الهجرة وغار ثور

بعد أن جاهد النبي صلى الله عليه وسلم قومَه في تبليغهم الدين في مكة ثلاث عشرة سنة، ساقتْه إرادةُ الله تعالى إلى غار آخر أثناء هجرته إلى المدينة؛ وهو غار ثور. غير أن هذا الغار لم يكن من أجل التعلم والتفكر في خلقِ الله كما كان الحال في غار حراء، بل كان مدرسةً معنوية ترقَّى فيها قلب النبي صلى الله عليه وسلم وأحاطت به الأسرار الإلهية

فمكث هنالك ثلاثة أيام بلياليها. غير أنه لم يكن وحيدًا فيها، بل صحبَه أبو بكر الصديق صاحبه وخير الخلق بعد الأنبياء وأرفعهم درجة، فنالَ رضي الله عنه شرفَ صحبة النبي في الغار ثلاثة أيام، وإليه أشار القرآن الكريم في قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}، وله قال نور الوجود صلى الله عليه وسلم

{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [الأنفال: 17]

معلِّمًا إياه المعية الحقيقية مع الله تعالى. وفي ذلك الزمان والمكان كانت بداية تعليم الذكر الخفي الذي يعدُّ من وسائل اطمئنان القلوب بالله سبحانه وتعالى

أي إن ذلك الغار كان بداية التربية القلبية الأساسية التي تنقل العبد من عالَم الأسرار اللامتناهية إلى الوصال مع الله تعالى، وكان أُولى مراحل تلك الرحلة المعنوية

وقد كشفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرار قلبه الذي يعد منبع أنوار أمته أوَّلَ مرة مع سيدنا أبي بكر رضي الله عنه في هذا الغار، فتكوَّنت الحلقةُ الأولى من حلقات «السلسلة الذهبية الصوفية» التي ستدوم دون انقطاع حتى قيام الساعة

إن الإيمان يستمد طاقته من محبة النبي صلى الله عليه وسلم. والدافع الأساسي لكل عملٍ فاضلٍ أو فعلٍ سامٍ إنما هو محبته صلى الله عليه وسلم، والطريق الوحيد للوصال مع الحق تعالى يمرُّ من محبته صلى الله عليه وسلم، ذلك أن شرط المحبة وقانون العشق محبةُ ما يحبًّه المحبوب؛ ومن المُحال إدراك المحبة الإلهية بعقولنا الضيقة فحسب

ولا ريب أن العبارات التالية سيكون لها أثر في كل قلب على حسب جوهره وطاقته

لقد كان سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يجد لذة مختلفة في كل صحبة مع النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان أخص الخواص في أسرار النبوة، وكان يحس بالشوق إلى النبي حتى وهو معه

فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر»

قال: فبكى أبو بكر رضي الله عنه، وقال

«يا رسول الله، هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟!»

فكان قوله هذا دليلًا على تضحيته بنفسه وبكل ما يملك في سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفنائه فيه «وتُسمَّى هذي الحال في التصوف مقام "الفناء في الرسول"». فقد كان رضي الله عنه كثير الإنفاق والبذل في سبيل الله ورسوله، حتى إنه لمَّا حثَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على الصدقة جاء رضي الله عنه بكل ما عنده. ولمَّا سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم

«ما أبقيت لأهلك؟»

قال رضي الله عنه بإيمان راسخ لا يلين

«أبقيت لهم الله ورسوله»

وقد قال معاوية بن أبي سفيان في سيدنا أبي بكر رضي الله عنه

«أما أبو بكر فلم يُرد الدنيا ولم تُرده»

لكن لا بد أن نوضِّح هنا أن تصدُّقَ سيدنا أبي بكر رضي الله عنه بماله كله وعدم منع الرسول صلى الله عليه وسلم إياه عن ذلك أمرٌ استثنائي لا ينطبق على أي مسلم، فقد كان سيدنا أبو بكر وأسرته يتحلون بالصبر الجميل ويتوكلون على الله حق التوكل

والله تعالى وحده كان عونَ هذَين المُسافِرَين الكريمَين وملجأهما ومأواهما وملاذهما

ولمَّا قدِم الأشقياء من كفار قريش الغارَ، ما رأوا سوى بيت العنكبوت، ويقول الشاعر في ذلك

لم يكن العنكبوت في الهواء

ولا في البر، ولا في الماء

ولكن أمام البصائر المُقفلة

التي لا ترى الحق

ووصل الصاحبان الكريمان بحماية الله تعالى ورعايته إلى قُبَاء بالقرب من المدينة، وما إن شرَّفا المدينة التي كان أهلها يترقبونهما شوقًا وتلهفًا، حتى اهتزت المدينة فرحًا وطربًا. وصدحت الحناجر بأنشودة "طلع البدر علينا" لتلامس كلماتُها الآذان فتطرب بها، وتزرع السعادة والفرح في القلوب. وكان ذلك في الثاني عشر من ربيع الأول، وصار ذلك التاريخ بداية  «التقويم الهجري» الذي سيؤرِّخ ما يتلوه من أحداث حتى قيام الساعة

وغدت المدينة المنورة بعد ذلك اليوم مركزًا ينتشر منه الإسلام في أصقاع المعمورة ويرتقي ويعلو كالشجرة الباسقة، وتساقطت أوراق الكفر اليابسة بهذه الهجرة. وصار للمسجد النبوي ومسجد قباء مكانة سامية في قلوب المسلمين، حتى إن كل ناظرٍ إليهما يذكر تلك الهجرة المباركة إلى قيام الساعة

وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أنصار المدينة ومهاجري مكة، وقاسَم الأنصارُ المهاجرينَ أموالَهم وبيوتَهم

غير أن المهاجرين كانوا أهل قناعة وعزيمة، وخير دليل على ذلك قول عبد الرحمن بن عوف -وكان من المهاجرين- للأنصاري الربيع بن سعد الذي أراد أن يقاسمه كل ما يملك

«بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق»

وبذلك تأسست الأخوة في الإسلام التي لن نجد أخوةً مثلها في التضحية والإيثار

ودخلت المدينةُ المنوَّرة التاريخَ الإسلامي من أوسع أبوابه، وصارت قبلةً للمسلمين يأتونها من كل حدب وصوب، فكل شيء فيها يميزها عن غيرها من المدائن: الأذان، والصيام، والعيد، والزكاة