحبة والدرجات المعنوية التي تمنحها للمؤمن

ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمَنْ عنده» (أبو داوود، الوتر، 14؛ ابن ماجه، المقدمة، 17)

وعن أبي إدريس الخولاني، أنه قال: دخلت مسجد دمشق فإذا فتى شاب برّاق الثنايا، وإذا الناس معه إذا اختلفوا في شيء أسندوا إليه، وصدروا عن قوله، فسألت عنه، فقيل هذا معاذ بن جبل، فلما كان الغد هجَّرتُ فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي، قال: فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قِبَل وجهه، فسلمت عليه، ثم قلت: والله إني لأحبك لله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله. قال: فأخذ بحبوة ردائي فجذبني إليه، وقال: أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

«قال الله تبارك وتعالى: وجبتْ محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ» (الإمام مالك، الموطأ، الشَعر، 5)

ويقول المولى في الآية الكريمة

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة، 119)

هذه الصحبة والمعية هي السبيل لانتقال التأثير والأحوال، وقوة انتقال الأحوال تكون بحسب عمق المحبة والأنس، ومَنْ أراد المرتبة العليا في الإيمان فعليه بدوام الاتصال والأنس بأهل الكمال من الصادقين والصالحين

وكم هو جميلٌ توضيحُ الرسول صلى الله عليه وسلم لأهمية صحبة الصادقين من خلال هذا التشبيه الرائع

مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكير الحدَّاد، لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه، أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك، أو ثوبك، أو تجد منه ريحًا خبيثة (البخاري، البيوع، 38)

وكما أن صحبة الصالحين في الحياة مهمة، كذلك مجاورتهم في القبر أيضًا مهمة، فقد ذكر جماعة من العلماء استحباب الدفن بجوار الصالحين، ولم يذكروا دليلاً صريحاً على ذلك من السنة، وإنما هو مجرد استنباط من بعض الأحاديث، كما استنبط بعضهم ذلك من حديث

أن موسى عليه الصلاة والسلام لَمَّا حضرته الوفاة سأل ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر (متفق عليه)

وقد بوّب البخاري رحمه الله للحديث بقوله

«باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوهها»

قال ابن بطال: «ومعنى سؤال موسى أن يدنيه من الأرض المقدسة، والله أعلم، لفضل من دُفن في الأرض المقدسة من الأنبياء والصالحين، فاستحب مجاورتهم في الممات، كما يستحب جيرتهم في المحيا، ولأن الفضلاء يقصدون المواضع الفاضلة، ويزورون قبورها ويدعون لأهلها» (شرح ابن بطال، 5/359)

وقال النووي:«وفي هذا استحباب الدفن في المواضع الفاضلة والمواطن المباركة والقرب من مدافن الصالحين» (شرح مسلم، 15/128)

وقد ورد عن غير واحد من السلف وأهل العلم الوصية بالدفن بجوار بعض الصالحين، فقد أوصى ابن مسعود أن يدفن بجنب قبر عثمان بن مظعون رضي الله عنهما. (الثقات لابن حبان، 3/ 208)

وأوصى غالب بن جبريل صاحب الإمام البخاري أن يدفن إلى جنب البخاري. (المتفق والمفترق، 3/201)

وأوصى أبو بكر الخطيب الحافظ أن يدفن إلى جانب بشر بن الحارث.(تاريخ دمشق، 5/34)

ويبيِّن الحديث التالي أهمية تأمين الحاجة من الصالحين

فعن ابن الفراسي، أن الفراسي، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أسألُ يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، وإن كنتَ سائلاً لا بد، فاسأل الصالحين» (أبو داوود، الزكاة، 28؛ النسائي، الزكاة، 84)

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثٍ آخر

إن من الناس مفاتيح لذكر الله، إذا رُؤوا ذُكِرَ الله (الهيثمي، جـ 10، 78)

وعن القاضي شُريح، أنه كتب إلى عمر t يسأله، فكتب إليه

«أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله تعالى فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في كتاب الله تعالى، ولا في سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن في كتاب الله تعالى، ولا في سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقض به الصالحون، فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرًا لك، والسلام عليكم» (النسائي، آداب القضاة، 11/3)

وعن ابن مسعود t أنه قال

«إنه قد أتى علينا زمان ولسنا نقضي، ولسنا هنالك، ثم إن الله عزَّ وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون، فمَنْ عرض له منكم قضاء بعد اليوم، فليقض بما في كتاب الله، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله، فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله، ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله، ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا قضى به الصالحون، فليجتهد رأيه، ولا يقول: إني أخاف، وإني أخاف، فإن الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبين ذلك أمور مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك. (النسائي، آداب القضاة، 11)

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في ترك الشبهات

استفتِ نفسك! استفتِ قلبك... البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك. (أحمد، جـ4 ، 227-228؛ الدارمي، البيوع، 2)

إن في أنفاس العلماء الصالحين ودعوات الرجال الكاملين تأثيرات عجيبة، وتشير الروايات أن أبا أبي حنيفة ثابتًا أهدى الفالوذج [نوع من الحلو] لعلي بن أبي طالب يوم النيروز ويوم المهرجان، فدعا له ولأولاده بالبركة، وكان ثابت يقول

أنا في بركة دعوة صدرت من علي حتى إنه كان يفتخر بأولاده العلماء ويشكر الله على ذلك. البورصوي، روح البيان، (التوبة: 122)

وحين جاء درويشٌ إلى أبي يزيد البسطامي وقال له

«أوصني بعمل صالحٍ يقرِّبني من الله»

فنصحه البسطامي رحمه الله قائلاً

أحبَّ أولياء الله، وأظهر محبتك لهم، وحبَّب نفسك إليهم كي يحبوك، فالله تعالى ينظر إلى قلوب أوليائه سبعين مرة في اليوم والليلة، وعسى أن يغدو اسمك في قلب وليٍّ من الأولياء، فينظر الله إليه فيحبك ويغفر ذنوبك

لذا؛ فإنّ أرسى قواعد التربية الصوفية الحفاظ بقوة وفعالية على«الرابطة»، فيضمن المريدُ السالك والمجاهدُ في الطريق انتسابَه واستمرارَه على المحبة لأهل القلوب الصادقين الصالحين

وتمتد بركةُ هذه الرابطة وعمقُ تأثيرها حتى إلى الذين تنكبوا الطريق، واستهوتهم المعاصي، وساروا في دروب الذنوب، فتنقذهم من مزالق الهاوية، وتحفظهم من حالات الضياع المعنوي، أو القنوط من رحمة الله تعالى، ولا تزال تمدهم ببركتها، وتتنزل عليهم فيوضاتها، فتقيهم من الانجذاب الكامل نحو طريق الغواية، وتشدهم إلى طريق الهداية، فلعل الله يمنُّ عليهم فيعتصمون بحبله

وعندما تشتد هذه المحبة بين المريد وشيخه تتحول إلى تيار متدفق، مثل تيار الماء أو الهواء أو الكهرباء، وتنقل بين الطرفين شحنات موجبة هائلة من التأثير والتأثر والتبادل الروحي، حتى تصل إلى درجة «التشابه» في الشخصية

ورغم أن المُتأثِّرَ الذي يتلقى تيارات العطاء، يتدرج في الترقي عبر فيوضات الشيخ الصالح، إلا أن ذلك الصالح الصادق يصيبه الضرر من ذلك إلى حد ما

فالصالحون الصادقون الذين يقومون بهذه العمليات المتتالية والمركبة والمعقدة من التنظيف المعنوي والتطهير النفسي والتعقيم الروحي، يقومون بتنفيذ معادلات كيميائية وحيوية ذات أهمية كبرى فيما يسميه علماء الطبيعة «التوازن البيولوجي»، أو بكلمات أخرى يقومون بعملية التصفية والتنقية التي تقوم بها أوراق النباتات للهواء في الجو، ثم بعملية «التمثيل الضوئي» لغذاء ذلك النبات؛ أو هم كغلاف طبقة الأوزون التي تحيط بالأرض فتمنع عنها الأشعة الكونية الضارة، ولا تسمح إلا بمرور الأشعة الكونية المفيدة للحياة على ظهر الأرض

ولا تسعنا الأمثلة المتاحة لهذا الدور العظيم الذي يقوم به أهل التربية؛ بل الأدوار المتتالية والدقيقة التي يكونون فيها مثل المستشفى المتكامل الذي يعتني بالمريض المشرف على الموت، ويتابع حالته بدقة وعناية وتمكن فائق، حتى يتحول المريض إلى جسد قوي ذي مناعة

والصالحون الصادقون المعنيون بهذه الصنعة المبهرة والتكليف المعجز، لابد أن ينالوا في مراحل إعدادهم النفسي وتكوينهم الروحي مرحلةً من العزلة والخلوة؛ ليس فقط تقربًا من الله تعالى، وإنما أيضًا بعدًا عن الدنيا وأدناسها وأوضارها

ويفنى المحبُّ في الحبيب حين تقوى المحبة بالأُنس في نهاية المطاف، ويوضِّح مولانا جلال الدين الروميرحمه الله بكلماته التالية هذه الحالة التي تتحقق فقط حين تكون نتيجةَ العشق

حين يصب النهر في البحر يفقد خاصيته، ويمسي جزءًا من البحر الذي صبَّ فيه، والخبز الذي نأكله يذوب في عالمنا الداخلي ويصبح جزءًا من بدننا، والمحبُّ أيضًا يفنى وجودُه في الحبيب بحسب شدة محبته له

ويستمر مولانا الرومي بكلامه مبيِّنًا الحالة الروحية الموجودة في حالة التشابه والفناء بقوله

 أتى العشق ليملأ مثل الدم عروقي وجلدي، وأخذني من ذاتي وملأ وجودي بمحبته، واستولى المحبوب على كل جزءٍ من بدني، ولم يبقَ لي سوى اسمي، أما ما بقي فقد أصبح له

وهذا هو ما يطلق عليه في التصوف «الفناء في الله» و«البقاء بالله»، والسمو إلى درجة «البقاء بالله» أو الرقي إلى مرتبة «الفناء في الله»، يتطلب مراحل طويلة من إعداد القلب وتدريبه وتجهيزه؛ ليكون قادرًا وجديرًا ليتحمل هذا الأمر، عبر التدريب على المحبة البشرية، ليصل إلى كمال المحبة الإلهية والفناء في الله

نعم، إنه الحب البشري؛ بل العشق الذي يسميه المتصوفة «العشق المجازي»، وهو عشق مباح ومطلوب لتحضير القلب وتدريبه، والوصول به إلى العشق الإلهي، وله صور كثيرة كعشق الرجل زوجته

ولتحديد معنى العشق ومستواه يجب أن ننظر في كلام مولانا جلال الدين الرومي الذي يقول

 أنصِف، لتعلم أن العشق أمر رائع، وما يجرحه هو طبائعك السيئة، فقد أطلقت اسم العشق على الشهوة. آه! فلتعلم أن الفرق كبير جدًّا بين الشهوة والعشق

«العشق والوجد الإلهيَّان يجعلان من المؤمن متيقظًا دائمًا، أما العشق الدنيوي والشهواني فهو يجعل الإنسان أحمق أبله، والعشق هو الاحتراق والتخبط في الإنسان الذي خُلق من ماء وتراب، وليس المهم دوران الدم في العروق أي دوام الحياة، بل امتلاء الرئتين بالعشق

وهكذا تكتمل صورة العشق البشري بأن تتماهى ذاتُ المحب في ذات المحبوب؛ حتى تتشابه -إلى أكبر درجة- أشكالُهم، وتتماثل -إلى أدق التفاصيل- شخصياتهم

وعلى الجانب الصوفي عندما يصل المريد في التصوف إلى هذه النقطة في محبته لمرشده، يفنى في وجود شيخه، ويطلق على هذا المقام كلمة الفناء في الشيخ

وكان سيدنا أبو بكر t يعيش في حالةِ وَجْدٍ واستغراق مختلفة في كل مرة يلتقي أو يصحب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين يكون في حضرته، يزيد شوقه ومحبته للرسول بدلاً من أن يسكن ويهدأ

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة

«ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مال أبي بكر»

أما سيدنا أبو بكر الصديق t الذي تجرد من ذاته وفنى في وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال عشقه له، فقد أحسَّ أنه حين تلقى «خطاب» المديح النبوي انفصل عن النبي وصار من الأغيار، وشعر بألم حارق يشبه نيران الافتراق التي تكون في أعماق الروح، فبكى وأصابه قلق من أن يكون من «الغير» وقال

هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله. (ابن ماجة، المقدمة، 11؛ أحمد، 2، 253)

ويقول مولانا جلال الدين الرومي

«ما الذهب وما الروح!... وما اللؤلؤ والمرجان إن لم ينفق على الحبيب ولم يكن فداءً له؟!»

وما أشبه هذه الحقيقة التي نطق بها مولانا الرومي بحالة سيدنا أبي بكر

وحين مرِض سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام، مرض سيدُنا الصديق ولزم الفراش بسبب حزنه على النبي صلى الله عليه وسلم

وبسبب هذا التشابه بينهما قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم

أبو بكر مني وأنا منه، وأبو بكر أخي في الدنيا والآخرة (الديلمي، مسند، 1، 437)

وكان كلام النبي هذا دليلاً على صحبتهما في العالم الروحاني وحالة التدفق القائمة بين قلبيهما

وحين كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراش الموت قال في حقِّ سيدنا أبي بكر

سُدوا الأبواب، إلا باب أبي بكر! (البخاري، أصحاب النبي، 3)

وكان هذا المديح من النبي دليلاً أيضًا على التدفق القلبي بينهما

ويوضِّح الشيخ سعدي الشيرازي سمةَ الانتقال في الأحوال قائلاً

لقد نال كلب أصحاب الكهف شرفًا كبيرًا حين كان مع الصادقين، فقد ورد ذكره في القرآن الكريم وصار جزءًا من التاريخ، في حين وقعت زوجة النبي لوط في الكفر حين صحبت الفاسقين

إن انتقال الحال عن طريق الأُنس بالصالحين والصادقين وما ينتج عنه من «تشابه» هو ما يصفه الشيخ سعدي في كتابه «غولستان» على صورة حكاية تشخيصية

يذهب الرجل إلى الحمام، فيعطيه أحد أصدقائه في الحمام صلصالاً ذا رائحة عطرة كي ينظف جسده، فتنبعث رائحة زكية من هذا الصلصال تلاطف الروح

ثم يسأل الرجلُ الصلصالَ

«أيها المبارك، لقد انتشيتُ برائحتك العطرة، فقلْ لي أأنت مسكٌ أم عنبر؟»

فيجيبه الصلصال

لست مسكًا ولا عنبرًا، فكما تعرفون أنا من تراب مُهمَل، لكنني كنت تحت وردة، وكنت أبتلُّ بقطرات الندى المتساقطة من براعمها. وتلك الرائحة التي كنتم تشمونها وتشرح صدوركم ما هي إلا لتلك الوردة

هكذا تَسرَّب عبير الوردة عبر قطرات الندى إلى حفنات التراب إلى عجين الصلصال إلى أجساد الرجال؛ بل إلى أرواحهم، فما ظنُّنَا بدفقات العشق السارية من قلوب الأولياء والصالحين والصادقين والمربين والمرشدين إلى قلوب ومشاعر المريدين والسالكين؛ لاشك أن هذه القلوب ستصير أشد عبيرًا من بستان الورد بأجمعه

إن القمر الذي يفيض على الأرض نورًا وتلألؤًا وشاعرية، هو نفسه لا يملك شيئًا من ذلك النور ولا تلك الشاعرية، إنه مجرد انعكاس لنور الشمس وناقل لأضوائها، فصار وكأنه جزء من هذه الشمس، وهكذا المريد الذي يحب شيخه، ويصل إلى الفناء في محبته؛ حتى يصبح جزءًا منه فيتلقى من روحانياته ومعنوياته وفيوضاته، ليعكسها ويصبها على الآخرين