التصوف والعلوم الطبيعية

للوهلة الأولى قد نجد تناقضًا بين التصوف والعلوم الطبيعية، فالعلوم الطبيعية الخاضعة للنتائج المعملية وأبحاث المختبرات بعيدة كل البعد عن العلوم الميتافيزيقية، أما التصوف فهو مغرق فيما وراء الطبيعة

لكن الحقيقة غير ذلك، فكلاهما له هدف واحد، وهو الوصول إلى الحكمةِ من وراء الخَلْق، والعلةِ من وراء الموجودات، وإدراك الأسرار الكامنة في الكائنات، وإشباع شغف الإنسان بالاطلاع الأمثل والأشمل على الكون وخالقه؛ أي الانتقال من عالم المشاهدة إلى عالم الشهود، ومن الـمُلك إلى الملكوت

والعلوم الطبيعية ومكتشفاتها وعالمها المادي هو المرحلة الأولى للوصول إلى عالم الحقيقة، وهو الأدلة الأولى والدائمة على عظمة الخلق وقدرة الخالق

كما أن الإسلام في تعامله مع المخلوقات -عاقلة وغير عاقلة- يهتم بالنواحي الميتافيزيقية كما يهتم بالنواحي الطبيعية، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالرفق ويتعامل به في شأنه كله حتى مع الجمادات، وها هو جذع النخلة الميت يحنُّ إليه، والجمادات في طريقه تسلم عليه

والاكتشافات العلمية كلَّ يوم تقرب المسافة بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، وتوثق الصلة بين الفيزياء والميتافيزيقا، وتنفي كل القواعد الجامدة التي وضعها اللادينيون في العلوم الفيزيائية الطبيعية، فنظرية النشوء والارتقاء وأصل الأنواع محكوم عليها بالإخفاق والقصور من يوم ظهورها، وقانون بقاء المادة وبقاء الكتلة للكيميائي الفرنسي أنطون لافوازييه ذهبت أدراج الرياح بعد تمكن الإنسان من تفتيت الذرة، التي تفتت معها مسلمات قديمة طال النزاع فيها بين العلم والدين حول «قِدَم المادة» وبقائها وفنائها، فأثبت العلم أن ذلك كلَّه مجرد «طاقة»، وأن وجودها «عرضي» مؤقت، وليس بقديم

واكتشاف الجينات وما تحمله من مورثات أو كروموزومات تحتوي على أسرارِ وخصائصِ الشخصية دليلٌ على عظمة الخالق سبحانه، وعلى عظمة كتابه الكريم الذي أشار إلى هذه الحقائق بشكل ميتافيزيقي، ليؤكد لنا الترابط بين العالمين المادي والمعنوي، وليؤكد الصلة بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، ولم يكن التباعد بينهما سوى قصورٍ في العلم، واحتاج اكتشافُ ذلك التقارب أو التواصل إلى مرور الأزمان المتطاولة، واكتشاف حقائق علمية لإدراك حقائق قرآنية معجزة ثابتة وكامنة وراء الألفاظ والتعبيرات القرآنية

لكنَّ المسلمَ الحقيقي مؤمن منذ البداية بعظمة خالقه، كما أنه مقرٌّ بعجز نفسه البشرية عن فهم كل معاني هذه القدرة

وفي القرن التاسع عشر كتب ضياء باشا بيتَين من الحكمة يقول فيهما

سبحان من تحيَّرت في صُنعه العقول

سبحان من بقدرته يُعجِز الفحول

 والمسلم موقن بأن المعجزات الكونية التي يتوالى ظهورها لن تنقطع، وأن تكشُّفها المستمر هو أدلة جديدة ومتجددة تناسب الزمان والمكان والعلوم والأفهام، وأن كل اكتشاف جديد يؤكد عجز الإنسان أمام صُنع الخالق وعظمته، ولا يبقى مفرٌّ له من الاعتراف بالحِكم اللانهائية وراء تلك الصنعة والعظمة، وقد أوضح ضياء باشا هذا العجز البشري خير توضيح حين قال

العقل المحدود لا يطيق ولا يُدرك الغيوب والأسرار

كالميزان الصغير لا يحمل ما ثقل من الأوزان

 وهذا يجعل التصوف مرحلةً متقدمة وتالية للعلوم الطبيعية في بحثه عن أسرار الكون، وسعيه وراء الحكمة الكامنة في الكائنات، وها هو القرآن الكريم يلفت الانتباه في كثير من مواضعه إلى الأسرار والحكم في الكائنات، فقد قال الله عزَّ وجل

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت، 53)

 وتشير كلمة «الآفاق» في الآية الكريمة إلى العالم الخارجي الذي يحيط بالإنسان، أما كلمة «أنفسهم» فهي تشير إلى الحِكَم والعِبَر والأسرار في بنية الإنسان المادية والروحية، ويزيل الله تعالى غفلة العباد، ويستلفت انتباههم بقوله

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج، 46)

(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (الدخان، 38-39)

 ويبين الحق تعالى في آية أخرى -بعد أن أظهر فيض قدرته واستمرارها -أنه قد خلق الإنسان مثل الكائنات الأخرى لغاية

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون، 115)

 ففي كل ذرة من الذرات تجليات رائعة للصنعة الإلهية

 ويمتلك التصوف بفكره ومعنوياته القدرةَ على صياغة تصورٍ كلي شامل يجمع حقائق الكون الطبيعية والميتافيزيقية، ويجعل الإنسان في مركزها، ثم هو يحقق هذا التصور واقعيًا، وينقله من مستوى النظرية إلى مستوى التطبيق عبر أساليبه التربوية المعتمدة أساسًا على «ذكر الله»، ثم الرياضات الروحانية الأخرى

هذه الرياضات التي تمنح العقل والقلب وأدوات الحس قدراتٍ أكبرَ على إدراك العلوم والحكمة من ورائها

ثم إنَّ الكونَ كله في عين المتصوفة ما هو إلا موضع لتجلي وجود الله تعالى وأسمائه وصفاته، وما هذه المخلوقات والموجودات سوى نوع من الإبداع الفني للخالق سبحانه، وإن أبسط المشاهدات التي تتكرر أمام نواظرنا كل يوم بصورة عادية غير ملفتة تحمل في طياتها وظاهرها أعظم المعجزات الناطقة بقدرة الله  تعالى والداعية إلى الإيمان العميق به عزَّ وجل

 فها هي ورقة التوت الخضراء، يأكلها الغزال فيعطينا المسك، وتأكلها دودة القز فتعطينا الحرير

وغيرها، وغيرها من المخلوقات والعطاءات، الورقة واحدة، ولكن الإبداع لا يحصى، فإذا انتقلت إلى غيره من النباتات والأوراق والأعشاب، وجدت الأصل الذي تستمد منه حياتها وغذاءها واحد: الطين والضوء، ثم تختلف ألوانها وأشكالها وطعومها وأريجها، ألا يجعلك ذلك تتوقف مندهشًا أمام إعجاز الله تعالى وقدرته وتجلياته؟

لقد خُلق الكون نتيجة تجلي الأسماء الحسنى، مثلما تجلت في القرآن وفي الإنسان، وما من شيء في الكون خُلق عبثًا، هذا ما يؤمن به أهل التصوف إيمانًا عميقًا

لذا فالتصوف يأخذ بيد العلوم الطبيعية في بحثها عن الحِكمة الظاهرة لله سبحانه في هذا الكون، وهي ذلك التجلي؛ إذ تقف العلوم عاجزة، فلا تدرك تلك الأسرار والحِكم والمعاني، وهنا تلتقي مع التصوف الذي استطاع بالذكر والرياضة الروحانية أن يوسع مداركه، ويطور معارفه القلبية، فيكمل المسيرة في التعرف على الحكمة، وإدراك أسرار التجلي